(2/3) مصدر الإلهام: الطبيعة والأم: بقراءة أولى للنصوص القصصية لأمسبريذ، نلاحظ الحضور القوي والطاغي للطبيعة في هذه الكتابات القصصية، حتى أنه يمكن اعتبارها من أبطال القصة الرئيسيين. فالكاتب يصوّر لنا عناصر الطبيعة بشكل مؤثر وملموس. فيرسم لنا لوحات حية عن الضباب، والسحاب، والجفاف، والمنعرجات، والوديان، والجبال، والنجوم، والمسالك، والنباتات، والورود، وعيون الماء، والشتاء والصيف، وضوء النهار، وظلام الليل... إنه يعرف الطبيعة معرفة حميمية، وعن ظهر قلب، كما يعرف أطراف جسده. ففي القصة/ المأساة التي تحمل عنوان "ثوقّات" ("الخطب الجلل"، منشورة بالعدد 141 من "تاويزا" لشهر يناير 2009)، عندما قرر بطل القصة "بادي" (هذا الاسم يتكرر مرارا في قصصه) الانتحار بعد أن عاد من الجزائر حيث كان يعمل عند الفرنسيين فوجد حبيبته قد تزوجت بغيره، لم يأسف فقط على فراق تلك التي كان حبه لها علة وجوده، بل تأسف أيضا، وفي مونولوج يناجي فيه ذاته، على فراق الأشجار التي غرسها وأكل من ثمارها، والأمكنة التي ألفها، والصخور التي جلس عليها، والعيون التي ارتوى منها، والجبال التي تسلقها... وكل ما فوق تلك الأرض التي كانت بمثابة جزء منه، والتي كان يحنّ إليها بقدر حنينه إلى "مونّا" عندما كان يشتغل بالجزائر الفرنسية. فرغم أن موضوع القصة هو انتحار الشاب "بادي" بعد أن خذلته "مونّا"، إلا أن الكاتب عرف كيف يوظّف القصة، ولو بشكل غير مباشر، للاحتفاء بالطبيعة وإبرازها كموضوع للحب والعشق لدى الإنسان. كذلك في قصة "أوسّان" ("الأيام"، متوفرة على الرابط: http://tawiza.x10.mx/1tawiza-articles/tamazight/amsbrid.htm)، التي تتحدث عن هجرة إحدى الأسر القروية (الزوجة "مونّا" وزوجها المسنّان) إلى المدينة، يقدّم الكاتب، وبتمكّن الخبير المتضلّع، وصفا دقيقا لأدوات الفلاحة واستعمالاتها لتهيئة الأرض وتحويلها إلى ضيعة من الأشجار المثمرة. كما يحكي لنا عن اشتياق تلك الأسرة، المقيمة بالمدينة، إلى رائحة التربة المبللة بالرذاذ، وإلى عناقيد العنب المغشاة بالندى المضبّب للصباح... هنا في "الأيام"، وبسبب الهجرة إلى المدينة، يشكّل غياب الطبيعة، بأرضها وأشجارها وفواكهها ومياهها وحيواناتها وروائحها وألوانها وأنشطتها الفلاحية...، أحد أسباب المأساة الحقيقية لتلك الأسرة، كما سردها لنا أمسبريذ بشكل يدمي القلب ويحزن العقل. وقد سبق أن رأينا كيف يقيم الكاتب، في قصة "نساء من الصوف"، موازاة بين ملامح السكان وملامح الأرض، حيث تحدد حالة هذه الأخيرة (خصوبة، جفاف...) الحالة النفسية، وحتى الجسدية (المرض، الصحة، الشحوب...)