لقد وجد العلماء والمثقفون المغاربة في الصحف الجزائرية خلال العشرينات والثلاثينات من القرن العشرين منبرا للتعريف بقضيتهم، والتعبير عن أفكارهم وآرائهم، ونشر قصائدهم الشعرية بعد أن فشلت المحاولات الفردية والجهود الجماعية في إصدار صحف باللغة العربية في المغرب. فقد كان حق إصدار جريدة في هذا البلد المجاور موقوفا على الفرنسيين أو من يحمل جنسية فرنسية! ما هي أبرز الأقلام المغربية التي كتبت في الصحافة العربية الجزائرية؟ وما هي أبرز اهتماماتها؟ ولماذا توقفت هذه المشاركات بعد ذلك، واقتصرت الكتابات حول المغرب على الأقلام الجزائرية؟ أقلام مغربية في الصحف الجزائرية: فتحت الجرائد العربية الجزائرية صفحاتها لأقلام مغربية معروفة ومغمورة لتنشر فيها مقالات نثرية وقصائد شعرية، وتشرح من خلالها مواقفها تجاه قضايا محلية أو قومية، وتعبّر عن آرائها حول مشكلات المجتمع المغربي في مجالات مختلفة خاصة بعد أن ارتفعت مشاركة الصحافة الاستعمارية في التضليل والتدجيل، وزادت حملاتها في التحريف والتزييف تجاه الوطنيين المغاربة. قال واحد منهم -وهو محمد المكي الناصري- في هذا الشأن: «عندما بدأت المواجهة وأصبح حديث الناس عن الكتب والمقالات التي تنشر، دخلت الصحافة في المعركة، ونحن في المغرب وقتئذ لا صحافة لنا. فأخذنا نستعمل الصحافة الجزائرية والصحافة التونسية وفي طليعتها " الشهاب" لعبد الحميد بن باديس رحمه الله...» ويختلف حجم المقالات وعددها في هذه الجرائد بدرجات متفاوتة، فمنهم من اكتفى بمقال واحد، ومنهم من كتب عشرات المقالات الطويلة والقصيرة. وأذكر هنا أبرز هؤلاء المثقفين الذين واظبوا على الكتابة في تلك الصحف، وهم: محمد القري، وحسن الرامي، والمكي بن إدريس العمراوي، وعبد الهادي الشرايبي، وعبد الحفيظ العلوي، ومحمد الهادي التازي، ومحمد المكي الناصري. وكان عدد آخر من المثقفين المغاربة ينشرون مقالاتهم بأسماء مستعارة (أبو الغيث، أبو الفضل، ابن الحسن، ابن الشعب، تلميذ، زياد، سيف الدين، المغربي، الفتى المغربي، هيان بن بيان) أو يكتفون بكتابة بحرفين أو ثلاثة (أ س، ، م غ ث، ك.ب) وبصفة خاصة عندما تكون كتاباتهم نقدية. ولم أهتد إلى معرفة أصحابها الحقيقيين. وإنما عرفت بأنها أقلام مغربية من خلال إشارات رؤساء التحرير أو إضافة مكان كتابة النص في ذيل المقال بجنب صاحب التوقيع. وكان هؤلاء الكتاب ينتمون إلى المدن المعروفة في المغرب مثل فاسوالرباطوالدارالبيضاءوسلا. كما ترفق أحيانا مقالاتهم بالرسائل التي وجهوها إلى رؤساء تحرير تلك الجرائد التي تحرص على نشرها وبصفة خاصة عندما يكون صاحبها شخصية علمية أو سياسية معروفة. أما الموضوعات المطروقة في هذه الكتابات فإنها تتنوع بين الأدبي والديني والتاريخي والاجتماعي والسياسي بأسلوب رفيع، فنجد قضايا عامة تتعلق بالعرب والمسلمين كقضية فلسطين الجريحة التي كتب عنها المكي بن إدريس العمراوي، وقال بأنها تنادي وتستغيث لكن ليس هناك من مجيب! كما نجد فيها قضايا خاصة لها صلة بالحياة الثقافية والسياسية في المغرب. فقد ناقش على سبيل المثال أحمد بن إبراهيم الرباطي مسألة إصلاح جامع القرويين، وتبعت مقاله