(الجزء 1) "أنت أزرق" عبارة سواء انتهت بالقاف أو الكاف معقوفة فلها مدلول واحد نحتته عقلية الإبداع المغربي في وصف السلوك الكسول السطحي سواء كان لحظيا أم ممتدا في الزمان؛ لا أحد يعرف على وجه التحديد لماذا اختار الأجداد اللون الأزرق ل"صبغ" المصطلح، فعلى الأقل لو كان كان اللون المختار رماديا لقلنا لأنه مرتبط بالمادة الرمادية في الدماغ، وغيابها أو وجود أي خلل بها يؤثر سلبا على تفكير الشخص ومن ثم سلوكه، أما المغامرة باختيار اللون الأزرق، لون السماء الصافية والبحر الهادئ، فأمر فيه نظر.. المهم اللون ومدلوله عند الأجداد ينطبق تماما على وسائل التواصل الاجتماعي الحديثة، وبينها فايسبوك ذو اللون الأزرق.. والذي يتهدد حياتنا أفرادا وجماعات بزرقة غامقة مخيفة.. والمظاهر أكثر من أن تعد أو تحصى.. فقد يحدث أن ترى أكثر المتحمسين لمواصلة أبحاثهم العلمية، يضعون الكتاب بين أيديهم على أمل إنهاء صفحاته، طبعا بعد إطلالة "قصيرة" على "زرقة" حسابات فايسبوك وتويتر إلخ.. لكن الخبر ذاك خطير يأخذ منه وقت لقراءته هو التعليقات عليه، ويفكر في الإدلاء بدلوه، ثم ما يلبث أن يدخل في نقاشات ساخنة ليقرر بعدها الاطلاع على مواقعه الإخبارية المفضلة.. ومن خبر هنا إلى خبر هناك، ومن مقال هناك إلى مقال هنالك، ومن ذلك التقرير، إلى تلك الأخبار المنوعة الطريفة، يجد عينيه وقد هاجمهما النوم ليكتشف أن ساعات طويلة مرت وهو لم يفتح الكتاب حتى.. أحيانا تقاوم وتقول برغم ذلك سأقرأ 10 صفحات على الأقل تعويضا عما فات، لكن للطبيعة أحكامها، فالنوم لا يرحمك، وعيناك الذابلتان تجبرانك على الاتجاه نحو الفراش، فتضع الكتاب بحزن وتقوم.. مع وعود لا تنتهي بالعودة إليه غدا.. الأمر بلغ من السوء لدرجة أنك ترى الناس داخل المسجد، وبمجرد انتهاء الإمام من التسليم، يسارعون إلى هواتفهم الذكية للاطلاع على آخر مستجدات حسابات التواصل الاجتماعي والمواقع الإخبارية.. وذلك عوض رفع الأكف للدعاء، أو ترديد أذكار ما بعد الصلاة.. والنتيجة؟ أنه تمر شهور وسنة وأنت لم تقرأ سوى 6 دقائق ! طبعا هذا لمن هم أصلا مهتمون بالقراءة والكتب.. وهذه أرقام تقرير أصدرته اليونسكو مؤخرا، وفيه أننا في أوطاننا نقرأ 6 دقائق سنويا مقابل 200 ساعة للفرد في أوروبا وأميركا. وبحسب التقرير، فإن كتابا واحدا يصدر سنويا لكل 12 ألف مواطن عربي وأمازيغي وكردي إلخ، في مقابل 500 كتاب إنجليزي و900 كتاب ألماني. طبعا لا داعي لأن نفصل في الحديث عن عناوين كتبنا التي تصدر، وقد رأيت في مكتباتنا أن العناوين تتنوع ما بين الطبخ وتفسير الأحلام والقضايا الجنسية والقواعد القانونية، طبعا إلى جانب باك الامتحانات.. والمناسبة شرط، لا بد من التذكير مرة أخرى أن كثيرا من المكتبات أغلقت أبوابها في العاصمة الرباط مثلا، وأخرى تحتضر.. وبعض من الكتاب الكبار يضطرون لإصدار طبعات لكتبهم مهمة من حيث المضمون، لكن من حيث الشكل مدمرة، وذلك لأنهم يطبعونها على نفقتهم الخاصة، ولا يريدون المغامرة بالإنفاق على طبعات أنيقة قد لا تجد في نهاية المطاف من يشتريها، فسوق الكتب يعاني في صمت ! ولعل سائلا يسأل: لماذا الحديث عن الكتب؟ الجواب يكمن في سؤال: هل يقدم فيسبوك وإخوانه المعرفة ويمكّن زبائنه من أدوات النقد والبحث؟ وسائل التواصل هي للتواصل، وهي مغرقة في جانب واحد هو السياسة، ثم إن هذا الكم الهائل من المعلومات والأخبار والتعليقات والتفاصيل هي ضخمة لدرجة يستحيل معها الإلمام بجزء واحد منها، فبالأحرى الإحاطة بها كلها؛ وهل رأيتم قشة تقف صامدة أمام تسونامي بحري هائل؟ ثم إن الأخبار والتعليقات تحمل بصمات وأهداف محرريها، بمعنى أنك تستهلك سندويتشا من نفس اليد ومن نفس النوع، وحتى تلم بالفكرة، تبحث عن زوايا أخرى عند بائعي سندويتشات آخرين.. طبعا سندويتشات، لأن زبناء وسائل التواصل الاجتماعي يستحيل عليهم قراءة مقال مطول، فبالأحرى كتاب أو كتب.. إنها حالة إدمان، تستهلك السريع والسهل مهما بلغت درجة تفاهته.. والخلاصة.. جسم معرفي كسول متخم ب"الدهون المعلوماتية"، صاحبها ضائع وسط زحام من التفاصيل يقوم من أمام هاتفه الغبي أو حاسوبه ورأسه مصدع ولا يكاد أضاف شيئا إلى خبرته في الحياة. هل هناك أسوأ من هذا؟ طبعا، الأكثر سوءا موجود، ويمكن تلخيصه في كون زبون وسائل التواصل الاجتماعي لا ينتبه لخطورة السندويتشات القاتلة على حجمه الحقيقي، فيعتقد أنه أصبح - بين عشية وضحاها - مفكرا وقادرا على التغيير ! لذلك تجده يعلق على كل حدث سياسي، وعلى كل سلوك سياسي، وعلى كل حزب سياسي، وعلى كل قائد سياسي، وعلى كل ما يجري في كل مناطق العالم.. والسبب أن سهولة وصول المعلومة إليه، وفراغ عقله من أدوات البحث والتنقيب والنقد والتحليل، وكثرة المعروض التافه أمامه، يجعله يرى في نفسه أسدا، وهو مجرد قط ذو شعر منتفش ! وخطورة هذا الأمر كبيرة، أكتفي بعرض واحد منها: سهولة استخدام هذا النوع من الزبناء المدمنين من خلال ترويج خبر أو صورة أو فيديو معين، وذلك لتحقيق أهداف خاصة لمن يخططون.. قبل فترة انتشرت صورة مفبركة بإتقان تتحدث عن تصريح وزير الداخلية محمد حصاد للجزيرة ينفي فيها وقوع اعتداءات في إنزكان على الطلبة المتدربين وقال إن الفيديوهات التي تظهر ذلك مفبركة.. انطلق صحفيون وناشطون وأشخاص عاديون يشتمون ويلعنون، ولم يتوقف أحد منهم عند الصورة وهل هي صحيحة أم لا، فحصاد لم يتواصل بالمطلق مع الجزيرة ولا هي تواصلت معه.. لحظات بعد ذلك نشر قيادي سياسي شاب صورا تتحدث عن وفاة شاب من المعتدى عليهم في إنزكان، وانتشر الخبر انتشار النار في الهشيم، وقد أخطأ كاتب هذه السطور في مشاركة تلك المادة قبل أن يحذفها وينشر توضيحا على حسابه بعدما كشفت له قيادية في حزب الاتحاد الاشتراكي أن الصورة تتعلق بشاب توفي بنوبة قلبية ولا علاقة له بما حدث في إنزكان.. بعض زبناء فايسبوك – ذكورا وإناثا – يكفي أن تصنع لهم صورة مع تعليق لبنكيران أو ادريس لشكر أو شباط أو غيرهم مغاربة أو عرب أو أجانب، حتى يقوم التيار المؤيد له بكيل عبارات المديح والإشادة، بينما يغرقه المناهضون له بعبارات السب والشتم، ولا أحد من الطرفين كلف نفسه بطرح السؤال: هل الصورة سليمة والتعليق صحيح وصدر فعلا عن الشخص صاحب الصورة أم لا؟ أيضا، ظهرت حسابات مفبركة كثيرة لشخصيات دينية وسياسية على تويتر مثلا، وبعضها ينشر فتاوى مضحكة وغريبة على أساس أنها صادرة عن تلك الشخصية الشهيرة فعلا، ثم تجد الصورة والتعليق قد سارت به الركبان، من تلميذ الثانوي وحتى المتقاعد من التدريس بأعرق الجامعات ! الكل يشتم ويعلق بالسب والقذف في حق اسم الشخصية المظلومة التي أنشأ الحساب باسمها، ولا أحد يتوقف لطرح السؤال الغائب ! وقس على ذلك من الأخبار والمعلومات الشيء الكثير وهو يعد بالآلاف كل يوم ولا يمكن إحصاؤه، حتى إذا انتبهت لمعلومة هنا، تفلت منك معلومة هناك، فالمواقع الإخبارية المدلسة تتكاثر كالفطر، وكل من يستطيع الكتابة يحرر ما تفتق عنه "بطن" دماغه المنتفخ، ومستهلكو الإشاعات والسندويتشات القاتلة موجودون للترويج.. والأمر لا يقتصر فقط على المغاربة، بل إن قنوات إعلامية عالمية في الولاياتالمتحدة مثلا ارتكبت أخطاء فادحة بنقل أخبار نشرتها مواقع إخبارية ساخرة تختلق الأخبار المزيفة، وتبثها هي على أساس أنها أخبار صحيحة، فتنقل عنها الصحف والمواقع وينتشر الخبر/الإشاعة بسرعة البرق ! فهل بعد هذا السوء من سوء؟ مع الأسف نعم.. وهذا ما سنراه في الجزء الثاني من هذا المقال إن شاء الله. [email protected]