يعتبر القانون الفسادَ، وما في معناه من ارتشاء واختلاس للمال العام، جريمة يعاقب مرتكبيها من ممارسي هذا الفساد. هذا من حيث المبدأ. أما هل كل ممارسي الفساد يطالهم العقاب ويُطبّق عليهم القانون، فذاك موضوع آخر. إذن مسألة الفساد، في علاقتها بالقانون والتجريم، بسيطة وواضحة. لكنها تصبح معقدة وإشكالية وملتبسة، عندما يحمي القانونُ نفسه الفسادَ، فيمارسه المستفيدون منه بشكل شبه قانوني لا تترتب عنه متابعة ولا مساءلة. وضمن هذا النوع من الفساد شبه القانوني يمكن إدراج معاشات الوزراء والبرلمانيين أيضا التي أصبحت حديث الساعة في المغرب (نحن في فبراير 2016). فمنذ تسعينيات القرن الماضي، والوزراء يستفيدون، ومدى الحياة مع توريثه لأراملهم وأبنائهم، من معاش شهري بمبلغ تسعة وثلاثين ألف درهم ما لم تكن لهم مصادر أخرى للدخل. وحتى الظهير الملكي الصادر في 1975، المفترض أنه "قانون" ينظّم هذه المعاشات، لم ينشر بالجريدة الرسمية، مما يجعله لا يتوفر على صفة القاعدة القانونية الملزمة، لغياب شرط العلنية والنشر (بالجريدة الرسمية)، المطلوب في كل قانون مكتوب وغير عرفي، مثل الظهير المعني. وبالتالي فلا يمكن الاحتجاج، ضد من يجهل هذا "القانون" ولا يعترف به، بمبدأ "لا يعذر أحد بجهله للقانون"، ليبقى السند "القانوني" لهذه المعاشات غير قانوني، لأنه سند سرّي وغير علني. وهذا لا يعني أن هذا "القانون" سيكون قانونيا لو احترم الشرط الشكلي للنشر والعلنية، بل سيظل غير قانوني لغياب كلي للشروط الجوهرية التي يحددها القانون للاستفادة من المعاشات التقاعدية، وهي: أولا شرط المساهمة المالية الشهرية في صندوق التقاعد، من طرف من سيستفيد من المعاش، وطيلة فترة عمله. والحال أن وزراءنا المعنيين لا يدفعون دانقا واحدا في أي صندوق للتقاعد. وإذا كان البرلمانيون يساهمون في تمويل تقاعدهم بمبلغ 2900 درهم شهريا، إلا أن الدولة تساهم هي كذلك بنفس المبلغ من المال العام، ودون أن يكون لذلك سبب قانوني معقول. أما ما ليس قانونيا ولا معقولا أصلا، فهو أن مساهمات البرلمانيين تخص فقط العدد المحدود من السنوات التي يمارسون فيها مهامهم كمنتخبين برلمانيين، لكنهم يستفيدون، مع ذلك، من معاش مدى الحياة لا يقل عن خمسة آلاف درهم، وهو شيء لا يتناسب بتاتا مع مدة انتدابهم البرلماني، ولا مع حجم مساهماتهم في صندوق التقاعد. ثانيا، يستفيد المتقاعد من المعاش عند بلوغه سن التقاعد المحدد في الستين عاما فما فوق، أو بعد إحدى وعشرين سنة من العمل بالنسبة لمن يختار التقاعد النسبي، كما في نظام الوظيفية العمومية مثلا. والحال أن وزراءنا ونوابنا يتلقون معاشاتهم بمجرد انتهاء ولايتهم الوزارية والبرلمانية، ولو كانوا في ريعان الشباب. ثالثا، أما إذا استحضرنا أن هؤلاء المعاشيين ليسوا لا موظفين ولا أجراء، لأنهم يقومون بعمل لا يسري عليه لا قانون الوظيفة العمومية ولا قانون الشغل، بل يقومون بمهام سياسية تطوعية لا تشّكل مهنة قائمة بذاتها تعطي الحق لممارسيها في الاستفادة من المعاش مثل الموظفين والأجراء، وإنما تعطي لهم الحق