من منظور مابعد-كولونيالي خاص بالدراسات الأدبية كشكل من أشكال الخطاب، يمكن التأكيد على أن فهم العديد من المشاريع الثقافية، والاجتماعية، والاقتصادية، والسياسية حول العالم قد انبنى على أطروحات تأخذ بعين الاعتبار الأرشيف الأدبي كمدخل لفهم الظروف والغايات التي ولدت أشكالا أدبية معينة ذات مواضيع خاصة خلال لحظات بعينها من التاريخ. وعلى سبيل المثال، لم تستطع البلدان الامبريالية نفسها، وحتى غيرها من مستعمراتها السابقة، فهم آليات اشتغالها إلا مع ظهور دراسات أدبية جادة تنطلق من الإبداع الأدبي بوصفه كخطاب يأخذ شكلا معينا ويتمظهر من خلال أجناس/أشكال مختلفة وإخضاعه للبحث، والدراسة، والتحليل العلمي. وقد خلصت معظم هذه الدراسات إلى نتائج كانت باهرة على جميع المستويات المعرفية وأدت إلى تحول على مستوى النظرة والمقاربة للواقع الفردي والجماعي منذ الحين، مما شكل ثورة على مستوى آليات فهم واستيعاب الخطاب عامة، والخطاب الأدبي بخاصة. وكمثال على ذلك، لقد أدت الدراسات الأدبية البنيوية إلى التأسيس لدراسات علمية تُخضع الأدب لمعايير مضبوطة تؤدي غالبيتها إلى فصل الشكل عن الموضوع، الخيال عن الواقع، الفن والإبداع عن السياسة والاقتصاد، والتاريخ عن الأسطورة، وحددت خطوط تقاطع كل تلك العوامل داخل الشكل الأدبي كقالب يتسم بالهُجنة وقادر على أن يستوعب/يغلف/يعكس العديد من الأشياء والمواضيع دون أن يتنازل عن صفته الرسمية "كأدب." إلى جانب ذلك، كشفت الدراسات الاستشراقية كذلك عن وجه آخر للأدب، حيث أزاحت اللثام عن وجه امبريالي خفي يشتغل لصالح أجندات معينة ويتخفى في شكل إبداع أدبي. فثبت أن أدب الرحلة، والمسرح، والرواية، والشعر ليسوا إلا قوالب أدبية استعملت لتمرير أهداف معينة كان أصحابها يسعون إليها. تنطلق هذه الدراسة من هذا الطرح، وتحاول أن توضح بالملموس دور الدراسات الأدبية النقدية في التأسيس لخطاب أمازيغي معاصر وواضح المعالم والمسار من حيث الرؤية والأهداف. فالأرشيف الأدبي، سواء منه الأمازيغي الذاتي أو الغيري، يحتاج منا اليوم التأسيس لدراسات رصينة تهدف بالدرجة الأولى إلى الكشف عن الأوجه التي يحتملها هذا الأدب من تاريخ، وثقافة، واجتماع، وسياسة وذلك كله من اجل فهم الذات، استيعاب الآخر، وتسهيل طرق التواصل فيما بين الخطاب الأمازيغي وغيره. ماهية الأدب وإمكانيات التماهي مع العلوم الإنسانية الأدب عموما كلمة تستعمل للدلالة على كل تلك الإبداعات الأدبية التي تتميز عن أنواع الكتابة العادية بكونها تخضع لمعايير شكلية وجمالية خاصة. ففن الشعر، والدراما/المسرح، والرواية، والقصة القصيرة والقصيرة جدا، وأدب الرحلة هي أجناس أدبية أساسية يتميز كل صنف منها بكونه له قالب أو بنية معينة، كما له أبعاد جمالية تخص كل نوع على حدة. فالأدب إذن هو تعبير إما كتابي أو شفهي، يأخذ شكلا معينا، وهدفه هو نقل تجربة إنسانية ما من مكان لآخر بهدف إيصالها لأشخاص آخرين واطلاعهم عليها، على أساس أنه إما تجربة شخصية، أو تجربة جماعية، أو عالم افتراضي لتجارب متخيلة يحكمها الواقع في آخر المطاف. فالأدب، كما جاء في العديد من التعاريف، هو نص منطوق أو مكتوب، له بنية نصية تصنفه ضمن جنس معين، وهدفه عرض تجربة إنسانية معينة بشكل لا يخلو من الجمالية الشكلية، والتعبيرية، والدلالية. ولما كان الأدب