مقالات عديدة في هذا الشأن. وكان التاريخ المغربي المحلي حاضرا، فكتب عبد الحفيظ العلوي سلسلة من المقالات حول هذا الموضوع. اهتم هؤلاء الكتاب بالإصلاح التربوي، الذي يجب أن يشارك فيه العلماء والأغنياء على سواء، فالعلماء يدرسون ويعلمون، والأغنياء يصرفون على طلبة العلم من خلال الأوقاف وغيرها من مصادر التمويل. والعلم وحده لا يكف إذا لم يتوّج الطالب بتربية حسنة وأخلاق فاضلة. وقد وجّه علال الفاسي، ومحمد المكي الناصري، ومحمد اليزيدي، والمكي بن إدريس العمراوي، ومحمد القري، ومحمد بن محمد مكوار، وعبد الغني سكيريج توجيهات إلى الشباب المغربي في هذا الاتجاه ليتمسك بالعلم والأخلاق، ويقبِل على العمل النافع. أما في مجال النهضة، دعا محمد داود إلى النهوض الأدبي بالمغرب، وحثّ محمد بن محمد مكوار على الربط بين العلم والتربية، لتحقيق النبوغ العلمي في مجالات مختلفة. وفي السياق نفسه دعا المدني الحمراوي إلى الاهتمام بالصنائع التي تلعب دورا أساسيا في دفع عجلة التطوّر والرقيّ. واهتم الكُتاب بتطوّر اللغة العربية وتنميتها لتواكب التطورات الحاصلة في مختلف المجالات. لذلك انتقد ابن الحسن من الدارالبيضاء منهج عمل المجمع اللغوي المصري وطريقة اختيار أعضائه التي اعتبرها الكاتب بعيدة عن المقاييس العلمية وإنما تخضع لاعتبارات أخرى. ويظهر بعد ذلك اهتمام الكُتاب المغاربة بالإصلاح الاجتماعي، فقد عالج محمد الهادي التازي ومحمد المكي الناصري خطورة تعاطي الخمور وأضرارها على الفرد والمجتمع. وتطرق عبد الحفيظ العلوي إلى مشكلة البطالة، وحثّ على ضرورة تثمين العمل وكسب الرزق لإبعاد كل الموبقات التي تصحب الفراغ والفقر. أما علال الفاسي فقد شدد في مقال نشره في مجلة الشهاب على حاجة المجتمع المغربي إلى الأخلاق التي ترفع من شأن الفرد، وتعضد تماسك الأسرة، وتطوّر مستقبل المجتمع، فتهذيب الأخلاق كما يرى محمد بن عبد السلام مكوار هو أساس السلام والرقي، ومن ثَمَّ فلا تمدن إلا بالتمسك بالقيم الفاضلة. وحذّر صالح العبدي والكاتب المجهول (المغربي) من الغزو الثقافي الذي يهدد الهوية المغربية من خلال ما تروِّج له الوسائل الحديثة مثل الراديو والصحافة والكتب المترجمة، والتقليد الأعمى لكل ما هو قادم من الحضارة الغربية بذريعة أن ذلك يساعد على التقدم. أما الأستاذ عبد الهادي الشرايبي فإنه حذّر من خطر آخر يتربص بالشباب المغربي، فالمنصِّرون يستغلون بدون حرج فقر المسلمين وجهلهم لتنصيرهم وإبعادهم عن كل ما له صلة بتاريخهم ودينهم وثقافتهم الأصيلة. أما في مجال الدراسات الدينية، فقد نشرت الجرائد الجزائرية محاولات في تفسير آيات قرآنية وشرح أحاديث نبوية ومناقشة مسائل فقهية بأقلام عبد الله كنون، وعلال الفاسي، وحسن الرامي، ومحمد تقي الدين الهلالي، وعبد الله عباس الجراري، ومحمد الطائع الكتاني...الخ. والحق أن الجرائد الجزائرية كانت تنشر هذه المساهمات دون حذف أو تعديل، وإذا اقتضى الأمر إلى ضرورة التعبير عن عدم تبني الأفكار والآراء الواردة في المقال، نبّهت هيئة تحرير الجريدة إلى ذلك في ذيل المقال في فقرة خاصة. وثائق وعرائض وتقاريظ: كانت الصحافة العربية الجزائرية تنشر الأخبار السياسة والثقافية في المغرب نقلا من الصحف المغربية التي ظهرت فيما بعد مثل الأطلس (الرباط)، الدفاع (فاس)، والوداد (سلا)، السلام (تطوان)...