قراءة في بلاغة الشعار يختزن الشعار عندما ينطلق معانقا الأصوات الصادحة به الشعور والمشاعر والدماء التي تجري في العروق فيبلغ الفكرة وأحيانا القضية أصدق تعبير وأبلغه ولذلك فقراءته وسيلة لمعرفة أصحابه واستكناه حركتهم وتبين مقصدهم، ولأن البلاغة ليست فقط كما يقول أفلاطون وسيلة تمكن من يتقنها من السيطرة على المخاطب بل هي أيضا وسيلة للتحرر عندما يمتلكها الجمهور ليغيروا قواعد اللعبة لصالحهم، وهكذا استطاع هذا الشعار أن يكون ببلاغته وسيلة من وسائل التحرر التي تؤشر على استجابة بليغة للشعب خاصة في هذا السياق التحرري ولقد استطاع أن يؤكد على دور البلاغة الإيجابي فكيف فعل ذلك؟ الشعار الذي أريد قراءته معكم في هذه المقالة هو ذاك الشعار الذي تأثثت ألفاظه في تونس وانتظمت جملة مفيدة في مصر وترددت معنا ومبنى تضامنا وتمثلا وتشوفا في بلاد أخرى ضاقت على أهلها الأرض بما رحبت من جور الظلم وبطشه. الشعب يريد إسقاط النظام، من أين استمدت هذه الألفاظ سحرها وجاذبيتها؟ وكيف انتشرت فحطمت الحدود الوهمية فملأت الدنيا وشغلت الناس. ماذا يقول الشعار؟ لاشك أن العنصر الأول في قوة ذلك الشعار يكمن في مضمونه القوي الذي يحمله والمتمثل في الرغبة الجامحة للتخلص من ظلم أردف أعجازا وناء بكلكل على الأمة قرونا طويلة طويلة فغيبها وأذلها وسامها صنوف القهر والهوان وتواطأ مع الاستكبار فصيرها له قصعة سهلة المأكل والمشرب، يتحدث الشعار عن الماضي والحاضر والمستقبل، عن الماضي الأليم والحاضر المتحرك والمستقبل المأمول، الماضي الذي سيطر فيه النظام وغاب الشعب أو غيب، والحاضر الذي يريد أن يقطع مع ذلك الماضي، والمستقبل الذي يبني ما هدمه الماضي ويصلح ما أفسد فتعود الكرامة والعزة والحرية. يتحدث الشعار عن الشعب وبلسانه، عن الشعب في الماضي حيث كان صامتا مكبل اليدين يختزن الألم ويتحمل الأذى، وبلسانه في الحاضر حيث يصرخ مستعيدا حريته وإراته ساخرا من أولئك الذين زوروا صوته واستضعفوه وسخروا منه وأعلنوا مرارا وتكرارا أنه معهم وأنهم من يمثله. يتحدث الشعار عن النظام وفقط عنه باعتباره بنية وسلوكا في الماضي عندما علا في الأرض واستضعف الشعب يسرق ثروته ويضيع شرفه ويسلبه كرامته ويعلن على الملأ ما أرى لكم من حاكم غيري وإن المعارضين لي لشرذمة قليلون وإنهم لنا لغائظون، ويتحدث عنه في الحاضر وقد أدركه الغرق صارخا لقد فهمتكم نعم فهمتكم فلكم الكلمة. كيف يقول الشعار كل ذلك؟ العنصر الثاني الذي منح الشعار جاذبيته وانتشاره بناؤه المحكم البليغ فالبلاغة في النظم كما يقول عبد القاهر الجرجاني والشعار جاء محكم النظم بليغا فقد جاء جملة اسمية خبرها جملة فعلية ، وهو لذلك بليغ من جهتين، من جهة أنه جملة إسمية والجملة الإسمية عند علماء اللغة أفضل وأحسن لكونها تدل على منعى أوفى من ذاك الذي تدل عليه الجملة الفعلية، ومن جهة أن خبر المبتدأ جملة فعلية فبعد الثبات والاستقرار يأتي التحول والتغير والحركة، والثابت المستقر هو المبتدأ وهو الشعب، والمتغير الفعل وعندما يرتبط المتغير بالثابت تظهر قيمة الثابت ومحوريته فهو الذي ينبغي أن يكون مصدر الفعل فعليه المعول والمعتمد في الفعل وعندما يكون الفعل إرادة الحياة تكون الحياة. أيضا ومن أسرار هذا الشعار حسن تموضع ألفاظه، فلفظة الشعب تستعيد مكانتها بحسن اختار موضعها حيث تأتي في أول الجملة لتعلن التحرر اللغوي المحرك للتحرر الواقعي الوجودي فبعد أن طال تهميشه وإقصاؤه واعتباره مفعولا به ومجرورا