بهذا الشكل، أي أنه أداة نقل تجربة إنسانية، كان لابد من أن نصنفه كواسطة نقل تلعب دورا من الأهمية بمكان في نشر الأفكار والتجارب الإنسانية. إذن فبالإضافة إلى كون الأدب نص يتميز بالبنية الشكلية، والجمالية، ونقله للأفكار والتجارب الإنسانية ونشرها، فهو أداة معرفية يمكن إن تساهم بشكل فعال، عن طريق عملية نشر وتوزيع الأفكار والتجارب، في بناء أشخاص ومجتمعات فكريا وثقافيا. ومن هنا يمكننا أن نستنتج بأن الأدب له مكانة رفيعة ودور محوري في حياة الأشخاص والمجتمعات: فإلى جانب مهمته المعرفية/العلمية المحضة، والتي تتمثل في تعليم مهارة القراءة، الاطلاع على تجارب وأفكار إنسانية أخرى، كان بإمكانه أن يُستعمل كأداة توجيه، تنميط، تشكيل، برمجة، وإعداد من خلال تعلقه بأهداف إنسانية لها غايات محددة. فما هي هذه الأهداف الإنسانية الأخرى التي يمكن أن يستوعبها النص الأدبي، الشفهي أو المكتوب، ويعبر عنها، ولأي غرض يقوم الأدب بهذا الدور؟ يتساءل ميشيل فوكو في كتابه "جينيالوجيا المعرفة" بهذا الشكل: ما الجانب الخطير في كون الناس يتحدثون، وفي كون خطاباتهم تكثر وتتكاثر، أين يكمن الخطر؟ ... هذه هي الفرضية التي أريد أن أطرحها عليكم هذا المساء راغبا في تحديد المكان – ولربما المسرح الموقوت – للعمل الذي أخوض غماره. أفترض أن إنتاج الخطاب داخل كل مجتمع، يخضع لعملية مُراقبة وانتقاء وتنظيم، ويُعاد توزيعه بموجب إجراءات لها دور في أبعاد سلطاته ومخاطره والسيطرة على تأثيراته المحتملة، وإسقاط ما فيه من مادية مرعبة وثقيلة.1 للجواب عن السؤال "كيف يتم كل ذلك؟،" وبشكل مبسط جدا، نقول: انطلاقا من إمكانية تعلق الأدب، سواء أكان قصيدة شعرية، حكاية، قصة، أو عرضا فرجويا، "بأهداف وغايات إنسانية،" يتبين لنا بأن الأدب ليس مجرد نصوص جميلة يستمتع القارئ بجمالية ما تعبر عنه من تجارب وأفكار وتصوره من عوالم غاية في الجمال. إن الأدب في جوهره لهو تعبير عن مجموعة من مجالات الاهتمام الإنسانية مثل الفلسفة، والدين، والثقافة، والفكر، والتاريخ، والاقتصاد، والاجتماع، والسياسة، والعلم التطبيقي، إلى ما لا يعد ولا يحصى من المجالات الأخرى التي تتعلق بشتى نواحي الحياة البشرية. ولما كانت هذه هي حقيقة الأدب، كان لزاما على الدارس، والباحث، والقارئ المهتم أن يأخذ بعين الاعتبار هذا التوصيف للأدب في كل قراءة أو تعرض لأي نوع أو جنس من الأدب سواء أكان شعرا، أو مسرحا، أو رواية، أو رحلة. فالأجناس المذكورة يحتمل كل مؤلَف منها، أو نص، إمكانيات ودلالات لا تعد ولا تحصى. فالنص، بما هو نص، يبقى مفتوحا دائما على جميع الإمكانات بما في ذلك الايجابية منها والسلبية في نفس الآن والحين. وما يزيد من خطورة النص، ويضفي عليه طابعا إيديولوجيا محضا، هو كونه، أي كنص، عبارة عن أفكار (des idées/idéologies) في الأصل. وهذه الأفكار، كما سبقت الإشارة إليه، تساهم بشكل فعال، رغم أن عملها غير واضح في أغلب الأحيان، في بناء عقول، وشخصيات، وأمم، وحضارات، مثلما يمكنها أن تهدم نفس المكونات في نفس الوقت. لذا، إن التعامل مع الأدب، أي مع الخطاب الأدبي بالضبط، يجب أن يتسم بالحذر الشديد، والانتقائية، والقدرة على قراءة النصوص وتحليلها، والكشف عن معانيها، دلالاتها، أبعادها، توجهاتها، وان صح التعبير، غاياتها وأهدافها، نظرا