في هذا الحوار نقترب أكثر من الانشغالات البلاغية وأسئلتها الراهنية عند الأكاديمي المصري د. عماد عبد اللطيف الذي يعد من الباحثين البلاغيين الجدد الذين برزوا في السنين الأخيرة بشكل لافت. الأستاذ عماد عبد اللطيف يدرس مادة البلاغة وتحليل الخطاب بجامعة القاهرة. درس بجامعة لانكستر الإنجليزية وجامعة القاهرة. حائز على جائزة دبي الثقافية للحوار مع الغرب في دورتها السادسة، وجائزة جامعة القاهرة لأفضل رسالة دكتوراه في العام الجامعي 2008-2009، وجائزة طه حسين في الدراسات اللغوية والنقدية في مصر والعالم العربي، في دورتها الأولى، 2010 . شارك في تأليف موسوعة جامعة أكسفورد للشخصيات الإفريقية البارزة، ويُشرف على ترجمة موسوعة أكسفورد للبلاغة. حاضر في جامعات مصرية وإنجليزية ونرويجية، ونشر بحوثًا أكاديمية بالعربية والإنجليزية، في مصر والمغرب والإمارات العربية المتحدة والبحرين والكويت وعُمَان وهولندا وبريطانيا وفرنسا، وله ثلاثة كتب هي: «لماذا يصفق المصريون؟ بلاغة التلاعب بالجماهير في السياسة والفن»، و» أنا كبير عائلة مصر: البلاغة والسياسة والدين في خطب السادات»، و»تحليل الخطاب البلاغي: أسلوب الالتفات نموذجًا». قدم محاضرة موسومة ب»بلاغة الجمهور ومستقبل الدرس البلاغي « بجامعة عبد المالك السعدي كلية الآداب والعلوم الإنسانية بتطوان، بدعوة من فرقة البحث في البلاغة وتحليل الخطاب التي يشرف عليها الدكتور محمد مشبال، التقينا به على هامش هذا اللقاء وكان لنا معه الحوار التالي: - كيف تقيمون وضع الدراسات البلاغية في الوطن العربي؟ - أظن أن الدراسات البلاغية العربية تعاني من بعض المشكلات الجوهرية؛ فهي ما تزال أسيرة التراث سواء من زاوية المادة التي تدرسها أو من زاوية المناهج والمقاربات التي تستخدمها. كما أن هذه الدراسات تولي جل عنايتها للنصوص العليا مثل الأدب نثره وشعره والقرآن الكريم، وتتجاهل غالبًا نصوص الحياة اليومية التي لا تقل أهمية ولا بلاغة. ويرتبط بذلك حقيقة أن معظم هذه الدراسات تتمحور حول النص فتشبعه تحليلا في حين تُغفل عمليات إنتاجه وتوزيعه والاستجابة له، وهي بذلك غالبًا ما تدور في فلك التأويل وليس في فضاء الوظيفة والأثر البلاغيين. ومن ثمَّ لا تُعنى بدراسة أنسقة العلامات المصاحبة للغة مثل الصوت واللون والإشارة، والتي قد تلعب دورًا أكبر مما تلعبه اللغة في إنجاز وظائف الخطاب. - هل وضع الدراسات البلاغية في الغرب مماثل لوضعها في العالم العربي؟ - لا أعتقد ذلك. فقد شهدت العقود الأخيرة تناميًا مذهلا للدراسات البلاغية الغربية من حيث الكم والنوع والتخصص. فقد ارتادت آفاقًا لم تكن يحلم دارسوها يومًا أن يلجوها مثل بلاغة صفحات الإنترنت، والبلاغة الجنائية، وبلاغة العوالم الافتراضية..إلخ. كما استطاعت أن تقيم تحالفات معرفية مع حقول جديدة مثل علم المعرفة والاتصال والأنثروبولوجيا وتحليل الخطاب. وللأسف فإن الدرس البلاغي العربي ظل معزولا عن معظم هذه التطورات؛ وربما يرجع ذلك إلى التصاق الدرس البلاغي العربي بالتراث وعدم الانفتاح على التطورات البلاغية المعاصرة، والتقدير السلبي الذي يحمله بعض الدراسين لبلاغة خطابات الحياة اليومية، والغياب النسبي للحريات الأكاديمية التي لابد من توافرها لدراسات بعض الخطابات مثل الخطابين السياسي والديني. - هل يمكن توسيع الدرس البلاغي ليشمل الحياة برمتها؟ - أظن أن هذا هو ما تنجزه النظرية البلاغية المعاصرة؛ فالبلاغة في بعض توجهاتها المعاصرة أصبحت علمًا عامًا للخطابات. وبذلك يجد البلاغيون لأنفسهم موطأ قدم في كل الأنشطة التواصلية التي يقوم بها الإنسان، ليس في العالم الحقيقي فحسب، بل حتى في الفضاء الرقمي. وقد أصبح من المألوف الآن أن تُنجز مئات الدراسات في بلاغة الاقتصاد والعلم وصناعة الترفيه وغيرها، وذلك بالطبع إضافة إلى دراسة الخطابات العامة مثل الخطاب السياسي والديني والإعلامي وغير ذلك. } ألا يعد توسيع دائرة عمل البلاغة إلى مواضيع غير مركزية وتوصف أحيانا بالهامشية وجها من وجوه السقوط في تيارات ما بعد الحداثة؟ - هذه ملاحظة ثاقبة. لقد كان من آثار فلسفات ما بعد الحداثة الاهتمام بالخطابات المهمشة أو التابعة ومحاولة وضعها في قلب الانشغال الفلسفي. وقد تأثرت بعض توجهات البلاغة المعاصرة خاصة البلاغة النقدية بفلسفات ما بعد الحداثة خاصة أعمال ميشال فوكوه. لكن معظم التوجهات البلاغية الأخرى التي تعمل على خطابات الحياة اليومية تتحرك في إطار حداثي، فهي معنية بشكل أساسي بدراسة الخصوصيات البلاغية لهذه الخطابات وكيفية عملها، ولا تتكرس نفسها فحسب لإنتاج تأويلات لها كما هو الحال في التوجهات المتأثرة بما بعد الحداثة. - وهل نحتاج نحن في الوطن العربي إلى ما بعد الحداثة في الوقت الذي لم نعش فيه حداثة حقيقية؟ - لدي موقف من معظم الكتابات العربية حول ما بعد الحداثة، التي وقعت في قبضة الموضة الفلسفية من ناحية، وسوء الفهم الناتج عن غياب الرؤية الشاملة أو ضعف الاتصال بالكتب المصادر والاعتماد على مؤلفات ثانوية أو مترجمة. وأظن بوجه عام أن السؤال ما بعد الحداثي لا يعني الكثير للعالم العربي المعاصر؛ فنحن لم نعش حداثتنا بعد. أما فيما يتعلق بالدرس البلاغي فكما قلت فإن معظم التوجهات البلاغية المعاصرة ?ومن بينها توجه بلاغة الجمهور الذي أشتغل عليه- تتحرك في إطار عقلاني منهجي يستهدف إنتاج معرفة علمية منضبطة من ناحية وتحمل على عاتقها مهمة تغيير العالم من ناحية أخرى؛ فهي معرفة نقدية بحسب تصنيف هابرماس للمعارف. - ماذا تقصدون ببلاغة الجمهور؟ - بلاغة الجمهور هو توجه بلاغي هدفه دراسة الاستجابات التي ينتجها الجمهور الذي يتلقى خطابًا جماهيريًا ما، ودراسة الدور الذي تُعزز به هذه الاستجابات من سلطة الخطاب أو تقاومه. فموضوع بلاغة الجمهور إذن هو الاستجابات التي يُنتجها الجمهور أثناء تلقيهم للخطابات الجماهيرية التي تبثها وسائل الإعلام. وهي تُعنى بشكل أساس بالعلاقة بين هذه الاستجابات والسلطة التي يمثلها الخطاب الجماهيري أو يسعى لترسيخها أو إضفاء الشرعية عليها. والغاية الأساسية لها هي تقديم أدوات للجمهور تساعدهم على تطويع استجاباتهم أو تغييرها بما يحقق مصالحهم العامة وليس مصالح المسيطرين على الخطابات الجماهيرية. هذه الاستجابات الجديدة أو المعدَّلة يمكن التعامل معها بوصفها استجابات بلاغية، لأنها تُساعد على تحقيق أهداف الجماهير ومصالحها. - وما هي الأسس النظرية والمعرفية التي تقوم عليها بلاغة الجمهور؟ - يأتي على رأس هذه الأسس النظرية أحد فروع تحليل الخطاب يعرف بالتحليل النقدي للخطاب، وهو معني بدراسة العلاقة بين الخطاب والسلطة. كما أن هناك إفادة من بعض دراسات علوم التواصل المعنية بظاهرة المخاطَب النشط، الذي لا يتلقى الخطاب بشكل سلبي. وأخيرا تفيد بلاغة الجمهور من البلاغة العربية القديمة المعنية بإمداد المتكلم بمعارف تمكنه من إقناع المخاطب أو التأثير فيه، وذلك لأن بلاغة الجمهور تحاول تقديم المعرفة المضادة التي تمكِّن الجمهور من التلقي الناقد لخطاب المتكلم، وإنتاج خطاب بديل أو مضاد.