في الاستفادة فقط من تعويضات يتلقونها أثناء قيامهم بهذه المهام، وتتوقف بمجرد انتهاء هذه المهام، (إذا استحضرنا ذلك)، فسيكون كل حديث عن المعاش والتقاعد، بالنسبة للوزراء والبرلمانيين، هو خروج عن الموضوع وعن القانون. فهذه المعاشات هي إذن غير قانونية ولا شرعية، وبالتالي فهي غير مستحقة. والاستفادة منها تشكّل إثراء بلا سبب، يُلزم القانونُ بردها إلى مالكها الشرعي الذي هو الخزينة العامة بالنسبة للوزراء، أو صندوق التقاعد بالنسبة للبرلمانيين. يقول الفصل 66 من قانون الالتزامات والعقود: «من تسلم أو حاز شيئا أو أية قيمة أخرى مما هو مملوك للغير بدون سبب يبرر هذا الإثراء، التزم برده لمن أثري على حسابه». والغير هنا هو الشعب والأجراء المموّلون لصندوق التقاعد، لأن تلك المعاشات تدفع إما من المال العام الذي هو مملوك للشعب، أو من مالية صندوق التقاعد. والذي يثري على حساب هذا الغير هم الوزراء والبرلمانيون الذين يحصلون على هذه المعاشات غير المستحقة. ونفس الشيء يبيّنه ويكرره الفصل 75 من نفس القانون الذي ينص على أن «من أثرى بغير حق إضرارا بالغير لزمه أن يرد له عين ما تسلمه». وواضح أن في هذه المعاشات الريعية إضرارا بالشعب وبصندوق التقاعد، صاحبي المال الذي تؤدى منه تلك المعاشات غير المستحقة. إلا أن التكييف القانوني لهذه المعاشات قد يتجاوز حالة الإثراء بلا سبب لتصبح نوعا من الإرشاء لهذا الصنف من السياسيين، لأنها إحقاق لباطل، حسب التعريف الشهير للجرجاني الذي قال عن الرشوة بأنها "ما يعطى لإبطال حق أو لإحقاق باطل". وهو ما يجعل من هذه المعاشات سُحتا وفسادا حقيقيا، لأنها نهب حقيقي ولو أنه مغلّف بغطاء شبه قانوني للمال العام. وعندما تشرّع الدولة نفسها هذا النوع من الفساد وتصدر قانونا (الظهير "السري" الخاص بمعاشات الوزراء) ينظّمه ويحميه، فمعنى هذا أن الفساد يشّكل جزءا من هذه الدولة، بل يشكّل، نظرا للطبيعة المخزنية للدولة المغربية ولخصوصيات نظامها الزبوني الريعي والأبوي كما شرحه جون واتربوري في كتابه "أمير المؤمنين"، أصلا ثابتا في هذه الدولة، وركنا جديدا رابعا من أركانها، ينضاف إلى الأركان الثلاثة التقليدية المعروفة للدولة: الأرض، الشعب والسلطة (انظر موضوعنا "المغرب من أغنى دول العالم" على رابط "هسبريس: http://www.hespress.com/writers/70115.html، وكذلك موضوع "فلسفة الفساد في المغرب" ضمن كتاب "في الهوية الأمازيغية للمغرب" في طبعته الإلكترونية). والأسوأ في مثل هذا الفساد، المعاشي الريعي، أنه يفسد العمل السياسي ويُفقده كل مصداقية وجدية، ويجعل منه ممارسة عبثية بلا جدوى ولا معنى، لأن كل شيء يكون محددا ومعروفا سلفا، سواء كانت الحكومة من الأحزاب المعارضة أو الموالية، اليسارية أو اليمينية، الدينية أو العلمانية... فأمام هذه الإغراءات المعاشية الريعية، يصبح المحرّك الحقيقي للحراك السياسي في المغرب، ليس هو الوصول إلى مناصب السلطة والمسؤولية من أجل المصلحة العامة وخدمة الوطن والشعب، بل لاستخدام هذين الأخيرين من أجل المصلحة الشخصية والاستفادة، بغير