لكون الإنسان لا يسعى أبدا، كما تؤكد ذلك احدث النظريات العلمية في مجال الدراسات الأدبية والثقافية، إلى نسج نص ما، سواء أكان شفهيا أم مكتوبا، إلا لغاية ما، لا يعلمها حتى هو في اغلب الحالات، وذلك نظرا لكونه كائن قد كيفه الواقع ونمطه بشكل يقوم فيه بفعل معين دونما الحاجة إلى العودة إلى تفسير فعله هذا والنظر في أصل الغاية والهدف منه، إنما هي مهمة تكبد عنائها دارسون وباحثون في الأدب والعلوم الإنسانية استوقفوا ذكائهم وجهدهم الغير-منقطع من أجل توضيح وتفسير أصول وغايات الفعل والحركة الإنسانيين عموما، وتم إسقاط تلك النظريات على مجال الأدب بما هو فعل إنساني فاعل على مستوى الوسط الذي يتلقى الأدب بأنواعه ويتفاعل معه، فتم الكشف عن أشياء عجيبة وغريبة كانت كامنة وراء العديد من النصوص الأدبية التي ظل الناس يقرؤونها، يحفظونها، ويرددونها لقرون عدة، بعفوية وسذاجة بناء على أنها مجرد نصوص أدبية جميلة، بينما كانت عكس ذلك تماما. علاقة الأدب بالأيديولوجيا (السياسة) لقد برزت المدرسة الغربية في ميدان الدراسات الأدبية بشكل واضح وقدمت لمجال الدراسات الأدبية نظريات تفكيكية عظيمة. ولا يكاد المطلع على إحدى تلك الدراسات، حتى ينبهر بما تكشفه من حقائق كانت خفية وراء النصوص الأدبية بشتى أنواعها ولم يتوصل إليها أحد ولم يكن ليعلم بوجودها كامنة وراء الأسطر ذات التراكيب الجميلة والحاملة لصور ذات جمالية أبعد. يعتبر Terry Eagleton أحد أبرز الكتاب الغربيين الذين أكدوا التعلق الوثيق للأدب بالأيديولوجيا والسياسة والذين أسسوا لمبدأ العلاقة الوطيدة التي تجمع النص الأدبي بما هو تعبير يراد به عكس صور وتجارب خاصة بواقع معين. وهذا الواقع إنما هو مجموع علاقات ثقافية، اجتماعية، اقتصادية، سياسية، تاريخية، وسيكولوجية تتمظهر في شكل أحداث وأفعال وأقوال تنبني كلها على مبدأ التفاعل الإنساني فيما بين بني البشر. وهذا التفاعل الإنساني بعينه هو السياسة بحد ذاتها، والأيديولوجيا في أرقى مظاهرها. يقول تيري إجلتون في كتابه مدخل إلى نظرية الأدب بان الاعتقاد في وجود "نظرية أدبية 'نقية/خالصة' (أي محايدة وبعيدة عن الأيديولوجيا) هي مجرد كذبة أكاديمية."2 ويضيف مؤكدا: "إن رأيي الشخصي، كما وضحت ذلك في الكتاب كله، هو أن تاريخ نظرية الأدب هو جزء لا يتجزأ من التاريخ السياسي والإيديولوجي لعصرنا الحالي."3 من هنا، يمكننا أن نفهم أن الأدب هو سلعة أيديولوجية محضة، مجال اهتمامها الأول هو شؤون الناس اليومية، أي السياسة. فالأدب يلعب دورا هاما جدا في صناعة الرأي، تغيير المعتقدات والأفكار، الإقناع، وحتى الإيهام في العديد من الأحيان. أي بمعنى آخر، إن الأدب، في أصله، هو عبارة عن مجموعة من العبارات الخاصة بالواقع، المتراصة بشكل جميل وجذاب، والحاملة لأفكار متعددة الأنواع والأشكال، أي أنها بالتالي خطاب موجه بشكل مقصود أو غير مقصود نحو هدف معين ليس بالضرورة أن يخضع لوعي صانع الأدب، الذي هو عادة ما ندعوه "بالمؤلف." فالمؤلف، في اغلب الحالات، ليس "فردا" يتحكم في فكره، وثقافته، وأفعاله، بقدر ما هو نفسه "موضوع" تتحكم فيه الثقافة التي تشكله هو في كليته ككائن ثقافي محض، وتتحكم فيما يصدر عنه من فكر وسلوكيات، ولا تسمح له بالتدخل بحرية في جميع ما يخصه إلا بنسبة ضئيلة جدا. فالثقافة هي اشمل