"الزمن القرائي" المغربي

القراءة و " اللاوعي الثقافي" المغربي:
ارتبط التعليم و التحصيل المعرفي في المتخيل المغربي بمفهوم " القرايه " أي القراءة، فيقولون: " بدات القرايه" و نسأل الأطفال " أش قريتو اليوم " و يفرح التلاميذ منتعشين " ما نقراوش غدا " و نقول عن شخص أمي " ما قاري والو"، و عن أستاذ يدرس جيدا " كيقري مزيان "، و يتأسف الكبار " قراية زمان كان فيها المعقول "...
هذا خطاب يعبر عن " اللاوعي الثقافي" المغربي للقراءة و ربطها بالمعرفة، فهو سلوكات يتداخل فيها المعيوش والعفوي والتلقائي، يختلف عن اللاوعي الجماعي المختص بالإنسان ( حسب يونغ)، ومختلف عن اللاوعي المعرفي (الإدراكي) الذي أظهر أهميته (بياجيه)، ومختلف أيضا عن الوعي الثقافي كذاكرة ومخزون تاريخي.
إن "اللاوعي الثقافي" ينقب عن الجذور والمطاوي، ويعطي فرصة لتجاوز الرسميات، ويبحث عن تجربة الإنسان المغربي وعن شخصيته عبر الأجيال، الشخصية ذات الهوية المتواصلة في الزمان والمكان والاعتبار والأفكار.
إن "اللاوعي الثقافي" للمتخيل ليس كينونة خارج التاريخ والواقع، أو تصورا ذهنيا مجردا خارج التجربة، بل هو "طرائق عمل" و"أدوات إنتاج" و"نشاط للفكر والإحساس"، فكيف نجعل من لاوعينا الثقافي لمفهوم "القرايه" وسيلة لإنتاج متخيلنا المغربي ؟ كيف نوظف هذه النظرة الايجابية لمفهوم " القرايه "؟ كيف نجعل من هذا المفهوم هما لتحسين مردودية التعليم و محاربة "الأمية المقنعة "؟ هل قدرنا أن نعيش هدرا ل "الزمن القرائي" ؟ أليس من حقنا أن يكون لنا " زمن قرائي" مغربي شأن "زمننا الثقافي" ؟
القراءة و الكرامة:
كانت كلمة " إقرأ " قبل أي كلمة في العقيدة أو العبادة، و ارتبطت بصيغة التفضيل " الأكرم" و ليس " الأقرأ" أو " الأعلم"، فلا قيمة للقراءة أو العلم دون كرامة، ف" إقرأ يكرمك الله"، فأنت في غنى عن كل الناس، بالقراءة تنال شهادة الكرامة و الحرية، و الشعوب التي لا تقرأ تستعبد بالقوة و بالفعل.
إن الأكرم " علم بالقلم "، كرمزية لحركة الكتابة في صنع الحضارة، و هو ما سماه الجابري، رحمه الله، بعصر التدوين عند العرب، فنحن لم نعد نستعمل القلم في الكتابة، بل أصبح النقر على لوحة الحاسوب يغني عن القلم، و يخفي عيوب أصحاب الخط السيئ، بهذا فقد ولى زمن " الخط و الحظ السيئ"، لا عذر لنا اليوم في زمن الحاسوب، أن نقرأ في كل الحالات و أن نكتب في المكتب أو على الطائرة.
إن علاقة القراءة بالكرامة واضحة عبر التاريخ، فاليونانيون كانوا أكثر الناس قراءة فنالوا كرما لا زال مستمرا، فأرسطو لا زال مرجعا في الخطابة و الشعر و المسرح، و قد سماه العرب " المعلم الأول" دون عقدة، و كانوا بدورهم أقرأ الشعوب، بالطبع سابقا، و كانوا يطلبون العلم في كل مكان و من كل مصدر و بنهم لا يتصور، فلا يوجد " شهيد الكتب" و لا " قارئ عالمي " كالجاحظ لدى الشعوب، وقد سمي بذلك لجحوظ عينيه من كثرة القراءة، و قد نال علماؤنا حظا من التقدير و المكانة لتفرغهم و " حرفيتهم للقراءة"، فالإمام الغزالي هجر الأستاذية و تفرغ للقراءة ودراسة علوم العصر، والإمام البخاري كان يقوم في الليلة الواحدة أكثر من أربع عشرة مرة ليتأكد من حديث، و الإمام الشافعي كان يغطي الصفحة الثانية من الكتاب تفاديا لنهم القراءة، والشيخ بدر الدين الدمشقي حبس نفسه تسع سنوات في مكتبة، و غيرهم من النماذج في التراث العربي الذين كان همهم القراءة روحا و جسدا.