، لهؤلاء السكان: فعندما تكون الأرض خضراء زاهرة، أو جرداء مجدبة، تكون وجوه السكان بشوشة منشرحة، أو عبوسة منقبضة. فالأرض، كطبيعة، حاضرة بقوة، تكاد تتحكم في مصير الناس، وتوجّه مستقبلهم ومآلهم. وقد خصص الكتاب نصا رائعا (منشور بالعدد 31 من "تاويزا" لشهر أكتوبر 1999 بعنوان "طوطّويويو") لنوع من النبات يسمى في الريف "طوطّو يويو"، وهو، كما يشرح الكاتب، اسم مركّب يتكون من "طوطّو (عين الإبصار) و"يويو" (الزغردة)، لأن أزهاره منفتحة ومتجهة دائما نحو السماء بشكل عمودي، كما لو أنها تنظر إلى السماء وهي تزغرد. بطل هذا النص هو "طوطّو يويو" نفسه، الذي يمثّل، كما يوضّح الكاتب، التحدّي والاستقلالية والحرية، لأنه، كما كتب أمسبريذ، يترعرع في الأماكن الصخرية، وينمو ويزهر في فترات الجفاف، ولا يحتاج إلى عناية أو أسمدة أو تربة خصبة. وفي نفس النص يقارن الكاتب هذا النبات بغيره من النباتات "الهشة" و"الضعيفة"، التي يتوقف نموها وحياتها على غيرها، لأنها تحتاج إلى من يعتني بها ويسقيها، وإلى مطر وتربة خصبة مناسبة، عكس "طوطّو يويو"، المنتصب المستقيم، الساخر من الناس ومن النباتات الأخرى. في هذا النص يتحدث الكاتب عن النباتات بأنواعها وأعدادها كعالم مختص في النباتات، عارف بخصائصها وأشكالها والفوارق في ما بينها، وكل ذلك باللغة الأمازيغية، وهو شيء يبهر ويدهش ولا يكاد يُصدّق. هذا الاستحضار للطبيعة، بمظاهرها وعناصرها، في كتابات أمسبريذ، لا تهم إلا لأن هذا الاستحضار يمر عبر استعمال اللغة الأمازيغية المناسبة لذلك. مما يجعل المعجم المستعمل من طرف الكاتب غنيا ومتنوعا في التعبير عن الطبيعة وتسمية عناصرها وملحقاتها. فمعرفته الحميمية بالطبيعة، كما قلت، تترجم إلى معرفة حميمية بالمعجم الأمازيغي للطبيعة، الذي يمثّله القاموس الفلاحي للغة الأمازيغية الذي يضبطه ويتقنه الكاتب. وهو قاموس اكتسبه من داخل البيئة الفلاحية الطبيعية للبادية، التي تعتبر "مملكة" للغة الأمازيغية. وهنا تكون الطبيعة، بمسمياتها ومصطلحاتها، مصدر إلهام للكاتب لأنها تمدّه باللغة التي يكتب بها ويصف بها الطبيعة. ولهذا فبقدر ما هو عارف بالطبيعة وظواهرها ودقائقها وأحوالها، فهو عارف كذلك بنفس القدر باللغة الأمازيغية المعبّرة عن تلك الطبيعة، هذه اللغة المتمثلة، كما سبقت الإشارة، في القاموس الفلاحي الذي يحفظه الكاتب عن ظهر قلب، ويجيد توظيفه واستعماله ببراعة وتفوّق. لا يضاهي حضورَ الطبيعة في الكتابات القصصية لأمسبريذ، إلا حضور شخصية الأم، التي لا تكاد تغيب من كتاباته القصصية التي يكون بطلها هو الكاتب نفسه، كما يكشف عن ذلك استعماله لصيغة المتكلم، فضلا عن إفراده قصة خاصة بالأم سمّاها "إينوجيون ن وغلّوي" ("ضيوف الغروب"، منشورة بالعدد 152 من "تاويزا" لشهر دجنبر 2009). وإذا كان هذا الحضور للأم شيئا طبيعيا ومفهوما ما دام الكاتب يحكي عن مرحلة الطفولة، التي يكون فيها الطفل لا زال تحت رعاية وحماية أمه المباشرتين والدائمتين، إلا أن ذلك الحضور يتجاوز الأم كارتباط بيولوجي وسيكولوجي، ليشكّل ارتباطا لسانيا ولغويا، ومصدرا آخر للإلهام، لأنه منها اكتسب لغته الأمازيغية، كما تعلّم جزءها الآخر من الطبيعة ومن الأرض، كما سبق شرح ذلك، وهو ما مكّنه