وأوسع من "الفرد،" أو "الموضوع" كما سميناه، وهي التي تكتب الأدب، في نظر نقاد كثيرين مثل رولان بارتس، وجاك لاكان، وديريدا، وليس الكاتب، الذي هو مجرد أداة أو واسطة بين الآلة الثقافية الضخمة والأدب في شكله الأخير، الذي ليس بدوره إلا مجرد لمحة قصيرة جدا عن جانب من جوانب عالم ثقافي ضخم وواسع، يعج بالأفكار، والصور، والأحداث، والمستجدات التي هي في حراك دائم وتحول متواصل. يعتبر ادوارد سعيد أحد النقاد الذين اهتموا بالشرق وحاولوا دراسة صورة الإنسان، والثقافة، والحضارة الشرقية في الكتابات الأدبية الغربية، واعتمد على دراسة مجموعة من الروايات الأدبية التي أبدعها هذا الغرب في خضم حركيته الامبريالية. فنجده يقول في كتاب الثقافة والامبريالية: بما أن مجال تركيزي الخاص هنا يهتم بالإمبراطوريات الغربية الحديثة التي سادت خلال القرنين التاسع عشر والعشرون، حاولت النظر في أشكال ثقافية مثل الرواية، التي اعتقد بأنها لعبت دورا مهما في تشكيل الأفكار، والمراجع، والتجارب الامبريالية.4 كمثال، يعتبر الفن القصصي، كما يؤكد ذلك المفكر ادوارد سعيد، الذي هو أحد أبرز النقاد الذين نجحوا في وضع تحليل عام لميكانيزمات اشتغال الأدب كأداة سياسية وأيديولوجية، أداة حاسمة في تشكيل الأفكار، والمراجع، والتجارب الاستعمارية، أي السياسية والأيديولوجية التي تتحكم في عقليات الناس والشعوب وتؤسس لبروز وهيمنة نظريات ومخططات سالبة للحريات تتميز بالغطرسة، والظلم، والاستحواذ على الأراضي، والخيرات الطبيعية، وحتى الحق في العيش الكريم. وهو يلوم، من موقعه كعالم بخبايا الحمولة الأيديولوجية التي تختبئ وراء أسطر الأدب ومتخصص في مجال تحليل الخطاب، الدارسين السطحيين بقوله: "إن الكثير من النقد تخصص في مجال الخيال القصصي، لكن القليل جدا من الانتباه قد تم إيلاؤه لوضعه ضمن تاريخ وعالم الإمبراطوريات الاستعمارية."5 ولكي يبين لكل من القارئ العادي، والدارس، والباحث، والمهتم، بان الأدب هو أم الأيديولوجيات، يسترسل موضحا ما يلي: إن الحرب الأساسية في الصراع الامبريالي لتدور حول الأرض، بالطبع؛ لكن عندما يكون الأمر خاص بمن يملك الأرض، من كان لديه الحق في التواجد فيها والعمل عليها، ومن أحياها وخدمها، ومن دافع عنها واسترجعها، ومن يزرع الآن مستقبلها – فان هذه المواضيع يتم التفكير فيها، الصراع من اجلها، ويقرر فيها كذلك، على مستوى المتن الحكائي.6 إن قوة الخطاب الذي يتمثل من خلال الأجناس الأدبية، وكمثال على ذلك "المتن الحكائي" أو "الخيالي" كما يقال عامة، لهي قوة فاعلة تتجاوز فعالية الخطابات المباشرة والمكشوفة وتتعداها. كما يؤكد ادوارد سعيد، إن العديد من الأشياء والمواضيع التي تهم الحياة الإنسانية من حرية، وحقوق، وانتهاكات، وحروب لتقرر على مستوى المتون الحكائية والخطاب الأدبي بالدرجة الأولى. فعلى مستوى المتن أو النص الأدبي، تشتغل الأيديولوجيا بشكل رفيع جدا، إذ أنها تتستر وراء جمالية المتن وتركيبته، ووراء القصة، والحبكة، والأسلوب، والشخصيات لتمرر خطابات كانت لتقوم لها معارضة واضحة إن هي وضعت مكشوفة وتم التصريح بها علنا. يسترسل إدوارد سعيد قائلا: إن القدرة على الحكي/السرد، أو منع أشكال أخرى من الحكي/السرد أن تتشكل وتظهر، لهي مهمة جدا بالنسبة للثقافة والامبريالية، بل وتشكل احد أهم