و قد كرم الله الشعب الياباني الذي لم يعد به أمي، فهم خير من مثل خطاب " إقرأ"، فمؤسسات النشر اليابانية تصدر (35 ألف) عنوان جديد سنوياً تقريباً، بنسبة ضعفيّ ما ينشر في الولايات المتحدة الأمريكية، (حسب إحصائيات نهاية الألفية الثانية) .
و حسبك ما يناله القارئ في المتخيل المجتمعي من اعتبار، أو إحساس بالغبن، شأن المرأة التي توصلت برسالة من إبنها و قالت لأحد الشباب: ( إقرأ لي هذه الرسالة و لا تسمعها )، و قد أعيتني دعوة أحد " حفاظ القرآن " في وليمة حين دعا لأبناء أحد الحضور بقوله : ( الله يعطهم قرايتهم ف نعاسهم)، فاكتشفت في ما بعد أن ما يقرأ يتركز في الدماغ لحظة النوم.
إن " زمن القراءة " أوسع من " زمن الكتابة "، فهو يشمله و يعيد إنتاجه كلما حركنا " الزمن القرائي" الذي يحددهما معا، و قد ارتبطت القراءة بالكتابة منذ خمسة آلاف عام، و بالورق منذ ألف و خمس مئة عام، و بالطباعة منذ أقل من خمس مئة عام، ثم ظهرت الآلات الحاسبة منذ بضعة عقود، ثم زمن الهواتف الذكية... و لم تتغير القراءة، و لا زال الإنسان يبحث عن تسهيلها و التمكين منها، فقد تختلف أساليب الكتابة و يبقى مضمون القراءة واحد " إقرأ باسم ربك "، و المعرفة متوقفة على القراءة أكثر من الكتابة، فقد نكتب و لا فائدة، و قد نطبع الكتب بأرقى الأشكال و لا قراءة، و قد نجهز المكتبات بآخر طراز من الأجهزة و لا قراء، يقول توينبي: (إن ارتفاع نسبة قراء الكلمة هو الأساس الحضاري لتصنيف البلدان في العالم إلى دول متخلفة أو نامية أو متقدمة).
الإنسان لم يأخذ حظه في الوجود إلا مع الكتابة المقروءة، لأن الكلمة تموت مع صاحبها، و الذاكرة البشرية ليست مأمونة، بينما الكتابة ذاكرة لا تموت، فلو فقد الناس كل شيء وبقيت الكتابة المقروءة لأمكن إحياء " الزمن القرائي".
"الزمن القرائي" المغربي:
عاش المغاربة في التاريخ التعليمي أزمنة للقراءة، فقد قرأنا في زمن البيداغوجي " بوكماخ" رحمه الله، بصيغة الرسالة " اقرأ "، و كنا معنيين بفعل الأمر بأنه خطاب السماء الذي يبني الحضارات، و جاء زمن " قراءتي" و تعددت الكتب المدرسية وبقيت العلاقة من خلال ياء المتكلم ، و باللاشعور " كل و قراءته "، و وصلنا إلى زمن " القراءة" كمصدر مجرد عن الزمان و المكان و الذات، و لم يعد أحد معني بالقراءة، "إقرأ أو لا تقرأ، فليس بالقراءة وحدها يحيا الناس"، و أصبح الذي يقرأ غير المقرر متهما بالقراءة.
هكذا عشنا مع الكتب المدرسية ثلاثة أزمنة : "زمن إقرأ"و"زمن قراءتي" و"زمن القراءة".