من معجمها الفلاحي الذي يعبّر عن هذه الطبيعة، التي تشكّل الأرض عمقها وأصلها. وهكذا تشكل الأم والطبيعة واللغة (الأمازيغية طبعا) ثلاثة عناصر مترابطة يؤدي أحدها إلى الآخر. وهذا أحد الأسباب التي تفسّر، في نظري، معرفة الكاتب الحميمية والعميقة باللغة الأمازيغية، وإتقانه الكتابة بها كأنها لغة مارست الكتابة منذ قرون، كما سبقت الإشارة، ذلك لأنه استقى هذه اللغة من مصادرها الطبيعية: الأم والأرض. التحولات الاجتماعية والثقافية من خلال القصة: الكتابة القصصية لأمسبريذ ليست فنّا روائيا فحسب، بل هي تتضمن، وبشكل عفوي قد لا يكون الكاتب قصد ذلك قصدا، "تأريخا" للتحولات الاجتماعية والاقتصادية والثقافية واللغوية التي عرفتها منطقة الريف الشرقي ابتداء من أواخر الستينيات، حيث بدأ الكاتب يعي ويستوعب ما يجري حوله وهو لا يزال طفلا (ولد "رسميا" في 1963). فقد رأينا، في قصة "نساء من الصوف"، كيف أن دخول الأفرشة الاصطناعية الإسبانية زعزع النشاط الاقتصادي الذي كان يقوم على صناعة الأفرشة الصوفية المحلية، والتي كانت مصدر عيش العديد من الأسر التي كانت تمتهن هذه الحرف التقليدية العريقة. وقد كان اختفاء هذه المهن وراء الهجرة إلى الخارج والهجرة الداخلية إلى المدن، مع ما رافق ذلك من تحول في البنية الاجتماعية وانعكاساتها السلبية على اللغة الأمازيغية. إلا أن التحولات الأهم، التي نلمسها في مجموعة من الكتابات القصصية لأمسبريذ، تخص الثقافة واللغة الأمازيغيتين، اللتين عرفتا تراجعا ملحوظا أمام زحف التعريب وانتشار ثقافة التطرف ذات الأصول المشرقية. فقد رأينا، في قصة "ميمون أيناو" (ميمون الأبكم)، كيف كانت المدرسة العمومية أداة لمحاربة الحديث بالأمازيغية، حيث صفع المعلم "سّي محمادي" الطفل/أمسبريذ وهو يزجره: "ما تهدرش شّلحا أ لمحار". وتتواصل تلك المحاربة بشكل ممنهج ومخطط مع انتشار التعليم العمومي وإنشاء مزيد من المدارس في القرى والبوادي، كما تخبرنا بذلك قصة "إيسفّارن ن ييلس" ("مقوّمو اللسان"، منشورة بالعدد 72 من "تاويزا" لشهر أبريل 2003)، التي يحكي فيها الكاتب، على لسان أحد أشخاص القصة، كيف أن تعلّم العربية كان بمثابة «تقويم لاعوجاج لساننا حتى نتكلم بالطريقة السليمة». وقد كان التلاميذ، عندما يضطرون، لسبب من الأسباب، إلى الكلام بالعربية خارج قاعة الدرس، يستعملون، لجهلهم للدارجة، العربية المدرسية التي تعلموها في المؤسسة التعليمية. ولما اعتقل رجال الدرك الشابين "بادي ن حدّو"ّ و"أمحمد أقوظاظ" للاشتباه في علاقتهما بسرقة منزل "بويرغمان"، طرحوا عليهما مجموعة من الأسئلة بالدارجة طبعا، وهي لغة يجهلها الشابان اللذان لاذا بالصمت، أو ردّا ببعض الكلمات غير المفهومة التي تعلموها في المدرسة. وهو ما أغضب رجال الدرك المستنطقِين، فانهالوا عليهما بالضرب المبرّح ثم أطلقوا سراحهما. ولما التقى بهما أصدقاؤهم، ومنهم التلميذ أمسبريذ، ورأوا آثار الضرب