نقط الاتصال فيما بينهما. أكثر من ذلك، إن المتون/النصوص الكبرى الخاصة بالتحرر والتنوير (التي أبدعها سكان المستعمرة)، قد حركت الناس في العالم الكولونيالي نفسه (وهنا يعني الغرب) نحو النهوض ورفض الهيمنة الامبريالية/الاستعمارية. وفي خضم مثل هذا التحرك تأثر العديد من الأوروبيين والأمريكان أنفسهم بالمتون التحررية هذه وبالشخصيات التي تقدمها، فنادوا وناضلوا من اجل ظهور متون/نصوص جديدة موضوعها المساواة والمجتمع الإنساني.7 يناء على هذا النوع من الفهم العميق لدور الأدب، كأديولوجيا مغلفة وجميلة، في علاقته بصناعة الواقع والتحكم التاريخي في شكله ونوعه، يمكن طرح التساؤل التالي ومحاولة الإجابة عنه: ما هو دور الدراسات الأدبية في التأسيس لخطاب أمازيغي يتميز بكونه علمي، منطقي، مُعقلن، معاصر، وواضح المعالم والمسار؟ دور الدراسات الأدبية في التأسيس لخطاب أمازيغي معاصر واضح المعالم والمسار في إطار الانطلاق من أجل التأسيس لدرس حقيقي في هذا المجال، ورفض العديد من أنواع التعاطي مع الخطاب الامازيغي الأكاديمي بشكل يطغى عليه طابع الغفلة، الوعي الغير كامل، الحماسة الزائدة عن اللزوم، طغيان الإحساس والمشاعر بدل العقل والمنطق، اعتماد خطاب يميزه الفكر "الشعاري"8 بدل المنطلق النظري والأيديولوجي الحقيقي الذي يخدم الخطاب الامازيغي بشكل واضح بعيدا عن بعض التوجهات الضيقة أو الأسس النظرية المتقادمة، لا بد أن يساهم الكل، وخصوصا من يملك الوسائل والأدوات الكفيلة بذلك، بأن يكون هناك عمل دءوب، متواصل، وذي توجه واضح من أجل التأسيس لمبحث يتخصص في البحث عن وإيجاد خطاب أمازيغي حر، واعي، ومُعقلن، يتسم بالجدية، والفعالية، والقدرة على التحاور مع ومواجهة باقي أنواع الخطاب التي تسعى إلى الهيمنة وترى في عدم اكتمال بناء صرح الخطاب الامازيغي، وتشتت أصواته، نقطة هوان تساهم في مد الفجوة/الشقة التي يعاني منها الخطاب الامازيغي أكثر مما تسدها وتقرب أجزائها. إذن ما هو الحل المقترح في هذا الباب، وما هي سبل النهوض بخطاب أمازيغي أدبي ونقدي معاصر وواضح المعالم والمسار؟ الانكباب على نيل القسط الوافر من التعلم والدراسة في مجال الأدب بجميع أشكاله. تسخير المعارف والعلوم المكتسبة لخدمة الخطاب الامازيغي الأدبي تأليفا ونقدا، دراسة وتنقيحا. الابتعاد ما أمكن عن فلسفة المواجهة، مقابل التفكير في بناء خطاب معاصر يسعى لمحاورة الخطابات المهيمنة على الساحة والتفاعل معها على قدم المساواة. إن مثل هذه الخطوات العملية المقترحة في مجال الدراسات الأدبية والنقد، لا بد وأن تؤدي إلى نتائج قيمة في القريب العاجل إذا ما تم الاشتغال وفق ما تمليه من قواعد وتتطلبه من حزم وجدية في التعاطي مع موضوع الانشغال والاشتغال. لذا، كما جاء في النقطة الأولى، في عالمنا المعاصر، لا سبيل للتواجد ضمن شبكة واسعة من الثقافات التي هي في احتكاك يومي وتفاعل لا يعترف بالحدود السياسية إلا عن طريق إثبات الذات. وهذا الإثبات، لن يكون ممكنا إلا من خلال الوصول إلى المعلومة، التزود بها، والحرص على تطبيقها على أرض الواقع من أجل الانتفاع منها إلى أقصى حد ممكن. أما الغياب عن عالم المعارف والعلوم والآداب فلن يؤدي إلا إلى تسطح الفكر، وغياب الإرادة الحقيقية، والسقوط في مزيد من الهفوات المدمرة، علما أن المجتمعات، خصوصا في