لا يمر يوم، دون أن تمس وتنتهك إنسانيتنا في صميمها، بسبب الأخبار والصور ومقاطع الفيديو، الواردة علينا من الشرق ومن بلاد الشام على وجه التحديد، والتي تؤرخ لفظاعات وجرائم تنظيم الدولة الإسلامية، المعروفة إعلاميا بداعش. أخبار وصور وفيديوهات لرؤوس تقطع، ونساء تسبى وتغتصب، وجماعات سكانية تهجر، ومجازر قتل جماعية، وانبعاث لأسواق النخاسة والعبيد وبيع السبايا، وغزوات مقدسة لقتال وتقتيل الفرنجة الكفار. إنها بمفهوم ولغة العصر، وحشية تقترفها عصابات داعش، ترقى، بل وتتجاوز مستوى الجرائم ضد الإنسانية، وجرائم الإبادة الجماعية وجرائم التمييز والإستعباد وفقا لنصوص القانون الدولي. إن القارئ العارف بفصول التاريخ، ما أن يشاهد هذه المجازر والفظاعات، حتى تعود به الذاكرة، والوعي التاريخي في اللحظة نفسها، إلى مرحلة تاريخية شهدت أحداثا ووقائع مشابهة، وهي فترة ما يسمى "بالفتوحات الأموية والعباسية"، والتي لم تكن في حقيقتها سوى حملات غزو، ونهب وسبي وسرقة إقتصادية وقهر واستعمار واستغلال للشعوب، كل ذلك تحت غطاء الدين، وهو ما تحفل به المصادر التاريخية، وتحدث عنه المؤرخون بإسهاب كإبن عذاري المراكشي، والرقيق القيرواني، وابن عبد الحكم، والطبري، وابن القوطية، وابن خلدون، وابن قتيبة، وابن كثير...، وغيرهم. (أنظر كتابي: الإسلام في المغرب، بين خطاب الرسالة والممارسة السياسية). إن الوعي بهذا الخيط الفكري التاريخي الرفيع، يدفعنا إلى التساؤل: هل كان هؤلاء الغزاة دواعش قدامى؟ أم أن دواعش اليوم، غزاة جدد؟ - مفهوم الفتح: إن مفهوم أو سلطة أو مؤسسة الفتح أو الفتوحات، هي صيغة وإطار لشرعنة أحداث وأعمال ووقائع وتجاوزات، لا يمكن أن تصنف إلا في خانة الغزو والإحتلال والقهر والإستغلال. لقد تأسست مؤسسة الفتح في أحضان الدولة الأموية على قاعدة مصلحة الحاكم (الخليفة)، فبدل أن يكون الإسلام صيغة للتحرير، أصبح وسيلة وآداة للهيمنة والإخضاع. لقد نشأت دولة الأمويين بفعل عملية عسكرية إنقلابية تزعمها معاوية بن أبي سفيان في الشام، ونتج عنها تقتيل آلاف المسلمين. واكتست هذه الدولة طابعا عربيا قريشيا عنصريا، واستبعدت كل الشعوب الأخرى، وتطلعت نحو التوسع والهيمنة فارتكبت مجازر وجرائم في مناطق مختلفة، شهدت شمال إفريقيا النصيب الأكبر والأخطر منها. إن مؤسسة الفتح كانت تحالفا مصلحيا ونفعيا بين السلطة السياسية (الخليفة)، والسلطة العسكرية (قادة الجيش والفتوح)، يحقق منافع اقتصادية ضخمة، لم يوجد لها مثيل. فالمورد الوحيد للدولة آنذاك هو غزو الشعوب واستغلال ثرواتها، بل وانتهاك حرماتها باسم الدين. لقد شكلت ضريبة الجزية مصدرا لموارد مالية ضخمة، كانت تدر على خزائن الدولة الأموية مداخيل لم يسبق لها مثيل. أضف إلى ذلك، السيطرة على الخيرات الاقتصادية والثروات الطبيعية والفلاحية للشعوب المقهورة، وكذا الأعداد الهائلة من السبايا. إن مؤسسة الفتح، التي استحدثها الإنقلابيون الأمويون هي أخطر ما شهده تاريخ الإسلام، بما تميزت به من تجاوزات عسكرية واقتصادية وجرائم خطيرة. فمنذ هذه الفترة، تمأسس الإسلام على أساس القهر والإستغلال ومصلحة السلطة والحاكم، لا على أساس مصلحة المجتمع والإنسان، فالغنائم الوفيرة أثناء الفتح كانت تقدم مباشرة وكاملة للخليفة، الذي يعطي منها لقادة الجيش. إن القاعدة المعروفة: "الإسلام أو الجزية أو الحرب"، والتي استحدثها الأمويون، وبصمت مسار التاريخ الإسلامي، تحمل بين ثناياها رؤية عدوانية شديدة، وسعيا لقهر واستغلال الشعوب، فهي تعني القتل والذبح والسيف، وهي تتعارض مع الحرية، والكرامة الإنسانية، وحق الاختلاف، والتنوع الإنساني، واحترام ثقافات ومعتقدات الآخرين، فالرسول لم يفرض الجزية على اليهود والمشركين. إن