و قد كان للمكتبة المدرسية الدور الأكبر في قريحة القراءة و التنافس القرائي، مكتبات للمدرسة فيها مآرب متعددة ، فهي للقراءة و للعروض و الحفلات و الاستقبالات و لاحتضان التلاميذ عوض التسكع في الشارع في حالة غياب الأستاذ، لكنها أصبحت اليوم نسيا منسيا، و ضاع الحد الأدنى من القراءة، و أصبحت اللاقراءة " لعنة الأجيال".
و كان لثقافة "الحسن" تأثير على القراءة، كانت القراءة الجيدة تتوج بوسام شرف معنوي من الأستاذ، فكان التلميذ يتحمس للقراءة و قد يرفع يديه معا، و كان النص يجزأ إرضاء للتلاميذ الذين قد يغضبون إذا لم يقرؤوا، و كانت الحناجر تتفنن و قد تتصنع في نطق الحروف، و كان التلاميذ ينتشون بالقراءة، فهو مشروع صحفي أو خطيب مفوه أو زعيم نقابي أو برلماني في أقل الأحوال.
كانت القراءة مشروعا للنجاح و رصيدا للكتب، فكل "إنجاز" داخل القسم نقطة حسنة، و حصيلة ثلاثة نقط يساوي كتابا تختاره من مكتبة يتبرع به الأستاذ ، " الأستاذ المشروع"، "الكائن القرائي" الذي لا يزول من الذاكرة أو من المشوار التعليمي، و تأخذ الذكرى عمقها الاستراتيجي التاريخي إذا احتفظت بهذه الكتب، تفتخر بها أمام أبنائك و أصدقائك. كانت المكتبة مشروعا لقراءة الكتب الأجنبية، شعور بالتميز و العبور ما وراء البحار قبل الأوان، اكتشاف لجهاز النطق و لمخارج الحروف، و استعمال لمسكوكات في كل السياقات ثم تذهب بالقراءة نحو التخوم.
...ضاع زمن القراءة، و كم أشياء ضيعناها مع لعنة الزمن، فكم نتمنى أن نرجع الزمن أو نعيد لحظة من لحظات القراءة، فبئس القطيعة عن القراءة في زمن الفراغ. كم نتمنى أن نجلس على الطاولة لنستمع إلى زمن القراءة و نعيد كيف تعلمنا نطق الحرف الأول، نعيد الكلام قبل النطق و نستمع إلى "ما ينقال"، و نبحث عن ايقاع الإحساس أهو فرحة أم اكتشاف للعالم ؟، أكيد أن قراءة أول حرف قد حددت مصير حياتنا ، فكيف نستطيع أن نعيد هذا المصير؟ هل نستطيع، و قد شخنا، أن نتمتع بالقراءة مع أبنائنا أو تلامذتنا أو أصدقائنا.
إن للقراءة سكرات و تذوق مثل الموت، لا أحد يموت مكان الآخر و لا أحد يقرأ مكان الآخر، و كلاهما حياة حقيقية، فالقراءة أول الخطوات و ليست آخرها، و الموت بداية حياة أبدية.
و إذا كانت حياة واحدة لا تكفي، فنحن نقرأ، و إذا كان الواقع وحده لا يصنع وعيا، فنحن نقرأ، إذا فالقراءة هي حياة الواقع أو واقع الحياة، هي "الإنقراء"، لا قراءة التسكع في الواقع و الانفصال عنه، لا قراءة التأجيل للتفكير، لا القراءة السلبية المطلوبة لذاتها، التي تربط قراءها بالمعلومات و تحرمهم نشوة الانقراء.
الإنقراء قراءة و تجربة، تأمل و انهمام، استبصار و رحيل نحو التخوم، حيث الكلام و حياة القراءة، كلام يتكلم وقول ينقال و قدرة على "الإنصات" إلى"ما ينقال".
حين تقرأ و تنقرئ تمارس الشهادة و تصبح الحروف أمة من الأمم، لهم سيرة دلالية تفسر كل شيء في الكون و تشهد على أهل الأرض.