عصر العولمة هذا الذي نعيشه، هي في صراع متواصل من أجل البقاء، كما أنها مطالبة في نفس الحين في فرض الذات في احترام كامل لحرية الآخر ووجوده. أما فيما يخص النقطة الثانية، فلابد للخطاب الامازيغي أولا وقبل كل شيء أن يكون. أي بمعنى أن يجد له مكانة ضمن المكتبة العالمية التي تعج بالمؤلفات من شتى أنواع العلوم. وعلى صعيد الدراسات الأدبية والنقد المتصل بها، فلابد للطالب، والباحث، والدارس، والمهتم الامازيغي أن يهتم أولا بدراسة الموروث الأدبي المحلي دراسة عميقة جمعا، وتصنيفا، وتنقيحا، ونشرا. إضافة إلى ذلك، على الفاعل الامازيغي أن لا ينكب فقط على دراسة الماضي، بل عليه أن يدفع بعجلة الإبداع الأدبي والنقدي إلى الأمام، وذلك من خلال المساهمة الفعالة في توسيع مجال الإنتاج والإبداع الأدبي. إضافة إلى ذلك، لابد وأن تستفيد مثل هذه الحركية من الدراسات النقدية السابقة وتسخيرها لنقد الخطابات الأدبية المحلية ودراسة الخطاب الأدبي الغيري. أما النقطة الثالثة، فهي عبارة عن تصور لابد للأكاديمي الامازيغي أن يستوعبه، لكنه لن يستطيع استيعابه إلا من خلال القدرة على فهم الوضعين العام والخاص. فالامازيغية، كمكون ثقافي، لا يتواجد بمعزل عن باقي الثقافات، إنما هو ثقافة كاملة ومتكاملة يجب على خطابها أن يبتعد عن كل ما له علاقة بالتعصب، والتمركز، والجوهرية. فسياسة المواجهة الثقافية، قد أصبحت مرفوضة في عالم اليوم، بقدر ما أصبحت العديد من الوسائل، أعني الدراسات والأبحاث العلمية الحديثة، بيد الجميع ويمكن لأي ثقافة أو فرد أن يسخرها لخدمة ثقافته وهويته. إذن فالحصيلة في هذا الباب هي كالتالي: وجوب تبني سياسة أكاديمية واضحة، تتميز بكونها تخدم الثقافة والهوية الامازيغية أكثر مما تقوضها وتصورها كمكون متمركز حول الذات ويرفض الغيرية، فتحد من إمكاناتها المستقبلية. وبناء على ما تقدم، إن الخطاب الامازيغي المعاصر، الأدبي والنقدي على وجه الخصوص، لابد وأنه خطاب يتسم بكل المعايير التي تجعل منه خطابا ديمقراطيا، حداثيا، ومعقلنا. وما الدراسات التي تطل علينا كل يوم من خلال الساحة سواء داخل الوطن أو خارجه إلا وجه مشرف لهذا الخطاب الذي يسعى حثيثا من أجل إعادة بناء الذات الثقافية، التي هي المرجع الأول والأخير الذي تنبني عليه الهوية الامازيغية التي تضرب في التاريخ قدما وعرقها كان، ولازال، وسيبقى نابضا بالحياة كيفما كان الحال. المصادر: Said, Edward. Culture and Imperaialism. New York : Vintage Books, 1993. Eagleton, Terry. Literary Theory: An Introduction. Minnesota: Blackwell Publishers Ltd, 1996. ميشيل فوكو، جينيالوجيا المعرفة، ترجمة أحمد السطاتي وعبد السلام بن عبد العالي. الدارالبيضاء: دار توبقال للنشر، 2008. 1 أنظر ميشيل فوكو، جينيالوجيا المعرفة، ترجمة أحمد السطاتي وعبد السلام بن عبد العالي (الدارالبيضاء: دار توبقال للنشر، 2008) ص، 6. 2 Terry Eagleton, Literary Theory: An Introduction (Minnesota: Blackwell Publishers Ltd, 1996), p. 170 3 Ibid., p. 169. 4 Edward Said, Culture and Imperialism (New York: Vintage Books, 1993), p. xii. 5 Ibid., xii 6 Ibid., xiii 7 Ibid., p. xiii 8 أي الخطاب المبني على الشعارات، والذي لا يتجاوز حدود الشعار إلى ما هو عملي تطبيقي.