حركة الفتوح بهذا المعنى، ما كانت إلا حروبا إمبراطورية توسعية إمبريالية عربية، شهدت صراعا شديدا حول الجواري والسبايا والغنائم بين قادة الفتح، فكان مصير عدد كبير منهم هو القتل والتنكيل: محمد بن القاسم موسى بن نصير وأبنائه... وهو الأمر الذي دفع عمر بن عبد العزيز إلى وقف الفتوحات والغزوات، لأنها لم تكن بغرض فتح القلوب، وإنما بغرض فتح الخزائن والأموال ونهب الشعوب. إن مؤسستي الفتح والحرب طغتا بشكل رهيب وكامل على دواليب الدولتين الأموية والعباسية. مفهوم الجهاد والفكر الجهادي: لقد أعطى التراث الفقهي الإسلامي للجهاد مفهوما عدوانيا قهريا واستباحيا يجعله وسيلة للتسلط على الآخرين وقهرهم واستغلالهم وإخضاعهم لسلطة ما، تدر من وراء ذلك منافع مختلفة، هذه السلطة قد تكون الخليفة (الأمويين العباسيين ...)، وقد تكون جماعة معينة. فباسم، وتحت راية الجهاد في سبيل الله، ونشر دين الله، وفتح المدائن والبلدان، تستباح كرامة الإنسان وعرضه وماله وأمنه واستقراره (الغزوات الأموية في شمال إفريقيا الحركات والجماعات الجهادية)، ولهذا جاء التاريخ الإسلامي في معظم فتراته وفصوله تاريخ حروب وغزوات ودماء وقمع وقتل وتقتيل. إن مفهوم المسلمين في مقابل الكفار مفهوم خطير وعدواني ولا إنساني، لأنه يشرعن العنف والعدوان والتمييز والتقتيل. فالمعادلة الصحيحة هي معادلة الإنسانية، بتنوعها وتعددها واختلافاتها وغناها وخصوصياتها. إن عالمية الإسلام لا تعني التوسع الجغرافي عن طريق الغزو، وليست شيئا يفرض على الناس بالسيف والعنف والإرهاب والعدوان والإخضاع، وإنما إشعاعا روحيا إنسانيا، تجعل الآخر يغزو هذه المنظومة الروحية الإنسانية ويقبلها ويدخل فيها. دولة الخلافة: لقد ساد مفهوم الخلافة في فترة تاريخية مختلفة جذريا وكليا عن عالم اليوم، الذي تتحكم فيه ضوابط العلاقات الدولية والقانون الدولي ومواثيق حقوق الإنسان والحريات الأساسية ومبادئ المواطنة والمساواة والمدنية، واحترام سيادة الدول وحدودها وشعوبها. إن دولة الخلافة غير ممكنة الحدوث في العصر الحالي، لمجموعة من الاعتبارات، منها: أولا، بالنظر للفظاعات التي حدثت على امتداد الخلافات المتنوعة (الأموية، العباسية، العثمانية...). فدولة الخلافة لم تكن دولة فاضلة مثالية، تعرف قيم العدالة والحرية والكرامة والمساواة ...، بل كانت مرتعا للقهر والظلم والقمع والقتل، وتاريخها لم يكن تاريخ الشعوب وتطورها الفكري والحضاري، وإنما تاريخ السلطة وحروبها وغزواتها: (الحجاج بن يوسف الثقفي أبو العباس السفاح ...). ثانيا، أن دولة الخلافة التي أسس لها الفقهاء (الماوردي مثلا)، اشترطوا أن يكون الخليفة قريشيا، وهذا يستحيل حدوثه في عصر الدولة الوطنية، وفي مرحلة أصبحت فيها الديمقراطية والتمثيلية النيابية والتعاقد السياسي والاجتماعي بين الحاكم والمحكوم هي المفاهيم السائدة. ثالثا، أن دولة الخلافة التي اعتمدت الغزو والتوسع كأهم مورد اقتصادي لها، لا يمكن أن تتحقق في عالم أصبحت تتحكم فيه المنافسة الاقتصادية والصراع على الأسواق والحرب التكنولوجية. رابعا، إن الوحدة والتكتل والتعاون أصبح قائما على المصالح الاقتصادية المشتركة، واحترام الخصوصيات والاختلافات والثقافات، وليس على الجزية والحرب. التاريخ المقدس: لقد عمل علم كتابة التاريخ « Historiographie » العربي بمثابة دفاع أكثر مما عمل بمثابة بحث حقيقي. فوراء ملحمة الفتوحات التي سيطرت على الأفكار والعقول إعجابا وذهولا، وخلف جدران دولة الخلافة، التي امتدت إلى أقصى البقاع، وجدت حقائق تاريخية، تشهد على فظاعات وظلم وقهر وجرائم لا زالت في عداد التاريخ المقدس المسكوت عنه. إن إعادة قراءة وكتابة تاريخ الإسلام وتاريخ الدول الإسلامية، تفرض