تواترت خلال هذه السنة سلسلة من الأعمال الإرهابية عبر مناطق من العالم، أعلن ما يسمى "تنظيم الدولة الإسلامية" مسؤوليته عنها. ويتعلق الأمر بالعملية التي نظمت يوم 26 يناير في سوسة بتونس، والتفجير الذي عرفته أنقرة في 10 أكتوبر، ثم تفجير الطائرة الروسية فوق سيناء في 31 أكتوبر، وعملية بيروت في 12 نونبر، قبل أن تتعرض العاصمة الفرنسية باريس لسلسلة من الاعتداءات في 13 نونبر؛ دون نسيان بعض العمليات التي تبنتها حركات إرهابية أخرى كما هو الأمر بالنسبة للاعتداء ضد شارلي إيبدو، وأخيرا ضد فندق راديسون في باماكو، عاصمة مالي، التي تبنتها حركة المرابطون التي يتزعمها الجزائري مختار بلمختار. تؤكد هذه الأعمال التي خلفت مئات الضحايا الأبرياء مرة أخرى أن الحركات الإرهابية، وفي مقدمتها "داعش"، ما زالت قادرة على تنفيذ عملياتها الهادفة إلى زعزعة الاستقرار وخلق جو من الرعب لدى المواطنين، وربما إقرار حالة من الريبة والتوجس والانقسام الاجتماعي، كما هو الأمر بالنسبة للعمليات الموجهة ضد فرنسا، لكنها تطرح من جديد قدرة المجتمعات، سواء منها الوطنية أو الدولية، على مواجهة هذا الوباء الذي يهدد الإنسانية برمتها. وتطرح الإجراءات المتخذة نقاشات جوهرية حول تلاؤمها مع متطلبات احترام القانون، سواء تعلق الأمر بالقانون الداخلي أو الدولي. ومن جهة أخرى فإن هذه المواجهة لا يمكن أن تكون مجدية إذا لم تعالج بشكل جماعي بؤر التوتر، والتي تشكل منطلقا ومرتعا لحركة "داعش"، مما يطرح التساؤل حول مدى توفر إمكانيات فعلية لقيادة تحالف ضد هذه الحركة وغيرها من التنظيمات الإرهابية. لذلك سنسعى في هذه المساهمة إلى مناقشة بعض القضايا المرتبطة بتفاعل القانون مع الإرهاب، على أن نخصص الجزء الثاني للأبعاد الإستراتيجية والدبلوماسية المرتبطة بمحاربة الإرهاب. 1 الإرهاب وتحدي القانون في مواجهة مثل هذه الأعمال الفظيعة والمدانة، غالبا ما يتم اللجوء إلى اتخاذ إجراءات تسعى إلى ترسيخ سلطة الدولة لحماية أمن المواطنين ومناهضة الإرهاب. وقد اضطر الرئيس الفرنسي إلى إعلان حالة الطوارئ استنادا إلى قانون صادر في سنة 1955، كما أن البرلمان مرر قانونا بتمديدها لمدة ثلاثة أشهر؛ مما سيوفر تسهيلات لقوات الأمن للقيام بأعمال كانت تتطلب إذنا من النيابة العامة، كما هو الأمر بالنسبة للوضع تحت الإقامة الجبرية، والتفتيش والمداهمات. أكثر من ذلك من المنتظر أن تعرف فرنسا تعديلا دستوريا قد يدستر حالة الطوارئ المدنية؛ وذلك لملء الفراغ الدستوري الذي لا يتضمن إلا حالتي الاستثناء والحصار. وهما وضعيتان لا تنطبقان على ما شهدته فرنسا إلى حد الساعة؛ فضلا عن ذلك قد تتوجه النية إلى تجريد الفرنسيين من الجنسية، ولو كانوا من مواليد فرنسا، المزدوجي الجنسية، في حالة ارتكابهم أعمالا إرهابية أو المس بالمصالح الأساسية للبلاد؛ علاوة على إقرار ما قد يسمى بتأشيرة العودة، وهي رخصة ينبغي أن يحصل عليها كل فرنسي اتهم بارتكاب أعمال إرهابية خارج التراب الفرنسي. هذه الإجراءات تبين أن الدولة يمكن لها في ظروف استثنائية، كما هو الأمر بالنسبة للحرب أو تهديد يمس سلامة الأمة، أن تقر استثناءات قد تقيد بعض الحقوق، كما هو الأمر بالنسبة للحرية الشخصية، أو حرية التعبير، أو حرية التنقل، شريطة أن لا تفضي إلى ممارسات تمس بالكرامة الإنسانية، أو تؤدي إلى أفعال مهينة، كما هو الأمر بالنسبة للتعذيب. ورغم أن الإجراءات المذكورة تريد أن تخلق تطابقا