حق ولا استحقاق، من المال العام للشعب على شكل رواتب عالية ومعاشات مجانية. وإذا كانت الرواتب المرتفعة جدا للوزراء، مقارنة مع الحد الأدنى للأجور الذي لا يتعدى 2350 درهم في المغرب، مع ما يضاف إليها من منافع وتعويضات ومكافآت مالية أخرى، كافية وحدها لتشكّل ريعا ونهبا شبه قانوني للمال العام، فإن المعاشات المجانية السخية، ومدى الحياة وبعد الممات كإرث للأرامل والأولاد، تشكّل فسادا سياسا، و"شراء" حقيقيا للولاء والخدمة. ذلك أن الفاعل السياسي الذي يقبل بمثل هذه المعاشات، غير المستحقة قانونا، فقد قبل في الحقيقة التنازل عن أية معارضة أو نقد أو رفض للسياسة المتبعة من طرف الحكم، الذي هو ولي نعمته المعاشية. وهذا ما يجعل وجود أحزاب كثيرة بالمغرب في حكم عدم وجود أي حزب، لأن علة وجودها تكون هي خدمة حزب وحيد هو الحكم المخزني، الذي لا يمكن لمسؤولي هذه الأحزاب أن يعارضوه أو يخالفوه، بسبب ما يغدقه عليهم من ريع أجري وهبات معاشية عندما يتقلدون مهام حكومية أو برلمانية، وعندما يغادرونها. فهل يستطيع مثلا "مناضلون" حزبيون سبق أن كانوا وزراء، ويستفيدون من مثل هذه المعاشات غير المستحقة، ومنهم من يتقاضون معاشات استثنائية باعتبارهم كانوا وزراء أولين، أن يعارضوا بجدية السياسة المخزنية التي بفضلها يستفيدون من هذه المعاشات؟ أقول "بجدية" لأن المعارضة الشكلية هي مطلوبة من أصحاب هذه المعاشات، كما قال بصدق أحد "المعارضين" الحزبيين في برنامج تلفزي عندما اعترف أن حزبه يمثّل "معارضة صاحب الجلالة". وهذا يؤكد ما سبق أن صرّح به المرحوم الحسن الثاني عندما قال بأنه سيخلق المعارضة هو بنفسه إن لم تكن موجودة. فمن هذا الوزير، إذن، المنتمي لحزب "معارض"، والمستفيد من معاش مجاني مدى الحياة، الذي سيجرؤ على شق عصا الطاعة بالدفاع عن سياسة، معارضة حقا وصدقا، للسياسة التي يقررها المخزن؟ غير ممكن لا سياسيا ولا أخلاقيا. وهكذا تُفسد هذه الأعطيات المعاشية العمل السياسي، وتقتله بتوحيده وتنميطه وجعله كله ولاء للمخزن ودفاعا عنه، رغم رفع شعارات المعارضة واليسار واليمين والإسلام والعلمانية... إنها تحفيز عام على الفساد السياسي العام. وبذلك تفقد السياسة الحزبية في المغرب معناها ووظيفتها، وتصبح عبثا وتمثيلا من النوع الرديء، الذي تلعب فيه الأحزاب أدوراها المحددة مسبّقا، بشكل نمطي معروف، لا إبداع فيه ولا اجتهاد. فمن هذا الذي سيبدع ويجتهد ضد المخزن وهو يقبل ريعه وهباته المقتطعة من مال الشعب؟ والغريب أن هؤلاء، الذين ينهبون مال الشعب كمعاشات وهبات، لا يشعرون بالحرج ولا وخز الضمير عندما يعلنون أنهم يعملون من أجل مصلحة الشعب، وأنهم ديموقراطيون يحاربون الفساد والاستبداد. يا له من إفك وبهتان. هذا الفساد السياسي يؤدي، بطبيعة الحال، إلى إفساد الأحزاب السياسية وقتل الديموقراطية داخل هذه التنظيمات. ذلك أن الإغراءات الأجرية والمعاشية المرتبطة بالعضوية في البرلمان أو بشغل منصب حكومي سامٍ، تحوّل التزكيات الحزبية للترشح للانتخابات وللاستوزار وحتى للاستسفار (تعيين السفراء) ، إلى