لم يختر العيش في تورينو، على ما أظن، سوى عدد قليل من المنتسبين إلى حقل الأدب. أما الذين وقع اختيارهم على العيش في ميلانو فأنا أعرف مجموعة منهم، بل أزعم أن معظم أدباء هذه المدينة يندرجون تحت دائرتهم. بينما عدد الذين أملت عليهم إرادتهم العيش في روما يشهد تزايدا مطردا. أما أولئك الذين اختاروا العيش في فلورنسا فلم يزد عددهم عما كان عليه الحال في الماضي إلا قليلا، ولازلنا نصادف بعضاً منهم. لكن اختيار العيش في تورينو يتطلب أن يكون المرء قد وُلد تحت سمائها، أو يكون قد حملته المياه من أودية بييمونت Piemont مع المجرى الطبيعي للأنهار، التي تصب في نهر بّو Po. ورغم ذلك كانت تورينو، في الواقع، موضع اختيار بالنسبة لي. فأنا أنحدر من إقليم ليغوريا الذي لا تجُاوِز تقاليده الأدبية أعمالا غير مكتملة أو إرهاصات، إلى حد أن أي واحدٍ –لحسن الحظ- بمقدوره اكتشاف أو ابتكار تقليدٍ على حسابه الخاص. إنني أنتمي إلى منطقة لا تملك عاصمة أدبية محددة بدقة، حتى إن الأديب الليغوري، الذي يعد في الواقع طائرا نادرا، يغدو طائراً مهاجراً. لقد اجتذبتني إلى تورينو خصالٌ محددة، ليست غريبة عن الخصال التي أوثرها لدى أبناء بلدي: انعدام الفوران الرومانسي، والاعتماد أساساً على العمل الشخصي، والحذر الفطري المتسم بالجفاء والشعور الراسخ بالمشاركة في عالم شاسع دائب الحركة، لا التقوقع في بلاد منكفئة على نفسها، ثم تحقيق المتعة في حياة تأخذ السخرية بزمامها، والذكاء الكاشف والعقلاني. اجتذبتني إلى تورينو، إذن، صورة أخلاقية و"مدنية" أكثر مما هي أدبية. لقد اكتشف جاذبية تلك المدينة واسترعى الأنظار إليها، قبل ثلاثين سنة، شخص اختار بدوره العيش في تورينو، هو غرامشي، السرديني الأصل، كما سبق أن قدّمها واحد من قدماء المقيمين التورينيين، هو غُبِيتي Gobetti 1901-1926، (صحافي ومثقف إيطالي معروف) في إحدى كتاباته التي لا زالت ملهمة. تورينو مدينة العمال الثوريين الذين نظموا أنفسهم بُعيد الحرب العالمية الأولى كطبقة رائدة. تورينو مدينة المثقفين الذين ناهضوا الفاشية، ولم يقبلوا بأي تسوية. أَمَازال لهذه المدينة وجود في وقتنا الراهن؟ أَمَازالت تثير الاهتمام في الواقع الإيطالي الحالي؟ أعتقد أنها قادرة على الاحتفاظ بطاقتها مثل نار تحت الرماد، وأنها ستبقى على قيد الحياة، حتى وإن تبدّى عكس ذلك. مدينتي الأدبية تورينو تتشكل، أولاً وقبل كل شيء، من شخصية حظيتُ بالقرب منها لبضع سنوات وسأفتقدها عاجلا: إنه رجل كُتب عنه الكثير في الوقت الحالي، وعلى نحوٍ يشوش، في غالب الأحيان، على إمكانية التعرف عليه. وكتبه لا تكفي حقا لإعطاء صورة متكاملة عنه، فقد كان يعلق أهمية بالغة على المثال الذي يعكسه عمله، بحيث نرى كيف أن ثقافة الأديب وحساسية الشاعر يتحققان في العمل المنتِج، والقيم التي توضع رهن تصرف عامة الناس، وفي التنظيم وتبادل الأفكار، والتطبيق والتنظير لسائر التقنيات المكونة لحضارة ثقافية حديثة. إنني أتحدث عن سيزاري بافيزي Cesare Pavese. وفي رأيي مثلما في رأي الذين عرفوه وعاشروه، فإن الدرس الذي نستفيده من تورينو يتطابق إلى حد بعيد مع ما توخى سيزاري بافيزي تعليمنا إياه. لقد أسبغ طابعه على حياتي في تورينو. إذ كان أول من يقرأ أي صفحة أكتبها، كما يرجع له الفضل في حصولي على مهنة، حينما فسح لي المجال لممارسة أنشطة النشر، تلك الأنشطة التي جعلت تورينو، إلى حد اليوم، مركزاً ثقافياً تتجاوز مكانته حدود الوطن. كان قد علمني أن أرى مدينته، وأستمتع بجماليتها الجليلة أثناء التجول عبر كورسي Corsi وعبر التلال. يلزمني هنا أن أغير الموضوع لأوضح كيف نجح مهاجر مثلي في الانسجام مع ذلك المشهد الطبيعي، بحيث أتعرف على نفسي داخله، سمكةَ صخورٍ وطائرَ غابة، مزروعاً تحت هذه القناطر، لكي أشعر بالضباب والصقيع عند سفوح جبال الألب. لكن هذا الأمر يستغرق كثيراً من الوقت. سيكون من واجبي أن أحاول تعريف أيِّ نوع من اللعب السري للأشكال يربط بين التصميم الهندسي للطرقات القائمة الزوايا والجدران الحجرية في موطني الريفي، وأيِّ علاقةٍ خاصةٍ بين الثقافة والطبيعة تهيمن في تورينو: إنها علاقةُ اخضرارٍ جديد للأوراق على كورسي Corsi ولمعانٍ على نهر بّو Po، أو قُربٍ لَطيفٍ للتلال، علاقةٌ تكفي لكي ينفتح القلب مجدَّداً، وبشكل غير متوقع، على مناظر لا تُنسى، ولكي يتواجه الإنسانُ مجدَّداً مع العالم الطبيعي الشاسع. باختصار، لكي نشعر بأننا نعيش. * هذا النص مأخوذ من كتاب Eremit in Paris" لإيطالو كلفينو