بين دولة القانون ووضعية الاستثناء، فإنها تثير تحفظ البعض، باعتبار أنها قد تضعف من قوة القضاء الذي يعتبر من السلطات المراقبة لاحترام ممارسة الحقوق والحريات، ومن ثم هناك سعي إلى عدم المغالاة في الإجراءات الأمنية، حتى لا تضعف بشكل واضح سلطة القانون، كما حصل في الولاياتالمتحدة، عندما تم تبني قوانين أضرت بحقوق الموطنين، كما هو الشأن بالنسبة إلى Patriot Act، وبالنسبة إلى مفهوم "المحارب العدو" الذي وصف به المعتقلون من أفغانستان، الذين وضعوا في سجن غوانتنامو دون تمتيعهم بالحقوق التي يوفرها القانون الدولي الإنساني. لذلك، فإن هذه الإجراءات قد تشهد نقاشات مهمة تتوخى خلق التوازن الضروري بين حماية الحقوق والحريات، ومتطلبات ضمان الأمن والطمأنينة للمواطن. لكن فضلا عن ذلك، هناك من يشكك في هذه الإجراءات من زاوية مدى نجاعتها في مناهضة الإرهاب، ويعتبر أن القوانين التي تم سنها ما فتئت تتزايد دون أن يكون لذلك علاقة طردية مع الحد من هذا الوباء، الذي بات يشكل تهديدا للأمن والسلم العالميين. لا يشكل الإرهاب تحديا فقط للقانون الوطني، لكنه يستنطق أيضا القانون الدولي وبالرغم من استعمال مصطلح الحرب ضد الإرهاب، فإن الأمر يتعلق باستعمال سياسي أكثر من كونه قانونيا. فمفهوم الحرب ضد الرعب استعمله الرئيس الأمريكي جورج بوش بعد هجمات 11 شتنبر 2001، وهو الذي أدى، كما أشرنا، إلى استصدار قوانين وتبرير ممارسات أضرت بالديمقراطية الأمريكية، وقد تكون ساهمت خارجيا، وبشكل غير مباشر، في تأجيج الإرهاب، وإبراز وتقوية حركة "داعش"، خاصة بفعل العدوان على العراق في سنة 2003، الذي أفضى إلى الإطاحة بالرئيس صدام حسين، وما نتج عنه من تمزق وصراع إثني نتيجة السياسة الطائفية التي نهجها الوزير الأول السابق، الشيعي نور المالكي. والقول بالحرب ضد الإرهاب يبقى أمرا واسعا وغامضا، فالإرهاب عدو متعدد الوجوه والأبعاد، وليست له حدود واضحة، إذ لا يتعلق الأمر بجيش نظامي؛ لذلك يصعب من زاوية القانون الدولي الحديث عن الحرب ضد الإرهاب، طالما أن الأمر لا يتعلق بمواجهة بين جيشين نظاميين ينتميان إلى دولتين مختلفتين. وحتى عندما وصف الرئيس الفرنسي اعتداءات باريس بكونها "تصرف حرب"، لم يكن يقصد الحرب بمفهومها التقليدي؛ وإلا كان ذلك يتطلب موافقة من البرلمان الذي وحده له صلاحية إعلان الحرب، وفقا للمادة 35 من الدستور الفرنسي. الأمر يتعلق باستعمال رمزي يهدف إلى تعبئة واسعة لكافة الموارد لمواجهة هذا الخطر الداهم. من الواضح أنه لا يوجد قانون دولي خاص بالإرهاب، إذ فشلت الجهود الدولية إلى حد الساعة في التوصل إلى معاهدة دولية شاملة لمناهضة هذا السرطان؛ لكن ذلك لا ينفي أن هناك مجموعة من المقتضيات المخصصة للإرهاب، والتي توجد في مجموعة من الفروع المكونة للقانون الدولي، كما هو الأمر بالنسبة للقانون الجنائي الدولي، والقانون الإنساني، وقانون حقوق الإنسان، وكذلك القوانين المتعلقة باللاجئين. وعلى هذا المستوى يطرح السؤال لمعرفة ما إذا كان من الممكن توصيف مناهضة الإرهاب بأنه نزاع مسلح دولي أم لا. قد يكون الجواب بالنفي، فالتدابير التي تتخذها الدول لمنع الأعمال الإرهابية أو قمعها لا تصل حد النزاع المسلح؛ لكن مع ذلك يتمتع جميع الأشخاص المحتجزين خارج النزاع المسلح في إطار مكافحة الإرهاب بالحماية بموجب القانون الداخلي، لاسيما إذا كان مرتكبو هذه الأعمال يحملون جنسية الدولة التي ارتكبوا ضدها هذه