- هل من أمل في توسيع دائرة الاهتمام بهذه البلاغة ليشمل الجمهور العادي ، في وقت ما زالت الأمية مسيطرة على الشعوب العربية؟ ربما لن تتجاوز هذه البلاغة الأروقة الأكاديمية. - هذا تخوف مشروع. لكنني أثق في أن الإنسان - مهما كانت درجة تعليمه أو حتى كان أميًا- لديه عقل نقدي، ولديه حس يمكنه من تمييز الكلام الصادق من الكلام المخادع؛ ولديه قدر من الجرأة للدفاع عن مصالحه. لكنه يحتاج إلى المعرفة التي تنشط وتحفز ملكته النقدية، ويحتاج إلى التدريب على شحذ قدرته على التمييز بين الخطابات السلطوية التي تسعى للهيمنة عليه والخطابات التحررية التي تستهدف تعزيز حريته، ويحتاج أخيرًا إلى من يعزز من ثقته بقدرته على تغيير الواقع، من خلال قدرته على إنتاج استجابات بليغة. - هل تستطيع البلاغة فعلا أن تحرر الإنسان وهي التي كانت تُستغل دائما لتضليله والسيطرة عليه؟ - هذا هو رهان مشروع بلاغة الجمهور. فعلى مدار قرون عديدة كانت البلاغة الغربية خاصة أداةً يستطيع من يتقن استخدامها أن يسيطر إلى درجة ما على الآخرين. وقد ذكر جورجياس، وهو أحد أشهر معلمي البلاغة في تاريخ اليونان القديمة، في المحاورة التي خصصها أفلاطون لنقد البلاغة أن هؤلاء الذين يعرفون كيف يتكلمون، وكيف يُقنعون الجماهير يتمكنون من تسخير الجماهير لخدمتهم، ويمكنهم بسهولة سلب الجماهير ما تمتلكه. لا يزال الكثير من التصورات والتقنيات البلاغية التي قدمتها البلاغة القديمة مستخدمًا. وذلك على الرغم من أن المهمة التي كان يقوم بها الخطيب قديما (أعني إخضاع الناس لإرادته تمهيدا لاستغلالهم) أصبحت تقوم بها طائفة من التقنيين -مثل محرري الخطاب، وأخصائيي التضليل الإعلامي، وخبراء الدعاية، والمتحدثين بالإنابة، ورجال الدين الرسميين..إلخ. وبلاغة الجمهور هي محاولة لتخليص علم البلاغة من جزء من تاريخه وواقعه غير الأخلاقي من خلال تقويض إمكانيات استخدام اللغة للتلاعب بالجماهير، وجعل علم البلاغة في خدمة الطرف الأضعف في عملية الاتصال الجماهيري؛ أعني الجمهور، مستهدفة زعزعة هيمنة الخطاب ومنشئيه بحيث يصبح الجمهور ممتلكا بشكل فعلي لحرية الإرادة والفعل دون تعرض لخداع أو تضليل. - كيف يمكن لبلاغة الجمهور أن تحرر وعي الجمهور العربي العادي؟ - أظن أن ذلك ممكن من خلال تطوير قدرة الجمهور على التمييز بين خطاب بلاغي سلطوي غايته التحكم في الجمهور والهيمنة عليه لصالح منشئه ويستخدم التضليل والتزييف والخداع لتحقيق ذلك، وخطاب بلاغي غير سلطوي غايته تحقيق اتصال حر. وتقديم معرفة قبلية للجمهور تمكنه في حال تعرضه لخطاب بلاغي ما من الكشف عن تحيزات هذا الخطاب ومبالغاته ومغالطاته ومفارقاته للواقع وتناقضاته الداخلية والأغراض التي يسعى لإنجازها. كما أنها تحاول أن تزيد من وعي الجمهور بطبيعة استجاباته وتدريبه على تطويعها بهدف إنتاج استجابات فعالة إزاء الخطابات المضلِّلة.