التحلي بقدر وافر من العلمية والدقة والحياد والموضوعية، في أفق القطع مع آفة تقديس التاريخ، الذي هو في نهاية المطاف من صنع بشر يصيبون ويخطئون. إن تغيير نظرتنا للتاريخ، والتأسيس لمنظومة تاريخية علمية جديدة، تضع كغاية لها إحلال التنوير والأنسنة ونشر قيم التعايش والتنوع والاختلاف وقبول الآخر، هي محطات أساسية في طريق ترسيخ هوية سوية، لأن فقدان الهوية، والتيه الهوياتي، منبت خصب للتطرف. داعش أو الجهل المؤسس: يقول هيجل: "إن تاريخ المشكلة هو مشكل التاريخ"، بمعنى أنه لا بد من الوعي بتاريخ وأصل المشاكل الاجتماعية والفكرية والدينية، من أجل حلها. فما لم نقم بنقد الموروث الإسلامي التاريخي والفقهي، وإعادة غربلته، وتصحيحه، والقطع مع تجاوزاته وانزلاقاته، فإننا نحكم على أنفسنا بالدوران في حلقة مفرغة، تعيد إنتاج نفس المنظومة، منظومة الجهل المؤسس. إن تنظيم داعش ليس استثناء، أو حالة متفردة، بل هو نتاج فكر ضيق، متخلف، رجعي، سيطر على عقول الناس منذ عقود طويلة، ولذلك ما لم يتم استئصال هذا الفكر من منابعه الأولى، ومن منبته، فلن تكون داعش ولا غيرها الأخيرة. فالمشكلة وحلها، يكمن في محاربة هذا الفكر، عبر سياسات تربوية وتعليمية وثقافية، تنويرية وإنسانية، لأنه فكر يحتكر الحقيقة ويرى أنه وكيل السماء على الأرض. لقد أرجع تنظيم داعش عجلة التاريخ إلى الوراء: الجزية السبي أسواق النخاسة وبيع النساء قطع الرؤوس التقتيل ... وهي أمور عرفت لدى قادة الفتح، وتتبناها اليوم الجماعات الإرهابية كداعش، وحزب التحرير، والجماعة الإسلامية، والوهابيون والسلفيون ... إن ما تقترفه داعش من فظاعات وجرائم يجد أساسه في التاريخ والفقه الإسلامي، وهي تعيد إنتاجه وتكريسه، وتجديده، فأصبحت الجزية حاليا تساوي 450 دولار شهريا في العراق، فرضتها داعش على المسيحيين، ما دفع الألوف منهم إلى ترك منازلهم وكنائسهم وممتلكاتهم وأرزاقهم وعملهم، والهجرة نحو المجهول. إن الدواعش هم نتاج هذا الفكر العدواني المتزمت، وهذه العقلية الإرهابية، عقلية : الكافر، المشرك، التحريم ... فحرموا كل شيء في الدنيا، الفن، الرسم، النحت، الموسيقى، الإبداع... إن هذه العقلية السلفية هي المستنقع الراكد الذي فرخ الدواعش، ولديه القدرة على تفريخ آخرين، ما لم يطمر، ويحول إلى مجرى ماء عذب سلس. إن فكر ابن تيمية السلفي يدرس بصفة رسمية في الجامعات، وتنجز فيه البحوث والدراسات، ويمنح الشواهد والتقدير. كما أن الفكر الوهابي الذي أنتج جماعات إرهابية كالقاعدة له دولة تحميه وتشرعنه. كما أن أفكار سيد قطب التكفيرية والجهادية فرخت جماعات عدة كالجماعة الإسلامية التي سميت "بجماعة التكفير والهجرة"، بزعامة شكري مصطفى، الذي كفر جميع الأمم والدول والشعوب وشرعن للقتل والتنكيل. إن هذه الجماعات الإرهابية المتطرفة، تفرخ أكاديميا وجامعيا من خلال تدريس وتلقين تراث فقهي جهادي خطير، فهي تغرف من نفس النبع، الذي يمنحها المسوغ والشرعية والمشروعية والحق في ارتكاب جرائمها. فهناك كم هائل من التراث الفقهي والكتب والفتاوى وآراء الفقهاء، وسنويا يتم منح شهادات جامعية عليا وبميزات ودرجات مرتفعة، كما تنظم ندوات ومحاضرات ودراسات وخطب. إن هذا الأمر مثير للاستغراب والتساؤل، كيف يتم إنتاج وتفريخ هؤلاء الإرهابيين، لتتم محاربتهم بعد ذلك. إن الخطورة تكمن في تأثير هذا الفكر على الأطفال والأجيال القادمة، إنه بمنظومتنا التعليمية وسياساتنا الثقافية واستراتيجياتنا التربوية، سنحدد ماهية الإنسان والمجتمع الذي نريده للسنين القادمة. لقد آن الأوان لتبني سياسات عمومية واضحة ودقيقة لمحاربة التخلف والجهل والتطرف، كما أنه إلى جانب الحذر الأمني، لا غنى عن الحذر الفكري والثقافي والإيديولوجي.