والكدمات على وجوههما، سألوهم عن سبب ومصدر ذلك، فأجابا بأن العربية التي تعلموها في المدرسة «لا تنفع ولا تصلح عند رجال الدرك الذين يتكلمون نفس اللغة التي يتكلمها الباعة المتجولون ("إزوّاجن" في النص، كما يسمون بالأمازيغية) الذين يطوفون على المساكن». هنا يبرز الكاتب، وفي قالب قصصي، تناقضات ومفارقات السياسة التعليمية واللغوية الفاشلة التي نهجتها دولة الاستقلال. وفي قصة "أورار ن بادي" ("عرس بادي"، منشورة بالعدد 178 من "تاويزا" لشهر فبراير 2012)، يحكي الكاتب كيف أن حتى التكنولوجيا، من خلال وصول منتوجاتها إلى البادية الأمازيغية، ساهمت في تراجع الثقافة الأمازيغية واختفاء العديد من مظاهرها كالغناء والرقص مثلا. فمع انتشار آلة الأسطوانات الغنائية Tourne – disques، بدأت النساء والرجال يكفّون تدريجيا عن الغناء، ويكتفون بتشغيل تلك الآلة للاستماع إلى الأغاني التي يختارونها حسب ما توفره الأقراص. وينقل لنا الكاتب أن عرس بادي (عنوان القصة) كان أول عرس شهده، وهو مراهق، لم تغنّ فيه النساء، لأن "بادي" ربط أسطوانة الغناء ببوق التف حوله الحاضرون للاستماع إلى «مغنيات بلا وجوه»، كما يصفهن الكاتب. في قصة "أرّوذ ن ومرابظ" ("كسوة الضريح"، منشورة بالعدد 177 من "تاويزا" لشهر يناير 2012)، يروي كيف أن الجميع كان يستمع ويستمتع ، بفضل انتشار أشرطة التسجيل الغنائية، بأغاني المغنّيتين الشهيرتين، آنذاك، "يامنا الخمّارية" و"ميمونت ن سلوان"، اللتين كانت أغانيهما تصدح في كل منزل وأيضا في سوق الثلاثاء الأسبوعي. إلا أن الأشرطة الغنائية لهاتين المغنّيتين بدأت تتناقص وتختفي شيئا فشيئا بالمنازل والأسواق، بعد أن ظهرت أشرطة أخرى جديدة منافسة. إنها أشرطة الشيخ "كشك" الدينية، والتي أصبحت حديث الناس الذين لم يعودوا يتحدثون في ما بينهم عن الحرث والحصاد والري وشؤون الفلاحة، كما كانوا يفعلون سابقا. ولكثرة انتشار هذه الأشرطة، وما صاحبها من انتشار لفهم متطرف للإسلام، أصبحت الألفاظ العربية "بدعة"، "كفر"، "حرام"، جزءا من المعجم الأمازيغي نفسه. وحتى النساء لم يعدن يستعملن، لتحية بعضهن البعض، عبارة "عاونك" (أعانكن الله)، إذ أصبحن يستعملن بدلها عبارة "السلام عليكم"، التي كانت من قبلُ خاصة بالرجال. هكذا "تؤرخ" الكتابات القصصية لميمون أمسبريذ لمجموعة من التحولات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والدينية واللغوية والهوياتية، التي عرفتها بادية وقرى الريف الشرقي، وخصوصا منطقة الناظور، دون أن يكون ذلك قصد الكاتب، كما سبق أن أشرت، وإنما يشكّل جزءا من سياق وأحداث القصة. لا وجود للخيال، فكل شيء حقيقي وواقعي! إذا كنا نجد في الكتابات القصصية لأمسبريذ نوعا من "التاريخ" الاجتماعي والثقافي الحقيقي، فذلك لأنه يكتب بواقعية وعن شيء واقعي، وليس عن أحداث وأشخاص افتراضييْن وخيالييْن. قصصه شيء معيش، وحاصل، وواقع، وحقيقي. هذه هي القناعة والخلاصة اللتان تفرضهما على القارئ كتاباته القصصية. فهل يعني هذا أن عنصر الخيال غائب نهائيا في الكتابة القصصية لأمسبريذ؟ وهل يمكن أن يغيب الخيال نهائيا عن الفن والإبداع؟ الخيال غائب عند أمسبريذ، ليس بالمعنى المطلق للغياب، وإنما هو غائب عند القارئ لكتابات أمسبريذ، ذلك لأن هذا الأخير يجعل مما قد يكون خياليا حقا، ليس مجرد حالة ممكنة الوقوع، بل يجعل منه شيئا واقعيا وحقيقيا عند القارئ، الذي لا يشك لحظة أن ما يقرأه هو شيء حصل ووقع بالفعل. وهنا يمحو أمسبريذ، بقدرته الإبداعية الفائقة، الحدود بين الخيال والواقع، بجعل الخيال نفسه واقعا. فمثلا في قصة "ثازورا" ("السرطان"، منشورة بالعدد 115 من "تاويزا" لشهر نوفمبر 2006)، يتحدث الكاتب عن نفسه عندما صارحه الطبيب، بالمستشفى الذي كان يرقد فيه ببلجيكا، بأن مرضه لا علاج له، وأن حالته ميؤوس منها، وأن أيامه معدودة وقصيرة... وقبل أن ينهي الطبيب كلامه، بدأ المريض يرى الضباب يملأ القاعة شيئا فشيئا. ثم فجأة اختلط ضباب القاعة بضباب بلدة "تاغزوت"، حيث عاش وكبر. وهنا بدأ يشاهد شريط حياته يُعرض أمامه كما لو أنه يعيشها للمرة الثانية. فرأى أمه تحصد الزرع، وتطحن الحبوب، وتحلب البقرة، وتسقي الماء من العين... رأى أباه يمتطي بغلتهم البيضاء ويغادر المنزل، رآه يحرث الأرض ويدرس الزرع... رأى نفسه جالسا في الكتّاب القرآني أمام المعلم "سّي حدّو أقوظاظ"، وهو يشبعه ضربا بسبب "تعثّر" لسانه كما كتب في قراءة الآيتين: «أولى لك فأولى، ثم أولى لك فأولى»... رأى نفسه يشتري كتاب "النبي" لجبران خليل جبران من سوق الثلاثاء الأسبوعي... رأى نفسه يهيم على وجهه في منطقة "كاطالونيا" بإسبانيا... رأى سكان "تاغزوت" يهيلون عليه التراب الأبيض لمقابر البلدة... في هذا النص القصصي، يوظف الكاتب معطى علميا ثابتا، وهو أن الإنسان عندما يدخل في غيبوبة أو احتضار، يتذكّر كل مراحل حياته التي يراها تمرّ أماه كفلم يمثّل هو بطله الرئيسي. وهذا ما جرى للكاتب وهو طريح المستشفى في حالة صحية ميؤوس منها. وحتى إذا عرفنا أن الكاتب لم يسبق أن أصيب بمرض قاتل كالذي وصفه له الأطباء، مما قد نستنتج منه أن القصة من إبداع الخيال، إلا أننا عندما نقرأ النص لا نجد شيئا يوحي لنا بأنها مجرد خيال، لأن الطريقة التي يكتب بها الكاتب لا تترك فرصة للخيال ليظهر أنه خيال، لأنها تمنح للخيال، إن كان هناك خيال، كل شروط ومظاهر الواقع الحقيقي، الفعلي والحدثي. وقد ذعرت عند قراءة القصة. فكتبت إليه رسالة "إمايل"، وأملي قليل في أن يقرأها ويجيب عنها، أستفسره وأطمئنه فيها، متمنيا أن يكون في قصة "ثازورا" من الخيال أكثر من الواقع. وأجابني ملتمسا مني، بناء على رد فعلي بعد قراءة نصه، حذف فقرة مفزعة في ذلك النص، حتى لا يهلع أقرباؤه ممن سيقرأ منهم القصة. وقد كان لافتا أنه استهل هذه القصة بقولة ل Arthur Rimbaud يقول فيها « Je est un autre » (أنا هو