مرة أخرى، وأمام فظاعة ما يرتكب من جرائم باسم الدين، نود التأكيد على أن قضية التدين تثير مشاكل عديدة مرتبطة بوضعنا العام، فهل استطعنا إبراز تأثيراتها ذات الصلة بالمجال التربوي، للتمكن من استخلاص بذور التجاوز المتاحة الكامنة في طيات هذا الواقع؟ هذا البعد من النقاش لم يعرف بَعْدُ الجدية اللازمة، لِمَدِّ مختلف الفاعلين بالمؤشرات الدالة على المستويات الفعلية للتخلف الكامنة في بنية مجتمعنا، وبالعوامل المساعدة على تلمس مخارج لهذا الوضع. إن أي عمل يتغيى التحقق من مصداقية الفعل أو الطموح التربوي، لن يكون مُوَفَّقا سوى في حالة الأخذ بعين الاعتبار التعقيد الناتج عن وضعية التداخل القائم بين التحديد المفاهيمي لفعل التربية، وما يفرضه واقع التخلف في مجتمعنا من معيقات وإكراهات، وكذا ما يطرحه طموح الفعل التنموي من تحديات ويستشرفه من آفاق. فهل التربية عندنا تقتصر على إعداد الخلف لممارسة نفس الأدوار بمعاودة نفس الصيغ والأساليب المُمَارَسَة، أم أنها تتسع لتشمل نوعا من إدخال التغيير على بعض هذه الأدوار والأساليب؟ وهل البيداغوجيا في واقعنا التربوي تقوم بأدوارها على مستوى تجديد الفهم التربوي وتحديث آليات ضبطه وتوجيهه؟ شعار الإقلاع والتغيير يبقى رهين وجود من يتبناه عمليا وميدانيا، كأسلوب في العيش والتخطيط والتدبير، وكنهج لاندماج الجميع في حياة هذه الأمة، من منطلق محاولة الإجابة عن سؤال أثر إشكالية التدين على الجانب التربوي، الذي يعنى بإنضاج النشء وتحضيره للمستقبل. فسؤال التدين، هو سؤال الإدراك بأن الاعتقاد لا يستغرق سوى جزءا من المحدودية في الأمد، وفعل التدين كحاجة لدى الفرد، يتطلب ضرورة الارتكاز في عملية النهوض بالشأن الديني داخل المجتمع على الحق في الاختلاف وحرية الاعتقاد « لا إكراه في الدين حتى يتبين الرشد من الغي » الآية 256 من سورة البقرة، فهما عماد تحرير المجتمع وتنظيمه؛ تحريره من كل أشكال الوصاية والحجر على الأفراد « وما جعل عليكم في الدين من حرج » الآية 78 من سورة الحج، وتنظيمه من حيث الالتزام باحترام إرادة الفرد واختيار معتقده وتوجيه سلوكاته وتصرفاته، بما لا يتناقض ولا يتعارض مع الإرادة الجماعية في التعاقد الاجتماعي العام. وما ينبغي التركيز عليه في عملية النهوض بالشأن الديني داخل البنية المجتمعية، هو مجموع تلك القيم الخلقية والاجتماعية، التي تحويها المنظومة الدينية وتحملها معها لفائدة الإنسانية. فبناء أي مشروع نتغياه في إطار الاهتمام بالشأن الديني، نريده أن يبدأ من درجة التفاعل الإيجابي مع المعطى الديني كما نشأ وترعرع داخل سقف المدار الإنساني العالمي « قل الله أعبد مخلصا له ديني » الآية 14 من سور الزمر. إن تقديرنا واعتزازنا بالإسلام كعقيدة، نريده أن يرتكز على قاعدة الاستيعاب الواعي لظروف وشروط نزول الوحي، والفهم الموضوعي للسياقات التي طورت مستويات التعاطي الإنساني مع الوحي عبر التاريخ، والقدرة على تملك طابع عصرنا