سجلت الانتخابات الجماعية للرابع من شتنبر 2015 تقدما مهما مقارنة مع مثيلاتها السابقة، كما أنها غنية بالدلالات السياسية الكبيرة حول ديمقراطية الانتخابات المغربية، سواء على مستوى سلوك الأحزاب السياسية أو على مستوى تدبير السلطات العمومية لها أو على مستوى تجاوب المواطن المغربي معها. ويمكن تقييم تلك الانتخابات من خلال ملاحظات هامة و عامة في الوقت نفسه، نجملها في الآتي: الملاحظة الأولى، تتعلق بالدلالة السياسية لبعض المؤشرات، المؤشر الأول يتعلق بنسبة المشاركة المرتفعة نسبيا مقارنة مع نتائج الانتخابات الجماعية لسنة 2009، حيث بلغت 53,67 بالمائة حاليا مقابل 52,4 في المائة في 2009، علما أن عدد المسجلين في اللوائح الانتخابية بين الانتخابين قد ارتفع من 13 مليون و 360 ألف و 219 سنة 2009 إلى 15 مليون و 400 ألف ناخب أي بأزيد من 2 مليون ناخب وهو ما يفوق 13 في المائة زيادة. والمؤشر الثاني يتعلق بالنتائج التي حصلت عليها أحزاب التحالف الحكومي، وخاصة حزب العدالة و التنمية الذي يقود التحالف، حيث سجل الحزب قفزة صاروخية و تزعمها من حيث عدد الأصوات و ضاعف حصته منها بأزيد من 3 مرات مقارنة مع انتخابات 2009 و تزعم نتائج الانتخابات الجهوية من حيث عدد المقاعد والأصوات معا. وهذين المؤشرين لهما دلالات سياسية متعددة تتعلق بثقة الناخب المغربي في الحكومة و المؤسسات و في الحزب الذي يتزعم التحالف الحكومي. الملاحظة الثانية، تتعلق بنزاهة الانتخابات، ويمكن في هذا الصدد القول، مع بعض التحفظات، إن هذه الانتخابات هي أنزه انتخابات جماعية عرفها المغرب فيما يتعلق بالتدبير الرسمي لها، في حين أن عددا من الأحزاب قد تخلف بشكل فضيع عن تدعيم النزاهة الحزبية في تلك الانتخابات. ومقابل التزام واضح من السلطات بالحياد الإيجابي المطلوب، تورطت تلك الأحزاب في ممارسات خطيرة بهدف استمالة الناخبين، خاصة ما يتعلق بشراء الذمم. وهذا يكشف و جود مؤشرات واضحة حول التوجه الجاد للدولة نحو مزيد من الديمقراطية الانتخابية تم تدشينها في الانتخابات التشريعية لسنة 2011، مقابل غياب واضح لمثل هذا التوجه لدى بعض الأحزاب وخاصة أحزاب المعارضة المتزعمة للنتائج العامة الوطنية. الملاحظة الثالثة، تتعلق بما كشفته الحملة الانتخابية من تكريس لظاهرة حزبية خطيرة تأذن بقرب موت بعضها، ففي الوقت الذي اعتمد فيه حزب العدالة والتنمية على قواعده الحزبية في التنظيم والدعاية، أظهرت العديد من الأحزاب، خاصة حزب الجرار الذي تزعم النتائج وطنيا، ضعفا مقلقا في هذا الجانب يطرح السؤال عن حقيقة مواردها البشرية، حيث تفاقمت ظاهرة شراء خدمات الدعاية و التنظيم، وتم استنبات تلك الأحزاب في دوائر انتخابية لا وجود لها فيها خارج مرشحين مستقطبين في آخر لحظة وآلية دعائية مشتراة. وهذا توجه خطير يكرس ظاهرة "الأحزاب الشبح" التي تفقد المواطن الثقة في الانتخابات وفي العملية السياسية برمتها. الملاحظة الرابعة، تتعلق بتأكد كون المال السياسي يقتل أصحابه أولا، وسنوضح ذاك من مثالين، الأول يتعلق