(الجزء 2) في الجزء الأول من هذا المقال ("أنت أزرق !".. المغاربة ومحرقة الكوجيطو الفيسبوكي")، لمسنا أن فايسبوك لا ينتج معرفة، ولا يساعد على إيجاد عقل نقدي قادر على فهم وتركيب الأحداث.. فالتأثيرات السلبية لمواقع التواصل الاجتماعي انتقلت من تشكيل الأفكار والاتجاهات إلى تشكيل حياتنا الاجتماعية وعجنها بطريقة مشوهة.. والأمثلة أكثر من أن تحصى.. حب ولقاء فزواج فطلاق، صدمات نفسية بعد رفض X الزواج من Y وقد ظلا على علاقة فيسبوكية لشهور وربما لسنوات.. بل تجد أن خصومات اندلعت هنا وهناك وهنالك بين أشخاص لا يعرف بعضهم بعضا ولو التقى أحدهم الآخر مباشرة في الشارع لن يعرفه، بينما هم على فيسبوك في شقاق عميق.. وحتى الأسر التي كانت تجمعها صينية الشاي وشتتها التلفزيون، بدأت تترحم على أيام شاشة التلفاز، لأنها أرحم من الهواتف الذكية والحواسيب اللوحية التي دمرت كل أمل في اجتماع أنيق للأسرة؛ وترى القوم يسافرون من بلد إلى بلد وبمجرد ما يصلون إلى بيت الوالدين أو الأسرة يسألونهم عن الكلمة السرية للويفي، ويغرقون في تتبع الأخبار ونشر صور الرحلة وغيرها وتبادل الآراء والمستجدات. الأخطر من هذا، أن بعض الجهات صنعت حسابات لفضح البنات ونشر صورهن ومقاطع فيديوهات لهن وهن إما في لقطات عائلية أو "صداقاتية"، أو في أوضاع "نشاط علمي" مباشر ! والملاعين يؤكدون أن نشرهم لتلك الصور والفيديوهات هو بنيّة الإصلاح الاجتماعي، ولا يحتاجون لتحقيق ذلك سوى إلى هاتف غبي بكاميرا، ودماغ مكون من جوارب معتقة من عصر الديناصورات !!! طبعا لا داعي للحديث عن استخدام أجهزة دولية لوسائل الاتصال الاجتماعي لفهم ودراسة وتوجيه الآراء في كل منطقة على حدة.. حتى إن الصحف العالمية المحترمة حينما تفضح جانبا من ذلك تقوم الدنيا ضدها ولا تقعد، ولكم في ما جرى مع إدوارد سنودن وحتى ويكيليكس خير دليل.. فإذا كان فيسبوك وإخوانه لا ينتجون المعرفة بمعناها النقدي العميق، فهل على الأقل يحققون التغيير؟ شخصيا أعتقد أنه سؤال مهم ويحتاج مقالا لوحده.. لكن بشكل عام يمكن القول إن زبناء مواقع التواصل الاجتماعي، المدمنون عليها، يعيشون وهْم أنهم يصنعون التغيير ! لا يكفي أن تتداول صورة للافتة متخلفة تتحدث عن أن الكراسي بالدكان المتواضع في سلا مخصصة للرجال من دون النساء ثم تبادر الأجهزة الأمنية لإغلاق الدكان وتشريد الأسرة بعدما حظيت الصورة بتداول رهيب بين رواد مواقع التواصل الاجتماعي والمواقع المتعطشة للفذلكات، لا يكفي ذلك لأن تعتقد أنك غيرت شيئا.. وانظر أمامك مثلا إلى قضايا انتشار الجريمة والمخدرات وأحياء الصفيح والتسول وانشر عنها ما شئت من الصور والأخبار، وأخبرنا لاحقا هل تغير شيء؟ دوار الحاجة بحي التقدم يعاني سكانه الأمرين بسبب انتشار الجريمة والأسلحة البيضاء والاعتداءات والمخدرات، وهو بالقرب من العاصمة، فلماذا لم يتغير شيء، برغم الكم الهائل من الأخبار والمعطيات التي نشرتها الصحف والمواقع الإخبارية ووسائل التواصل الاجتماعي؟ يمكن القول إن التغيير الذي تحدثه وسائل التواصل الاجتماعي هو تغيير وفق "مقاييس محددة" غير مكلفة، مثل إغلاق دكان علق صاحبه لافتة غبية ! وفي ما جرى في مصر نموذج آخر، علما أن القضية في مصر كانت أخطر وأكبر وتستحق دراسات متخصصة.. فقد أعد وائل غنيم وأصدقاؤه صفحة "كلنا خالد سعيد"، واستقطبت ملايين المعجبين – كنت أحدهم-، وكانت الصفحة إحدى أبرز محطات تنسيق خطوات ثورة 25 يناير 2011، ثم توالت الإعلانات والصفحات لشخصيات شبابية في مقدمتهم أسماء محفوظ صاحبة الفيديو الشهير للنزول في ذلك اليوم، ونوارة نجم نجلة الشاعر الكبير أحمد فؤاد نجم، وأسماء شبابية كثيرة.. ثم ماذا حدث؟ بمجرد أن نجحت الثورة في إسقاط حكم حسني مبارك، اتضح للعيان أن الجيش لن يسلم الأمر لأهله، وبدأت تلك الصفحات تتلكأ في دعم روح الثورة، وشغلت الناس بمعارك جانبية مع خصوم سياسيين وفي مقدمتهم الإخوان المسلمون، حتى تم إسقاط حكم رئيس منتخب (اتفقنا أو اختلفنا حول أدائه)، وحكم العسكر بالحديد والدم، ثم اختفت تلك الصفحات نهائيا - وأشهرها على الإطلاق "كلنا خالد سعيد" - يوم الثالث من يوليوز 2013، يوم الانقلاب.. وكأنها لم تكن.. ثم ماذا وقع بعد ذلك؟ وائل غنيم انتقل للعيش مع أسرته واستثماره، وأسماء محفوظ تزوجت وولدت، ونوارة نجم هي الأخرى تزوجت وخفت نجمها، وخلت الساحة أو كادت من ثوار فايسبوك، بينما امتلأت السجون والمعتقلات بأكثر من 40 ألف معتقل سياسي، وسقط الآلاف قتلى وجرحى ومعطوبون لمعارضتهم للانقلاب العسكري، واغتصبت النساء، وسجن الأطفال والشيوخ، ووصل التعذيب إلى مراحل خطر فصّلت فيها تقارير المنظمات الحقوقية الدولية.. ثم بدأت صور لقاءات شباب الفايسبوك مع العسكر وفي مقدمتهم السيسي تظهر وتكشف كثيرا من الأوراق.. الفيسبوك لا ينتج المعرفة ولا يصنع التغيير، هذه هي الخلاصة، ومن هنا يمكن القول إن زبون الفايسبوك هو الفريسة المثالية لأصحاب المصالح: ثقافة ضحلة، ونفسية مندفعة، وعقلية لا تسعى للتثبت والتأكد.. مثل هؤلاء سهل توجيههم واستخدامهم، وهم بعيدون جدا عن بروفايل أصحاب التغيير. وللعلم، ففايسبوك ورفاقه يتحكمون في ما تنشره، حتى إذا لامست الخطوط الحمراء يسارعون إلى تجميد حسابك أو ربما لإلغائه نهائيا، فعن أي تغيير تتحدث.. لكن هل هذا يعني أن نعتزل التكنولوجيا الحديثة وننفصل عنها؟.. أبدا.. إن التطورات الرهيبة الحاصلة في مجال المعلومة والترويج لها في العالم، جعلتنا نظهر عرايا إزاءها، نستهلك ونروج وننخرط دون فرامل تمكننا من الحفاظ على هويتنا وإنسانيتنا ومصداقيتنا وسط هذا الزخم القاتل.. تلك الفرامل أساسها ثقافة مبنية على عقل نقدي يبحث ويسأل ويقرأ ولا يستسلم لثقافة السندويتش السريع الذي يبدو للعيان لذيذا شهيا، لكنه مليء بالسموم القاتلة.. اقرأ وابحث واسأل وناقش وانفتح، تزود بكل ذلك ثم اسبح في بحر التكنولوجيا كما تشاء وانفع البلاد والعباد.. فالمؤكد أنك لن تضيع الكثير من وقتك، ولن تكون تلك الفريسة السهلة التي تصدق كل ما يقال.. لا تنسى الكتاب، هو السبيل الوحيد لإنتاج عقل قادر على الفهم والتفاعل الإيجابي مع الواقع.. أما الذين يستلذون حياة السندويتشات، وثقافة الماكدو، وحياة الإدمان على وسائل التواصل الاجتماعي، فهؤلاء ليس لنا سوى أن نتمنى لهم إبحارا سعيدا، في زرقة اللامتناهيات.. ورحم الله الأجداد إذ اختاروا اللون الأزرق للدلالة على السطحية والكسل والتبلد، فمن عاش "أزرقا" مات "أزرقا".. ورحم الله أيضا أبا القاسم الشابي إذ قال: ومن يتهيب صعود الجبال *** يعش أبدا الدهر بين الحفر هو الكونُ حيٌّ يحبُّ الحياة *** ويحتقر المَيْتَ مهما كبُرْ فلا الأفْق يحضن ميْتَ الطيورِ*** ولا النحلُ يلثم ميْتَ الزهرْ [email protected]