الخاص في إبداع أشكال تديننا المعبر عن التعايش مع تواجد معين لقيم ومثل هوياتية مغايرة لما نعتقد « لا تدري لعل الله يُحْدِثُ بعد ذلك أمرا » الآية 1 من سورة الطلاق . فلا مناص من الإقرار بأن مركز اهتمام سؤال التدين هو الإرادة الإنسانية ذاتها « فأما الإنسان إذا ما ابتلاه ربه فأكرمه » الآية 15 من سورة الفجر. لذلك، عندما يتم تناول الإنسان من زاوية التدين داخل مجتمع ما، معناه أن ليس بالإمكان إقامة علاقات إنسانية داخل المدار الإنساني والكوني إلا على أساس منظومة قيمية أخلاقية واجتماعية، كتعبير عن الوعي بالكرامة « ولقد كرمنا بني آدم وحملناهم في البر والبحر » الآية 70 من سورة الإسراء، وكتعبير عن الوعي بالتحرر من جميع أشكال العبودية الموجودة على الأرض، إذ يقول القاضي عبد الجبار: « إن أحدا من العقلاء لا ينكر كونه قاصدا إلى الفعل ومريدا له ومختارا، ويفصل بين حاله كذلك وبين كونه كارها، ويفصل بين ما يريده من نفسه وما يريده من غيره. ومتى قويت دواعيه إلى الشيء أراده لا محالة، كما أنه إذا صرفه الداعي عن الشيء لم يرده، وربما كرهه » المغني في أبواب التوحيد والعدل، الجزء السادس، ق: 2، ص:8. وكذا على أساس منظومة اعتقادية إيمانية قائمة على إدراك الحق في الاختلاف، الذي تفرزه مركزية الاختيار الإنساني المبني على منطق الجزاء والعقاب « ثم توفى كل نفس ما كسبت وهم لا يظلمون » الآية 281 من سورة البقرة. هذا المنحى في مقاربة سؤال التدين ينبني أساسا على أن الدين يقوم على قاعدة نص مؤسس، يخضع لمنطق التقديس والخلود والتعالي والإطلاقية. والتدين يقوم على أساس الفهم الخاص للنص المؤسس، وعلى قاعدة نصوص محايثة للنص المؤسس. فهي إذا، نصوص من نتاج القراءة والفهم البشري، وبالتالي هي عبارة عن فهوم إنسانية لدلالات النص المؤسس، قابلة لإعادة النظر بين الفينة والأخرى، من منطلق كونها موسومة بالطابع الإنساني الواقعي والنسبي والمحدود في الزمان والمكان « ولا يدينون دين الحق » الآية 29 من سورة التوبة. وعليه، تَوَلَّد في الواقع إشكالان، بخصوص التعاطي مع المسألة الدينية: يكمن الأول في اللجوء إلى إعطاء النص الإنساني المحايث نفس القداسة والخلود والتعالي والإطلاقية التي للنص المؤسس. ويتمثل الثاني في اللجوء إلى انتقاء مناهج الاشتغال، التي يتم التعامل بواسطتها مع هذه النصوص، سواء المؤسسة منها أو المحايثة. وإذا أضفنا الإشكالين إلى بعضهما، أدى الأمر إلى الوصول إلى نقطة الثبات والسكون الدائري المنغلق على ذاته في الزمان والمكان، دون الخطو نحو مساحة التحول والتغير في هذه النصوص بأكملها. إن البحث في مفهوم الكائن محصورا في الإنسان فقط هو السمة الأساسية التي يتميز بها الفكر المعاصر. وإذا كان الفكر الإسلامي في جزء من تجلياته أكد على ذلك، حين تم تفسير الألوهية توحيدا وعدلا من منطلقات إنسانية، وإذا كانت النزعة الإنسانية في الفكر الإسلامي قد وصلت إلى حدود تأسيس مفاهيم الألوهية