الأعمال الإجرامية. ففي هذه الحالة يبقى القانون الوطني هو الضابط لهذه الأفعال. علاوة على ذلك بات من الضروري إعادة تعريف مفهوم الحرب، طالما أن الإرهاب لا يدخل لا ضمن الحرب التقليدية، ولا الحرب الأهلية، وإن كان يشترك معها في نزعته نحو التدمير. وعندما تواجه الدولة أعمالا إرهابية، كما هو الأمر بالنسبة لفرنسا، فبإمكانها التحرك في إطار الدفاع الشرعي طبقا للمادة 51 من الميثاق؛ وهو أمر مبرر إذا كانت الدولة التي أنطلق منها التهديد ليست لها الإرادة، أو توجد في وضعية إعاقة لمنع الأعمال العدوانية الصادرة من ترابها. في هذا الإطار تمكنت فرنسا من استصدار القرار رقم 2249 في 20 نونبر، والذي اعتبر من خلاله مجلس الأمن أن هذه الاعتداءات وغيرها تشكل تهديدا عالميا غير مسبوق للسلم والأمن الدوليين، ومن ثمة أجاز للدول اتخاذ كافة الإجراءات لمواجهة "داعش"، وذلك وفقا للقوانين الدولية، ولاسيما ميثاق الأممالمتحدة وحقوق الإنسان، والقانون الدولي الإنساني، وقواعد اللاجئين. لكن هذا القرار ظل غامضا وفضفاضا، ويسمح بقراءات متنوعة. لا يمنح بصريح العبارة تفويضا عسكريا ضد الدولة الإسلامية، ولا يحيل إلى الفصل السابع الذي يجيز استخدام القوة العسكرية؛ لكن فرنسا اعتبرته بمثابة إطار قانوني وسياسي للتحرك الدولي ضد تنظيم الدولة الإسلامية، واجتثاثها من ملاذها في سورياوالعراق؛ وهو موقف لا تشاطره روسيا التي اعتبرت أن هذا النص لا يتضمن سوى دعوة سياسية لا تغير الموقف الروسي التقليدي القائم على احترام سيادة الدولة، أو بشكل أدق سيادة النظام القائم. هذا الاختلاف في التفاعل مع المقتضيات القانونية يتعمق أكثر في ما يتعلق بالإستراتيجية الملائمة لمواجهة هذا التهديد الإرهابي. 2 أي إستراتيجية لمواجهة الإرهاب؟ لقد ترسخ الاقتناع بأنه لا يمكن مناهضة مثل هذه الأعمال بدون التحرك ضد قلب هذه الحركة الذي يوجد اليوم في سورياوالعراق؛ لكن هذا الاقتناع الذي يمكن التنظير له بسهولة ويسر ليس بنفس السهولة من الناحية العملية؛ فالعمليات الإرهابية التي تبنتها حركة "داعش" في حد ذاتها قد يمكن قراءتها على أن هذه الحركة ما زالت تملك الموارد الضرورية المنتشرة عبر العالم لزعزعة الاستقرار. وإذا سايرنا هذا المنطق يطرح سؤال حول نجاعة التحالفات المختلفة التي تقود عمليات عسكرية جوية. لحد الساعة، رغم آلاف الضربات التي يقوم بها التحالف التي تقوده الولاياتالمتحدة، وكذلك الضربات التي تقوم بها روسيا منذ أكتوبر الماضي، فإننا لا نتوفر على حصيلة كافية عن الخسائر التي ألحقتها بهذا التنظيم، وهل تمكنت من النيل من قدرته على التحرك، وعلى استمرار بسط هيمنته على المناطق التي احتلها. لذلك هناك اليوم اتفاق على أنه لامناص من العمل على الواجهتين الدبلوماسية والعسكرية لخلق جبهة ما زالت غير محددة الأبعاد، وما زالت تطرح إشكالات تعكس تعقد هذا الملف. على المستوى الدبلوماسي، يبدو واضحا أن التطورات الأخيرة التي عرفها الملف السوري، وخاصة توسع تهديدات تنظيم الدولة الإسلامية، وقيامه باعتداءات إرهابية ضد مجموعة من الدول، وتدخل روسيا بقوة لإنقاذ النظام السوري، قد غيرت من أولوية الصراع. فهناك اقتناع عالمي مشترك بالمخاطر التي يرتبها استمرار هذه الجماعة الإرهابية؛ فحتى بالنسبة للغربيين الذين ظلوا منقسمين، فإن الأولوية لم تعد اليوم إسقاط بشار الأسد كشرط مسبق لكل تسوية، وإنما مناهضة حركة "داعش"، وبالتالي إمكانية القبول بمسلسل سياسي قد يترك بشار الأسد كطرف. لكن ما هي طبيعة الدور الذي سيضطلع به في المرحلة الانتقالية؟ وما هي تفاصيل العملية السياسية؟ وطبيعة الدور الذي ستقوم به المعارضة المعتدلة في المستقبل السياسي لسوريا؟. هذا الوعي بالعدو المشترك لا يخفي استمرار التناقضات في ما يتعلق بكيفية مواجهته بشكل مشترك، إذ هناك صعوبات واضحة تتمثل في كيفية توحيد أو على الأقل تنسيق جهود كافة الأطراف الذين تختلف مصالحهم وأولوياتهم وحساباتهم الجيو إستراتيجية، وهناك الكثير من الغموض والتناقض في سلوك كل طرف على حدة. فما الذي يجمع مثلا بين سلوك المملكة العربية السعودية وقطر، المتهمتين بتمويل الحركات الجهادية، وبين روسيا التي تريد قيادة تحالف يتضمن بشكل واضح نظام بشار الأسد، وإيران ومصر التي تتهم قطر بالتورط في الأعمال الإرهابية التي تقودها الحركات الموجودة في سيناء، والتي فجرت الطائرة الروسية؟. وكيف يمكن جمع الولاياتالمتحدةوروسيا في تحالف موحد؟ الشرق الأوسط يغلي بالنزاعات والتوترات بشكل يجعل من الصعب بناء تحالفات مستدامة وثابتة؛ لذلك يبدو من الصعب اليوم الحديث عن تحالف عالمي لمواجهة تنظيم الدولة الإسلامية؛ لكن ذلك قد لا يلغي إمكانية تجميد بعض التناقضات لتيسير اتفاق قد يسهل الرد العسكري. منذ أكثر من سنة، توالت الضربات العسكرية ضد تنظيم الدولة الإسلامية، وهناك تحالفان: الأول واسع تقوده الولاياتالمتحدة، والثاني تديره روسيا. وقد تجاوزت الضربات الجوية أكثر من 9 آلاف، ثلثاها ضد مواقع "داعش" في العراق، والباقي في سوريا. وربما كانت النتائج إلى حد الساعة محدودة، أبرزها ما تمثل في مساعدة الأكراد على استرجاع مدينة كوباني. وبفعل تنوع القوى الضاربة، تبرز ضرورة تنسيق الأهداف، ومنع وقوع حوادث من شأنها أن تؤزم العلاقات بين الأطراف المشاركة في هذه الضربات، اعتبارا لكونها تتم في إطار قانوني غامض تسعى كل دولة إلى تأويله لتبرير سلوكها، خاصة على الجبهة السورية، إذ إن نظام بشار الأسد لم يسمح إلى حد الساعة بتدخل دولي على خلاف ما فعله العراق. لكن بصرف النظر عن مسألة نجاعة هذه العمليات في الحد من نفوذ مقاتلي الدولة الإسلامية، فإن هدف القضاء على هذه البؤرة الإرهابية واجتثاث وجودها يبقى رهينا بتدخل بري، وهنا يكمن مربط الفرس، وتبرز إلى حد الساعة محدودية الإستراتيجية العسكرية. فالدول الغربية ترفض إلى حد الساعة فكرة تدخل قواتها بريا لمواجهة مقاتلي الدولة الإسلامية، وتتحجج بكون كل إجراء من هذا القبيل قد يكون غير منتج وقد يؤجج مشاعر كراهية المسلمين للغرب، باعتبار أن ذلك قد ينظر إليه كحرب صليبية جديدة؛ وهي في الواقع تتخوف من استنزاف لقواتها كما وقع في حالات أخرى كأفغانستانوالعراق بالنسبة للقوات الأمريكية، دون أن تحقق الأهداف المنتظرة. في الوقت التي تستبعد كل تدخل بري، فإن هذه الدول ترى أن هذه المهمة ينبغي أن تناط بقوات عربية وإسلامية مجاورة، قد تكون فقط مدعومة لوجستيكيا من الغرب والقوى الأخرى؛ لكن هذا الخيار يبدو مستبعدا لاعتبارات متعددة، أهمها أن الكثير منها إما متورط في صراعات مع خصوم آخرين، أو أنه لا يرى مصلحة في ذلك، خاصة إذا لم يتم التوصل إلى اتفاق سياسي قد يشكل خارطة للطريق بالنسبة إلى جميع الأطراف. وحتى تحقيق ذلك، سيظل الإرهاب الذي تقوده بقوة حركة "داعش" حاضرا، وقادرا على تهديد كافة الدول، مما يفرض الكثير من اليقظة والحذر والاستباق، لإفشال مخططات أعداء الحياة.