سوق للفساد الحزبي، تذبح فيه الديموقراطية من قفاها. وبهذا الفساد الحزبي تكتمل الدورة "الدموية" المنعشة للفساد السياسي، حيث تغذّي شرايين الفساد الحزبي القلبَ النابض للفساد السياسي ككل، والذي بدوره يغذي شرايين الفساد الحزبي. بالنظر إلى طبيعة هذه الامتيازات التي يستفيد منها هؤلاء المعاشيون، من برلمانيين ووزراء، فيبدو أن الوصف المطابق لوضعهم المعاشي الشاذ، هو أنهم يمثلون "المحميين الجدد"، علما أن "المحميين" القدماء هم أولئك المغاربة الذين طلبوا، منذ القرن التاسع عشر، "الحماية" من دول أجنبية وحصلوا عليها، وأصبحوا بموجب تلك "الحمايات" يتمتعون داخل المغرب بامتيازات قضائية وجبائية خاصة بهم وحدهم، لا يشترك فيها معهم بقية المغاربة، مثلما تشكّل "الحمايات" المعاشية، للبرلمانيين والوزراء، امتيازا خاصا بهم لا يشترك معهم فيه بقية المغاربة. والمفارقة أنه بالرغم أن "المحميين" كانوا في الحقيقة غير وطنيين ويعملون ضد وطنهم المغرب، إلا أنهم كانوا، مع ذلك، يتمتعون بمواطنة "زائدة" جعلت منهم مواطنين من الدرجة الأولى، مقارنة بباقي المغاربة كمواطنين من الدرجة الثانية. وكذلك الامتيازات التقاعدية الاستثنائية، الممنوحة "للمحميين الجدد"، تجعل منهم ،عمليا، مواطنين تزيد عندهم "المواطنة" عن باقي المواطنين، الذين لا يستفيدون من أي امتياز خاص بعد تقاعدهم. وهذا تكريس للتمييز واللامساواة بين المواطنين، يضرب مفهوم المواطنة في الصميم، ويؤسس لنوع جديد من الطبقية الريعية، كتلك التي عمل نظام "الحمايات" الفردية على إرسائها. الفرق بين النوعين من "المحميين"، هو أن الأولين صنعتهم القوى الأجنبية الطامعة في المغرب لمحاصرة المخزن وإضعافه. أما "المحميون الجدد" فهم من صنع هذا المخزن نفسه، ومن أجل أن يحموه ويخدموه، وبالشكل الذي يحدده ويريده. المرحوم الحسن الثاني هو الذي قرر هذه الامتيازات المعاشية بعد أن اقتنع أن استشراء الفساد كان وراء المحاولتين الانقلابيتين في 71 و72 من القرن الماضي. ولأن القضاء على الفساد أمر غير ممكن لأنه يعني القضاء على دولة المخزن، التي يشكّل هذا الفساد أحد أركانها، كما سبقت الإشارة، فإن الحل الذي اهتدى إليه، وحتى تستمر الدولة المخزنية ويستمر الفساد الضروري لها، هو توريط وإدماج النخبة السياسة نفسها في الفساد، الشيء الذي يضطرها إلى حماية المخزن وإعادة إنتاجه عبر مشاركتها في الفساد وإعادة إنتاجه. ضمن هذا التوريط والإدماج لهذه النخبة السياسية في الفساد، تدخل معاشاتها التي هي مكافأة على لعبها الدور الذي يريده ويحدده المخزن، كما قلت. ولهذا فالمخزن لم يمت، عكس ما قال أحد الوزراء السابقين. والدليل أنه حي هو أن هذا الوزير السابق قد لا يزال يستفيد، هو أيضا بلا شك، من معاشات مخزنية. وقد وجد الراحل الحسن الثاني في هذا الحل أداة فعّالة كذلك لإدماج المعارضين، الذين كان يُسكتهم بالاعتقال والمحاكمة والسجن. وقد طبّق هذا الإدماج بنجاح ابتداء من حكومة "التناوب" الأولى، عندما أصبح العديد من المعارضين السابقين مسؤولين حكوميين، يتقاضون