ها هو ذا يرجع مبتدأ حيث كان مكانه الطبيعي، وكما أحسنت لفظة الشعب التموضع أحسنت موضعة الألفاظ الأخرى وياله من إتقان وحسن تصرف عندما أرجعت لفظة النظام إلى آخر الجملة حيث كان ينبغي لها أن تكون، أرجعتها بعد أن سلبتها كل قوة وفاعلية وذلك لأنها منحت الفرص فضيعتها وتصدرت كل الجمل فأفسدتها وأصابتها بالركاكة واللحن والعجمة. وبين الشعب باعتباره كيانا متلاحما موحدا منسجما والنظام باعتباره بنية وسلوكا يوجد لفظان محوريان هما: لفظ يريد الذي يحمل معاني التحرر والحياة والحركية القوية نحو تحقيق ذلك، ولفظ إسقاط الذي تتحدد عبره غاية الإرادة ونقطة انطلاق تحررها، ومن عجيب هذا النظم أن لفظة تريد تأتي بعد لفظة الشعب ملاصقة لها وذلك للدلالة على أن الإرادة تتحول إلى فعل عندما يتحقق الوجود فعندما يوجد الشعب ويكون ويتحرك مريدا يكون له ما أراد في أي زمن أراد كما قال الشابي في بيته المشهورإذا الشعب يوما أراد الحياة، وتعظم روعة النظم عندما تلتصق لفظة إسقاط التي جاءت مفعولا للإرادة بلفظة النظام لتلطخه بما هو بنية وسلوك بكل معاني السقوط حيث يصبح ساقطا أي متأخرا عن الرجال وسقيطا أي لئيما في حسبه ونفسه وسلوكه لنصبح أمام شعار من جزأين هما: الجزء الأول: الشعب يريد والجزء الثاني: إسقاط النظام وكأني بالجزء الأول يردد مع الشاعر قائلا للجزء الثاني : نحن الصميم وهم السواقط لماذا انتشر الشعار؟ كما نجح الشعار لمعانيه وأساليبه القوية التي تتناغم مع النفوس التواقة للحرية نجح الشعار تواصليا فصار على كل لسان تتلقفه كل حركة تحررية وتجعله وقودها الذي تحرك به قوافل زحفها فلماذا انتشر هذا الشعار بهذه القوة؟ - سرعة وصول الفكرة: فالبلاغة بلوغ وسرعة وصول للمتلقي وفكرة هذا الشعار بليغة لأنها تصل بسرعة للمتلقي بمجرد ما ينتهي رافعوه من رفعه، وتتخلص الفكرة في أن الشعب يريد إسقاط النظام الوضوح : فلا إيماءات خفية تسمح للمؤولين خاصة المتخصصين في زخرف القول غرورا بالالتفاف عليه وتضيع معناه، وهكذا فالمعنى واضح يسهل على الجميع تبنيه واستعماله . البساطة: يقال بأن بساطة الشعار سر جماله وهي أيضا سر انتشاره لذلك عبر الشعار الحدود والقارات واندلع في الأفواه كالنار في الهشيم حتى صار على لسان كل مناضل شريف حر. تحديد الأطراف: وأقصد بذلك حسن تمثيله وتعبيره عن مطلب الناطقين به الذين طال تهميشهم وإقصاؤهم وقمعهم وتجمعهم كلمة الشعب من دون تفرقة عرقية أو لغوية أو حزبية، كما أقصد دقة الرسالة ووضوح معناها المتمثل في الرغبة الجامحة والإرادة القوية لإسقاط النظام، وأعني أيضا تحديد المرسل إليه وهو متعدد ومختلف فهو النظام وأتباعه وهو كل الناطقين باسم الشعب من دون شرعية ولا تفويض وهو كل منصت لما يدخل الإيمان بالقضية قلبه، وهو الاستكبار وهو الإعلام.... لا جغرافية ولا مكانية الشعار: وهذه أيضا سبب لانتشار الشعار في أصقاع بلاد الاستبداد فردده التونسيون والمصريون واليمنيون وآخرون كما سمع به المستبدون في أنحاء الأرض فألقى في قلوبهم الرعب فارتبكوا يخربون بيوتهم بأيديهم وأيدي الأحرار، وانظر إلى ما قام به اليمني المفزوع والأردني المرعوب لتجد أن لما ادعيت أكثر من دليل. أخيرا أقول إن الشعب وإن بدا صامتا فهو صمت بلاغة وبيان، وعندما لا يفهم البعض بلاغة الصمت أو يتحايلون على معناها يتحول آنذاك إلى الكلام البليغ والفعل البليغ الذي يحرر ليبني ويشيد، ولكم هو بليغ شعاره الصادح المجلجل في الآفاق: الشعب يريد إسقاط النظام.