على بعض المقدمات مما هو متعارف عليه في الشاهد وقياس ذلك على الغائب، وإذا كانت حرية الاختيار في هذا الفكر ذاته قد تمثلت في جوهر الإنسان العاقل المفكر والمكلف، إذ بدون تلك الحرية لا يصح تكليفه، وإذا كان هذا الفكر نفسه قد أثبت للإنسان اقتداره وفاعليته ومشاركته في الفعل على الحقيقة دون المجاز. فإن أية عملية، كيفما كانت مبرراتها، لا يمكنها في نهاية المطاف أن تحد من هذه الفاعلية الإنسانية، ولا أن تتجاوز حرية اختيار الإنسان العاقل المكلف، ولا أن تلغي النزعة الإنسانية كقاعدة للمتعارف عليه في الشاهد. تلك هي مشيئة وإرادة الله في خلقه. وعلى هذا الأساس، إن كان للبعض حق الافتخار بقراءته وفهمه واقتراحاته، بخصوص قضية التدين، فليس من حقه – في المقابل - الانتقاص أو التقليل أو حرمان الآخرين من الإعلان عن قراءات وفهوم واقتراحات مختلفة. فقد تكون ذات حس متميز، والله أعلم بدرجات نسبية الحقائق من الخلق. وعلى هذا الأساس، فالتعبير عن الحق في الاختلاف وحرية الاعتقاد كقاعدة للتدين داخل المجتمع، بإمكانه أن يعمل على تجنيب المجتمع برمته الدعوات الإطلاقية غير المتبصرة، والمؤدية حتما إلى الكوارث الاجتماعية، خاصة على مستوى التعاطي مع فعل التدين. فالباحث مطالب بالانطلاق من أن إنسانية الإنسان إنما تتجسد في عقله وإرادته واقتداره. إذ أنه انطلاقا من العقل ومن الفاعلية الإنسانية، وليس من الخطوط الحمراء الاجتماعية والسياسية والدينية، يتركز الإنسان في ذاته. كما أن الباحث ملزم بتركيز بحثه في أهمية علميته وموضوعيته النسبيتين، للوصول إلى حد المشاركة في صياغة قوانين وقيم عصره، ولا ضرورة للتذكير بأنه بموجب التكليف يكون الإنسان قادرا على خلق أفعاله، وقياسا عليه، يمكن القول: بموجب المسؤولية يكون الباحث قادرا على خلق أفكاره ورؤاه. ومن هنا يمكن التأكيد على أن أمر التنظير للعلاقة بالله، يرتكز بالأساس على توسيع زاوية نظر الفرد، توخيا للموضوعية، ومساهمة في تطوير آليات التفكير والرؤية، وخدمة للمصلحة المجتمعية العامة. وعلى هذا الأساس، يمكن القول إن العقلانية لا تكمن سوى في صهر معطيات التجربة الإنسانية وقوانين العقل في نسق واحد، بعيدا عن أية حواجز رادعة، لا يسوغها سوى منطق الاعتبار المتخوف للهاجس الأمني، الخارج عن سياق الإيمان بمفهوم الاقتدار الإنساني كما اقتضته المشيئة الإلهية ذاتها. فإذا كان للتجربة الإنسانية دور مهم في صياغة المعقولية التي يبنى على أساسها العدل الإلهي، فبالأولى والأحرى حسب منطق دلالة الاقتضاء أن يكون لها دور في صياغة المعقولية التي يتأسس عليها الفكر الإنساني، سواء في شقه الفكري أو السياسي أو الفقهي. فلعصرنا وجغرافيتنا من المقومات والشروط ما يؤهل الإنسان المغربي للمساهمة في صياغة القواعد التي بإمكانها بلورة معقولية متجاوزة لمنطق الاستكانة للماضي. المؤكد هو أن هناك حاجة ماسة في واقعنا المغربي إلى إعادة النظر في الحقل الميداني والمعرفي