بشراء الذمم، حيث تقوى رد الفعل المراوغ و الذكي للناخب المغربي في مواجهة المال الحرام و الذي ساهم فيه تشديد القانون على منع وسائل التحكم في المواطنين من طرف المفسدين، وأصبح المواطنون أقدر على التصرف بضمير مواطن وحرية كبيرة أثناء عملية التصويت داخل المعزل، فيصوتون للحزب الذي يرونه مناسبا ضد الحزب الذي قدم لهم أموالا. المثال الثاني، الشباب الذين تضطرهم الظروف الاجتماعية للعمل في الدعاية الانتخابية مع "الأحزاب المالية" لا يقومون بالحملات الدعائية بمفهومها التواصلي الهادف إلى الإقناع، بل يقومون بعمل تقني يتعلق بتوزيع المنشورات وترديد الشعارات بطريقة لا تخدم الحملة الانتخابية لمموليهم. بل إنهم لا يصوتون لصالح تلك الأحزاب، و أكثر من ذلك يقومون بحملات موازية لحزب منافس لها خاصة حزب العدالة والتنمية. و رغم أن مؤشرات كثيرة تطرح السؤال عن حجم الأموال التي تمت تعبئتها من طرف بعض الأحزاب، غير أن ما أشرنا إليه يؤكد أن دور المال قد تم استيعابه من طرف المواطنين بما يحرر موقفهم السياسي و توجهاتهم في التصويت، مما يعني أن حبال المال الساسي تشتد من محطة انتخابية إلى أخرى حول أعناق "الأحزاب المالية". الملاحظة الخامسة، تتعلق بالتوزيع "الحضري / القروي" لنتائج الأحزاب السياسية، فنتائج الانتخابات الجماعية والجهوية الحالية، كما هو الشأن بالنسبة للانتخابات السابقة، تجعل من حزب العدالة والتنمية حزبا حضريا بامتياز، في حين نجد أن أحزاب المعارضة الحالية هي أحزاب قروية بامتياز، مع العلم أن المسجلين في اللوائح الانتخابية 55 في المائة منهم يوجدون في المدن. وهذه الملاحظة تفرض الحديث عن أمرين مهمين، الأول اختلاف السلوك الانتخابي للمواطنين في القرى عن المدن، ففي القرى لا تزال الاعتبارات القبلية و الشخصية، وبعض الأعراف (مثل العار) هي المؤثرة، ودور أعوان السلطة يكون في التوجيه حاسما، في حين أن ذلك السلوك في المدن يتميز بقدر كبير و متنامي من التحرر و الارتهان للقناعة السياسية الشخصية. الأمر الثاني، يتعلق بالتحدي الانتخابي الذي لا يزال العالم القروي يمثله بالنسبة لحزب المصباح، فهذا الحزب لم يستطع بعد القيام بالاختراقات الكبيرة في العالم القروي، رغم أن وجوده في الحكومة يسهل ثقافيا عمليات الاختراق تلك. و بين "عجز" حزب المصباح عن اختراق العالم القروي و تجذر منافسيه فيه، وخاصة "البام" الحديث التأسيس، يتحول العالم القروي إلى مجال ضبط الخريطة السياسية في المغرب، و تطرح العديد من الأسئلة حول مدى ديمقراطية ذلك الضبط و نزاهته. و إذا اكتفينا بالملاحظات السابقة يمكن القول إن الانتخابات الجماعية الحالية تؤكد أمورا إيجابية ينبغي الاستثمار سياسيا وقانونيا في دعمها وتكريسها، منها النزاهة و تصالح المغاربة مع صناديق الاقتراع، والثقة في المؤسسات المنتخبة، وغيرها. كما تؤكد أمورا خطيرة ينبغي العمل على محاصرتها و اجتثاثها، منها بالخصوص الحضور المتنامي للمال في التدبير الحزبي للانتخابات، مما يهدد بتوسع الفساد الانتخابي المالي.