الخ. كما تنشر أيضا عرائض لعلماء القرويين، وبعض خطب الملوك المغاربة، وبيانات كتلة العمل الوطني، وإعلانات لجنة الاستخبارات والدعاية للحزب الوطني بالمغرب، وجمعية الطالب المغربية التي كان يرأسها عبد الخالق الطوريس، ولجنة المطالبة بالصحافة العربية بالمغرب، واحتجاجات النخبة المغربية على فظائع الانجليز والصهاينة في فلسطين. وتستقبل تلك الجرائد تغطيات النشاطات الثقافية والسياسية في المغرب التي كان يكتبها عادة الطلبة القرويون، أو مراسلوها الدائمون القلائل مثل محمد القري الذي كان يراسل جريدة النور باسم مستعار، وهو ابن الشعب. فهذا مراسل من فاس أرسل إلى جريدة البصائر متابعة لمهرجان العمل الوطني في هذه المدينة العريقة. وقد تضمن البرنامج عرض مقررات المؤتمر الأول لكتلة العمل الوطني على عامة الناس والأعضاء. وخطب في هذا الاجتماع المنعقد يوم 1 نوفمبر 1936 كل من علال الفاسي، وسعيد حجي وعبد العزيز بن إدريس، والهاشمي الفيلالي، وعبد الهادي الشرايبي، ومحمد بن عبد الله وإبراهيم، والوزاني والمكي العمراوي. أما محمد القري فإنه نشر في جريدة النور لصاحبها أبي اليقظان سلسلة من التقارير حول فعاليات يوم شوقي بفاس حيث عبرت النخبة المغربية عن عاطفتها نحو العروبة والإسلام التي جسّدها هذا الشاعر الكبير في قصائده الرائعة. وألقى فيها القري قصيدة في رثاء الشاعر المصري الكبير مطلعها: شوقي وما أدراك ما شوقي شوقي إمام القول عن حق شوقي الأمير وغيره خدم لكلامه في الغرب والشرق كما نجد في هذه الصحف تقاريظ لبعض مؤلفات علماء المغرب مثل كتاب "الفقه الواضح" للشيخ عبد الهادي الشرايبي الذي قال عنه الشيخ فرحات الدراجي أحد محرري جريدة البصائر بأنه «لا ريب في أن المؤلف بهذا الصنيع قد خدم دينه ووطنه وأسدى جميلا إلى أساتذة المدارس الابتدائية وكفاهم مؤونة الاختصار والتلخيص من المطولات...فالأستاذ الشرايبي جدير بكل ثناء وعمله جدير بكل تقدير وتأييد.» وتستقبل علماءها الذين مروا بالجزائر نحو المشرق، فهذه البصائر يزورها الرحالة المغربي محمود بشير الزرهوني بعد رحلة طويلة إلى الشرق، ونظم بالمناسبة الشيخ محمد العيد قصيدة ترحيبية سجلها الرحالة في دفتره، وهي تتكوّن من ثمانية أبيات، مطلعها: رأيت الأرض للساعين خلدا لهم في ظلها خير كثير فباطنها لهم كنز ثمين وظاهرها لهم مهد وثير اهتمت الجرائد الجزائرية بالمغرب الأقصى سواء من خلال كتابات الجزائريين أو كتابات المغاربة، وخصصت حيّزا لأخباره الثقافية والسياسية، فجريدة البصائر على سبيل المثال وضعت عرائض لعلماء القرويين، وخطبة مولاي سليمان العلوي في الانتصار للسُنة ومحاربة البدع في صفحاتها الأولى، بينما خصصت جريدة الأمة عددها 143 للمغرب تضامنا مع الوطنيين المغاربة الذين اعتقلتهم الإدارة الاستعمارية وعلى رأسهم: علال الفاسي، وأحمد مكوار، ومحمد اليزيدي. لكل هذه الأسباب، عرفت بعض هذه الجرائد الجزائرية رواجا في المغرب الأقصى مثل جريدة البصائر