آخر). وهو ما يكون قد قصد منه أن القصة المعنية لا تخصه هو، بل تخص إنسانا آخر. وهذا طبعا مجرد تخمين وافتراض مني. هذه القصة نموذج لطبيعة الواقعية التي يكتب بها أمسبريذ، واقعية قد يصنعها الخيال الذي هو أصلا مناقض للواقع. ولهذا فالخيال، بمفهومه الروائي العادي المعروف، غائب في الكتابات القصصية لأمسبريذ، لأن الكاتب يحوّل هذا الخيال، ليس إلى مجرد واقع ممكن، بل إلى واقع فعلي ومتحقق بالنسبة للقارئ، كما سبق أن أوضحت. وما يصدق على قصة "ثازورا" قد يصدق أيضا على قصص مثل "ثوقّات" (الخطب الجلل)، "أوسّان" (الأيام)، "إيبريذن ن ولوم" ("ممرات التبن"، منشورة بالعدد 86 من "تاويزا" لشهر يونيو 2004)، "أطّاس ذي ذروس" ("الكثير في القليل"، منشورة بالعدد 146 من "تاويزا" لشهر يونيو 2009)... هذا التغييب للخيال، كخيال، في الكتابات القصصية لأمسبريذ، بجعله واقعا حقيقيا عند القارئ، يبرز التقنيات القصصية الإبداعية العالية عند أمسبريذ. وعندما نعرف أن أدبه القصصي مكتوب بالأمازيغية، التي لا تتوفر على تقليد كتابي ولا تراث أدبي مدوّن، لا يمكن إلا أن نعجَب من هذا العمل الفذّ والفريد، والذي لم يكن ممكنا إلا بالتقاء عبقريتين اثنتين، عبقرية اللغة الأمازيغية وعبقرية الكاتب أمسبريذ. الصدق والأصالة: إذا كانت قصص أمسبريذ كلها واقعية، بالمعنى الذي شرحناه، حيث يأخذ الخيالي نفسه بعدا واقعيا، فذلك لأنه يكتب بصدق Sincérité وأصالةAuthenticité . ولا يعني الصدق هنا مدلوله الشائع، الذي هو نقل الواقع كما هو، ولا الأصالة معناها المعروف، الذي هو الابتكار والتجديد. أمسبريذ يكتب بصدق وأصالة لأنه لا يكتب للآخرين حيث يأخذ الكاتب بعين الاعتبار انتظارات القراء، أو رغباتهم وتفضيلهم لنوع من الموضوعات أو القضايا والأسئلة. إنه لا يكتب تحت أي "ضغط" ولا تحت أي "طلب". بل هو يكتب بكل حرية واستقلالية، ودون تبعية ولا ارتباط ولا التزام مع المتلقي. فالصدق والأصالة، هنا، في الكتابة، يعنيان وينبعان منهما في نفس الوقت هذه الحرية وهذه الاستقلالية. وهذا ما أقصده بالصدق والأصالة في الكتابة عند أمسبريذ: يكتب دون اكتراث بالمتلقي ولا برد فعله. والدليل على ذلك أنه يكتب بالأمازيغية وهو يعرف أن قراء نصوصه لا يبلغون حتى عدد أصابع اليدين، لغياب تعليم قراءة وكتابة الأمازيغية في المدرسة كما هي القاعدة بالنسبة لكل اللغات المكتوبة. فأمسبريذ عندما يكتب، لا يكتب إذن لأحد. وهذا مصدر الصدق والأصالة في كتابته. لكن لمن يكتب إذن؟ ولأنه كان واعيا بغياب القارئ الأمازيغي (قارئ النصوص الأمازيغية) الذي لا يكتب له ليقرأ نصوصه، فقد كتب يشرح هذه الحالة المفارِقة في مقال تحليلي بعنوان "ثيرا ن وسغذي" ("كتابة الصمت"، منشور بالعدد 80 من "تاويزا" لشهر دجنبر 2003) . في هذا النص يتساءل: «لماذا أكتب بالأمازيغية [...]، بهذه اللغة الموجودة وهي مفقودة، الحية وهي ميتة؟». ويواصل قائلا: «أرى الكتابة صمتا، فقدانا للكلام، أو هي هروب من الكلام [...]