التربوي، بما يجعلهما قادرين على أن يغطيا مجموع فعاليات الظاهرة الدينية في مختلف أبعادها، وكذا فعاليات الظاهرة التربوية والبيداغوجية، لأن الظاهرتين معا عبارة عن فعالية إنسانية، يتداخل فيها كل ما يتصل بشخصية الإنسان برمتها من معطيات ذاتية ترتبط بالفرد نفسه، ومعطيات موضوعية ترتبط بالمؤسسات والشروط العامة والخاصة التي تمارس في إطارها عملية التربية. فإذا كانت التربية تسعى إلى تكوين المواطنين المنتجين الصالحين المزودين بالقيم والكفايات والحساسيات الاجتماعية، عن طريق تنمية قوى الأفراد واستعداداتهم ومساعدتهم على أن يصلوا إلى أقصى ما يمكن بلوغه من نمو، وعن طريق توفير البيئة الإيجابية الصالحة لذلك، وإذا كانت التربية لا تتحقق كفعل إلا بتعديل سلوك الأفراد واكتسابهم الخبرات في الوجهة الصالحة التي يرضاها المجتمع ويوافق عليها، فهل يعمل كل من المجتمع والدولة على تعديل سلوكاتهما واكتسابهما الخبرات الكافية في الوجهة الصالحة التي يرضاها مواطنوهما؟ وهل يمكن الجزم بأن الإشكال على مستوى الواقع التربوي يكمن في التفكير في نظم التربية وطرائقها بغية تقدير قيمتها، وبالتالي إفادة عمل المربين وتوجيهه؟ أم أنه يتمثل في البحث عن المبادئ الموجهة المستقاة من كافة العلوم لتجعل عمليات الفن التربوي العملي أكثر تطابقا مع العقل، وأكثر انسجاما مع الذكاء؟ أم أن الأمر لا يحتاج إلا إلى القيام بمعاينة دقيقة لمعطيات الواقع؟ أم أن الأمر أعقد من ذلك بحيث يستلزم تفكيرا نظريا رصينا من أجل خلق نوع من الانسجام بين الرأي التربوي والواقع التربوي؟ فمن أين وكيف نقارب واقع مؤسساتنا التربوي بالمغرب، فيما يتعلق بإشكالية التدين، أمن زاوية الإرادة والاختيار، أم من ناحية القدرة والكفاءة؟ أي، هل يمكن للمؤسسة التربوية أن تكون مساهمة إلى جانب باقي المؤسسات الأخرى في النقاش وبلورة الأفكار والآراء والمواقف، أم أننا نريد لها أن تتقوقع على ذاتها ولا تقوم إلا بالمطلوب منها في سياق إعادة إنتاج نفس الأشخاص ونفس القيم ونفس السلوكات ...؟ إن واقعنا التربوي هو جزء من واقعنا الاقتصادي والاجتماعي والسياسي والثقافي العام، وبناء عليه، إن ما يمكن أن يطال هذا الواقع العام من أجوبة وحلول، فهو ملزم بأن يطال الواقع التربوي هو الآخر. ومن ثمة، ألا يمكننا التساؤل حول ما إذا كان هذا الحقل يتطلب نوعا من الإنصاف والاهتمام، بالشكل الذي يجعله مؤهلا للقيام بمهامه في سياق بناء المشروع المجتمعي الديمقراطي الحداثي، وكذا حول ما إذا كان الإصلاح الذي يتم القيام به اليوم في مجال التربية والتعليم يدخل في هذا السياق أم أنه بعيد عنه كل البعد. فسؤال مادة التربية الإسلامية في نظامنا التربوي والتعليمي، هو سؤال مراجعة ونقد وتجاوز أنماط الاعتقاد والتفكير في الحقل الديني والتديني بالمغرب، لا سؤال الاحتفاظ بها كمادة أو التخلي عنها كما يذهب إلى ذلك من اعتاد العمل على توظيف الدين الإسلامي في معمعان العمل السياسي.