أجورا عالية مع معاشات مجانية لا زالوا يستفيدون منها. وإذا كان الراحل الحسن الثاني قد ظل حتى آخر أيامه متمسكا بوزيره إدريس البصري، ومفضّلا له على كل وزرائه وخدّامه، فلأنه نجح في إدماج النخبة السياسية، وخصوصا المعارضة منها لسياسة الحسن الثاني، في مستنقع الفساد السياسي، مما أعفى الحسن الثاني من اللجوء إلى الاعتقالات والمحاكمات والسجن لإسكات معارضيه، كما كان يفعل قبل أن ينهج سياسة التوريط والإدماج، التي حوّلت المعارضين إلى موالين للمخزن وخداما مخلصين له. وهذا هو سر تعلّق الحسن الثاني بالوزير إدريس البصري، الذي كان يمثّل وزير الفساد السياسي بامتياز. إذا فهمنا أن الفساد ضروري للدولة المخزنية، سندرك أن القضاء عليه غير ممكن، لأنه يعني القضاء على الدولة نفسها. وهذا ما يفسّر أن جميع السياسيين يقولون بأنهم سيحاربون الفساد عندما يُنتخبون أو يُعينون في مناصب عمومية وحكومية، لكنهم بمجرد تقلدهم لهذه المناصب يعلنون أنه من الصعب القضاء على الفساد. لماذا؟ لأنهم أصبحوا جزءا منه، يحافظون عليه ويعيدون إنتاجه. وكل حكومة جديدة لا تفعل شيئا ضد الفساد، تعززه وتحميه، كما فعلت حكومة السيد بنكيران، التي انتعش الفساد في لايتها بشكل لافت. ولأن الفساد يتخذ أشكالا شبه قانونية، مثل المعاشات الفاسدة، فإن محاربته تتطلب التصدي، أولا، لهذا الصنف من الفساد شبه القانوني الذي يشكّل الفساد الأكبر، لأنه نهب لمال الشعب وإفساد للعمل السياسي، قبل التصدي للفساد الأصغر، المتمثل في الرشوة الممارسة ببعض الإدارات العمومية. هذا فساد أصغر لأن ضرره محدود، والنصوص القانونية التي تجرّمه واضحة وصريحة. أما الفساد الأكبر، مثل المعاشات الفاسدة، فضرره عامّ يمسّ كل الشعب المغربي الذي تقتطع هذه المعاشات من ماله العام، دون حق ولا استحقاق، كما كتبت. فهي تدخل إذن ضمن الفساد الأكبر الذي يُثري نخبة من "المحميين الجدد"، ويُفقر الشعب الذي يؤدي ضريبة هذا النهب شبه القانوني للمال العام، ويزيد من مديونية الدولة التي تتزايد مع تزايد الفساد، الذي يحتاج إلى مزيد من المال لتزايد عدد المستفيدين من هذا الفساد. هذه المعاشات، للوزراء والبرلمانيين، تعطي الدليل على وجود شرخ عميق ومتنامٍ بين النخبة السياسة وبين الشعب، كأن هناك دولتين داخل الدولة: دولة الأقلية الصغيرة المشكَّلة من "المحميين الجدد"، ودولة الأغلبية الكبيرة المشكَّلة من الكادحين ودافعي الضرائب، الذين يموّلون جيوب هؤلاء "المحميين"، الذين يصدق عليهم قول المسيح: «ماذا يكسب المرء إذا ربح الدنيا وخسر نفسه؟». أول خطوة جدية لمحاربة الفساد الأكبر لا بد أن تبدأ، إذن، من محاربة هذه المعاشات الفاسدة. وأول خطوة جدية لمحاربتها تبدأ بتخفيض الرواتب الكبيرة للوزراء التي تمثّل، بالنظر إلى مستوى المعيشة والحد الأدنى للأجور في المغرب، ريعا حقيقيا يتنافى مع متطلبات الدولة الديموقراطية، ذلك أن ديموقراطية دولة ما تتجلّى، أولا وقبل كل شيء، في حماية المال العام وحسن استعماله لمصلحة كل الشعب، وذلك بمراقبة الكيفية التي يجبى ويصرف بها.