. الكتابة مرور خلف مرآة الكلام، حيث لا ترى ملامحك كما تعكسها مرآة الكلام». ويوضّح أكثر علاقة الصمت كما يفهمه باختياره الكتابة بالأمازيغية كما يلي: «عندما أكتب بالأمازيغية، أكتب بلغة الصمت. عندما أكتب بالأمازيغية أكتب الصمت بلغة الصمت [...]. عندما أكتب بلغات أخرى، أتكلم. وعندما أكتب بالأمازيغية، أحيا (أصمت لتتكلم الحياة). لهذا فأنا أكتب بالأمازيغية». إذن لا يتعلق الأمر هنا ب"نظرية الفن من أجل الفن"، أي أن أمسبريذ يكتب لنفسه وليس للغير الذي لن يقرأ ما يكتب. بل هو يكتب ليحيا عبر صمت الكتابة. حقيقة أن كتابات أمسبريذ، ورغم أنها كتابة صامتة (لا قراء لها)، فهي تعجّ بالحياة، وبكل ما يحيل على الحياة، وحتى عندما تتحدث عن الموت، كما في قصة "ثوقّات" (الخطب الجلل) أو "أطّاس ذي ذروس" (الكثير في القليل) أو ثازورا" (السرطان)... وتظهر هذه الحياة في معجم الطبيعة والفلاحة الذي يجيد الكاتب استعماله وتوظيفه، كما سبق شرح ذلك، مما يضفي مزيدا من الصدق والأصالة على كتاباته لأنها تتكلم لغة الطبيعة والفلاحة والبادية، أي اللغة الفطرية التي لا تعرف بعدُ الازدواجية والرياء والتملق والخداع... وفي مقال تحليلي آخر بعنوان "ثارزّوث خف ثيرا" ("البحث عن الكتابة"، منشور بالعدد 79 من "تاويزا" لشهر نوفمبر 2003)، يشرح لنا أمسبريذ لماذا يكتب بقوله: «تشعر كأن دماءك تتخثر في شرايينك، كأنها لا تجري ولا تتحرك... شرايينك تختنق، تكاد تنفجر... فعلت كل شيء حتى تستعيد دماؤك حركتها وحيويتها، وتسقي جسدك حتى لا يجف وييبس، لكن بدون نتيجة [...]. لكن بمجرد ما تشرع في الكتابة حتى تشعر بدمائك شبه المتخثرة تنماع، وتجري مثل الماء المتجمد بالبرودة عندما يعرض لأشعة الشمس. فهل الكتابة تحوّل لدم الجسد إلى حِبر يسيل على الورق؟ أتمنّى أن أعرف ما هي هذه الكيمياء التي يتحوّل بها الدم إلى حِبر للكتابة». هكذا تتجاوز الكتابة عند أمسبريذ مستوى الرغبة النفسية لتصبح شبه حاجة عضوية، يجب إشباعها لإعادة التوزان والعافية إلى الجسد (مثل انتعاش وجريان الدم في الشرايين اللذيْن تحدث عنهما الكاتب). ومن هنا نفهم أن الكاتب لا يكتب تحت "ضغط" خارجي (انتظارات القراء الذين لا وجود لهم في الحقيقة)، بل تحت "ضغط" داخلي ذاتي. ولهذا فكتابته حرة ومستقلة عن أي ارتباط خارجي. وهذا ما يجعلها كتابة صادقة وأصيلة، أي مطابقة لذات الكاتب ومتساوية معها. لكن هذه الكتابة، ليست هي كل ما يُرسَم حروفا بالقلم والحِبر: «الكتابة، نعم، يقول أمسبريذ في "ثارزّث خف ثيرا"، ولكن أية كتابة؟ هل كل كتابة كتابة؟ هل الكلام المكتوب كتابة؟ أين يقف الكلام كي تبدأ الكتابة؟...». واضح أن الكاتب جد واعٍ أن كل ما يكتب بالأمازيغية ليس كتابة، بل يبقى، كما سبقت الإشارة، مجرد كلام مدوّن، لغياب شروط الكتابة الحقيقية بالنسبة للأمازيغية، «لأن الكاتب الأمازيغي يقول أمسبريذ في نفس النص الذي يكتب اليوم بالأمازيغية، هو كاتب ليس له أب ولا أم. إنه ابن نفسه، ابن كتابته». يريد أن يقول لنا بأن الأمازيغية، كما سبق شرح ذلك، لا تتوفر على تراكم ورأسمال في الإنتاج الكتابي، قد يشكّلان مرجعا يمكن للكاتب أن يغرف منه ويعتمد عليه لإنتاج كتابة جديدة. وإنما الكاتب الأمازيغي هو بالتعريف يتيم ليس له أب ولا أم يتعلم منهما الكتابة. إنه ابن نفسه. وعندما يكتب فهو يبدأ دائما من البداية، كما يفعل أمسبريذ. ولا شك أن هذه الكتابة عند أمسبريذ، بما أنها تأسيس لشيء جديد ليس له نموذج سابق ينطلق منه ويتّبعه ويقيس عليه، هي أحد الأسباب الأخرى للصدق والأصالة في كتابته. فمع التقليد، والقياس، والاتباع، تنتفي الأصالة، ومع انتفائها ينتفي الصدق، وهو ما يعني أن الكتابة ليست مطابقة لذات الكاتب، بل مطابقة، في جزء منها، لنماذج جاهزة من هذه الكتابة. أمسبريذ لا يكتب إذن من أجل القارئ الذي لا وجود له، وإنما يكتب من أجل الصدق والأصالة. لذلك فكتابته صادقة لأنها أصيلة، وهي أصيلة لأنها صادقة. لهذا فهو، والتزاما بالصدق والأصالة، وفي علاقته بالقارئ الغائب الذي لا يهمه ولا يكتب له، هنا والآن، يمثّل عن حق نبتة "طوطّويويو" التي خصها بنص جميل، كما سبقت الإشارة إلى ذلك. فهي، كما رأينا، تنبت في الأراضي الصلبة والصخرية التي لا يتسرّب الماء إلى تربتها. ومع ذلك فهي تنمو وتزدهر وتينع وتنتج الأزهار، حرة ومستقلة وشامخة، لأنها لا تحتاج إلى ماء ولا تربة جيدة ولا أسمدة مخصبة ولا عناية ولا بستنة ولا معاملة خاصة... "طوطّويويو"، يقول، بحريته واستقلاله وشموخه، كما كتب عنه أمسبريذ: «عندما نريد نستطيع [...]، جمالي صنعته بنفسي، ولم يصنعه لي أحد: لم أٌسقَ، لم تهيأ تربتي، لم أتلق سمادا... ومع ذلك فأنا ممتلئ حياة وجمالا! لم أذبل، ولم أيبس. ولا أطلب شيئا من أحد ولا أحتاج إلى أحد». ويعلّق أمسبريذ: "طوطّويويو" «يوجد بلا "لماذا؟" وبلا "لمن؟"». وهذه هي نفسها حالة الكتابة الأمازيغية عند أمسبريذ: فلا قراء ينتظر منهم قراءة إبداعاته، ولا معجم مناسب يستعين به، ولا مرجع أمازيغي يرجع إليه، ولا مصدر أمازيغي يعتمد عليه، ولا تراث أمازيغي يغرف منه، ولا كاتب أمازيغي يحذو حذوه... فهو يكتب حرا ومتحررا ومستقلا، غير مدين لأحد، ولا مرتبطا بأي التزام مع القراء المفقودين. فجاءت كتاباته آية في الإبداع والجمال، والسمو والكمال، والصدق والأصالة. ومعلوم أن الحرية شرط واقف للصدق والأصالة. وهذه الحرية هي نتيجة لكونه «ابن نفسه»، كما قال عمن يكتب بالأمازيغية. فكأنه يكرر ما قاله على لسان "طوطّويويو": «عندما نريد الكتابة بالأمازيغية، فإننا نستطيع ذلك رغم أن هذه اللغة لم تستفد من المدرسة». فلا مراجع، ولا مصادر، ولا تراث مدوّن، ولا إنتاجات كتابية أمازيغية يمكن أن تحدّ من حريته التي صنعت صدق وأصالة كتابته. تحرير الشعر من الغناء، واللغة من الجسد: (يتبع)