لسان حال جمعية العلماء المسلمين الجزائريين، والشهاب لصاحبها الشيخ عبد الحميد بن باديس، وجريدتي النور والأمة للشيخ إبراهيم أبي اليقظان. بدايات الصحافة العربية في المغرب: لقد كتب مثقف مغربي –باسم مستعار سيف الدين- مقالا في حلقتين في أهمية الصحافة، مبيِّنا تأخر المغرب في مجال الصحافة العربية، وداعيا المثقفين المغاربة إلى إصدار الصحف قائلا: «نالت شقيقتنا تونس وجارتنا الجزائر حظهما من ذلك، وبقي مغربنا ضعيفا لا يستطيع أن يزج بنفسه في ميادين الإصلاح ولا أن ينبه أمته الضعيفة إلى سبل هديها وإرشادها التي تتفق مع المبادئ الصحيحة وقد جاء دوره لينال ما ناله ما ناله القطران المجاوران له.» ودعمه في هذا الرأي مثقف آخر من فاس اسمه أبو الغيث قائلا أيضا أن المغرب في حاجة إلى صحافة وطنية عربية قبل كل شيء. وفي هذا السياق، قامت مبادرات عديدة لإصلاح هذا الوضع منها مبادرة لجنة المطالبة بالصحافة العربية بالمغرب التي أسسها إبراهيم الكتاني، وسعيد، حجي ومحمد اليزيدي في خريف 1936 من أجل توحيد الجهود بعد أن تعثرت كل المحاولات الفردية السابقة في إصدار صحيفة عربية. وبفضل كل هذه الجهود الحثيثة والإصرار على مطلبها الشرعي، تمكنت النخبة الوطنية المغربية من نزع الرخصة من سلطة الحماية لإصدار الجرائد باللغة العربية بعدما كان حق إصدار جريدة موقوفا فقط على الفرنسيين أو من يحمل جنسية فرنسية كما أشرت إلى ذلك في بداية هذا المقال. وهكذا ظهرت العديد من الصحف في فاسوالرباطوتطوان وغيرها من المدن المغربية الكبرى مدافعة على الهُوية والمقومات الحضارية للمجتمع المغربي، ورافعة صوت النضال السياسي للتحرير الوطني. كانت الجرائد العربية الجزائرية ترحب كل مرة بصدور صحيفة في المغرب وتعرّف بها وتروّج لها في الجزائر. وهكذا استطاع القارئ الجزائري أن يطلع على التطور الإعلامي في المغرب، فكانت المعلومات المقدمة عن الجرائد المغربية غنية فلا تكتف الجرائد الجزائرية بإعلان ميلاد العنوان ومكان إصداره وثمن النسخة، وإنما تكشف أيضا محتواها، وتدعو القراء إلى اقتنائها ومطالعتها. وإذا كان هذا التحوّل شكّل أمرا إيجابيا بالنسبة إلى المغرب فإنه صار سلبيا على التواصل الثقافي المباشر مع الجزائر، فلم يعد المغاربة يكتبون في الصحافة الجزائرية، فاكتفت النخبة الإصلاحية بتبادل الصحف، وبالاقتباس المتبادل من الجرائد. وأظنه قد بات واضحا مما ذكرته، أن الصحافة الإصلاحية في المغرب العربي شكلت جسرا للتواصل الحضاري بين النخبة المغاربية في العصر الحديث من أجل التفاعل الفكري ومقاومة المشروع الاستعماري والتحرر من هيمنته في مجالات مختلفة. من هذا المنطلق، وجد المثقفون في الجرائد الإصلاحية وسيلة هامة لتحقيق هذه المقاصد في جو من التضامن والوحدة تساقطت أمامه كل المعوّقات الجغرافية والنفسية، فكانت المقالات الجادة مرحبة بها بغض النظر عن أعمار كُتابها وألقابهم العلمية وطبقاتهم الاجتماعية ومناصبهم الإدارية. ومازالت مقالاتهم المنشورة في الجزائر كثيرة تحتاج إلى جمعها وتحقيقها ونشرها من قبل الباحثين والمؤسسات العلمية والثقافية في البلدين المجاوريْن. *أكاديمي جزائري