بسم الله الرحمن الرحيم كم يكون صاحب شهادة الدكتوراه في هذا الوطن قد استهلك من الورق، قرأه وخطَّه وكتب عليه بحوثه؟ بالتأكيد ستكون حزما كثيرة جدا وكبيرة جدا، أكثر من طن ونصف للواحد ربما، وذلك منذ وطأت قدمه المدارس الابتدائية إلى كتابة مسودات تمارينه وبحوثه الكثيرة حتى نَسخِ أطروحته الجامعية. أتحدث هنا بالطبع عن نفسي وعن أشباهي في تخصص البيولوجيا، أما بالنسبة لشعبة من شعب العلوم الإنسانية التي تحتاج لكثير من اللغة ربما قد يكون الوزن أكثر وأفظع والحزم أكبر وأكبر. بلا شك نحن الآن أمام إهدار واستنزاف منا لمقدرات وموارد الدولة من الورق، وتضييع مقزز للعملة الصعبة التي يحتاجها وطننا لتسديد ديونه التي منها كَبُر لحم أكتافنا، لأن المغرب كما أعلم كان وما يزال من مستوردي الورق، لكن وطننا الجميل والطيب لم يتأفف يوماً ولا انزعج ولا اشتكى من مهمة توفير الورق لخربشاتنا، لكننا هذه الأيام أمسى انزعاجنا من وطننا ومن القائمين على التعليم في فيه كبيرا لا يُتحمل ولا يحتمل، لأنه وشلة المكلفين بتعليمنا وببساطة هم من شاركوا في مسلسل تضييع خزينة الدولة على ورق تَعلُمِنا، لأنهم من كانوا يمنحوننا ورقا ودفاتر وأقلاما لإتمام دراستنا، وهم من زجوا بنا في مؤسسات الوطن التعليمية، لنحصل من أعلى مؤسساتها على شواهد الوطن العليا، ولكن ويا للأسف فالوطن ومسؤولوه أنفسهم لا يقدرونها ولا يضعون لها أي اعتبار وأي قيمة عندهم. فقبل أيام وعلى غير هدى مني مررت بالصدفة على قناتنا الوطنية لأرى وزير التعليم العالي واقفا في البرلمان، تمهلت قليلا على غير عادة مني كي لا أنتقل بسرعة إلى قناة أخرى قبل أن أصاب بحمى قلاعية ينقلها لي ريبورتاج عن تربية الماعز أو النحل في إقليم زاكورة أو عن دور زراعة الفول في تربية العجول في إقليم دكالة. المهم رأيت وزيرنا يتكلم بلغة عاطفية جدا وجميلة وأبوية عن الطلبة الدكاترة الذين وصفهم ب " المساكين "، حيث تحدث بحنو عن زيادته لسنة إضافية من عنده لتنضاف لخمس سنوات في القانون المنظم للدكتوراه، لأجل أن تكون بحوثهم أكثر جودة وأكثر عمقا، وليتحدث بنفس الأبوية عن نيته الطيبة والصادقة في التعاقد مع المسجلين منهم في السنة الثانية دكتوراه للعمل في الجامعة ! لمدة 15 ساعة مقابل 5000 درهم !. وهنا بالضبط احمرت وجنتاي، ووقف شعر رأسي، واضطرب ضغطي لتناقض السيد الوزير ولخوفي على وطني، إذ كيف للطالب أن يدرس 15 ساعة أسبوعيا في الجامعة ونحن حينما نقول درس جامعي فإنما نتحدث عن درس أكاديمي عميق، وليس عن درس لتلاميذ السنة الثانية ابتدائي، درس جامعي يقتضي عشرات المراجع والمصادر والأبحاث ومطالعات عميقة لأجل محاضرات ومناقشات طويلة تخص جزئيات وتفاصيل علمية. فكيف لطالب دكتوراه أن يوازن بين بحثه وبين مهمة التدريس في تلك التفاصيل التي يسكنها الشيطان وتسكنها أقاويل كثيرة وتنظيرات لا سبيل لجمعها إلا للمتفرغ لها، إلا أن يكون إتمام أحد الجانبين على حساب الجانب الآخر أو على حساب جودة الإثنين، فيكون الوزير بدل محاربته لمشكل قلة الجودة وانعدامها في بحوث دكتوراه خمس سنوات قد فتح السبيل أمام لاجودة الدرس الجامعي نفسه بإسناده لطلبة سنة ثانية دكتوراه مهمة التدريس الجامعي. من أي بئر عدم وضوح تأتي وزارة التعليم العالي بأفكارها عن إصلاح الجامعة؟ أنا من جهتي لا أعرف. غير أن تأثير قرار السيد الوزير من حيث يعلم أو لا يعلم ربما هو العصف بالدرس الجامعي كلية، وجعله أكثر اسفافا واضطرابا، فبدل توظيف آلاف الدكاترة المشردين في التعليم الثانوي والإعدادي والابتدائي يتم نهج سياسة تعليمية تعقيمية (من العقم لا العمق) تنضاف لمشاكل الجامعة الأخرى التي تهم الاكتظاظ والازدحام وعدم توجيه الجامعة نحو خدمة مجالها العام، إذ بدل توفير الوقت أمام طلبة الدكتوراه لإتمام بحوثهم بمدهم بمنح وطنية تعيل بحثهم يضطرهم السيد الوزير إلى أداء أعمال السخرة لديه في جامعاته الفقيرة من الأساتذة الجامعيين وذلك بعمل هؤلاء الطلبة ل 15 ساعة كاملة مقابل 5000 درهم، علما أنهم هم أنفسهم عندما سينالون شواهد الدكتوراه سيجدون أنفسهم أمام الشارع مباشرة لأن ما يطمحون إليه من مناصب جامعية سيجدونها ممتلئة بطلبة جدد من السنة الثانية، وهكذا يتضخم عدد العاطلين من أصحاب أعلى الشواهد في المغرب!. فإذا كان في تصوركم سيدي الوزير أنكم حللتم بقراركم هذا مشكل الخصاص المهول في أساتذة الجامعات المغربية، فقد فتحتم بنفس القرار بابا واسعا لعطالة الدكاترة الخريجين الجدد، مما سيزيد طين البطالة في وطننا الحبيب بلة وأي بلة! وبقراراتكم هذه تجعلون الجامعة مؤسسة مشوهة ومعاقة لا تكاد تتحرك كما بقية المؤسسات التعليمية التي تنخرها القرارات المزاجية والتي تجعلها تتقدم سنتمترات محدودة إلى الأمام، لكنها تتراجع سنوات ضوئية إلى الخلف، وبمتتاليات هندسية تجعلنا غير قادرين على هندسة تاريخنا ومستقبلنا، لتغدو الجامعة أملنا في أن نصنع يوما أمصالاً دوائية ومحركات سيارات ببراءة اختراع باسمنا، مؤسسة لا تقدر حتى تصنيع طقم أسنان أو إصلاحه، بل لا تقدر حتى على وضع معادلات كيميائية لمكونات مربى التفاح أو مشروب غازي تصنعه إحدى جمعيات المبادرة الوطنية للتنمية البشرية. إضافة لكل ما سبق، فإن ما تنحون إليه يحبط القدرات الهائلة التي يتمتع بها دكاترة وزارة التربية الوطنية، فهم أولا حاصلون على شواهد الدكتوراه بميزات مشرفة جدا، وثانيا متمرسون وذوو خبرة وتجربة طويلة في مجال التعليم، وثالثا أكفاء بشهادة مفتشي الوزارة ورابعا وسادسا وعاشرا لن يكلفكم تحويل ميزانيتهم 5000 درهم كاملة، لأن ما بين ما يتقاضاه دكتور في وزارة التربية الوطنية وراتب أستاذ مساعد أقل بكثير من 5000 درهم. لذلك لا أدري إن كنتم تقصدون بقراركم ذاك توفير موارد الدولة فالحل المطروح عليكم من طرف هذه الفئة من الدكاترة هو الأنسب ومع ذلك لا تأخذون به، فلماذا يا سيدي الوزير؟ ربما تكون الحكومة تقصد من هذه القرارات تطوير الجامعة من خلال مفهوم البركة التي تحدث عنها ذات مرة رئيس الحكومة نفسه، فبدل صرف أموال الدولة على دكاترة تامي الاكتمال وناضجين بما فيه الكفاية للتدريس بالجامعة، يتم التعاقد مع طالب لم تختمر بعد حتى أطروحة بحثه في مخيلته، ليزداد ضغط التدريس عليه من جانب وضغط البحث الجامعي عن أطروحة يستقر عليها ويقوم بتطويرها، إلى جانب البحث عن مراجع لها، إلى جانب حضوره ساعات التكوين الإجبارية التي فرضتها الوزارة والتي تتجاوز 240 ساعة. فأنى له ذلك! ! إن قرار الوزير بالتعاقد مع طلبة الدكتوراه ليس من باب سياسة العمل " بالبركة " التي تُسيرُ بها جامعاتنا، ولا بسياسة " قضي وعدي "، بل من باب سياسة " القمار " بمستقبل أمة وبآمال وطن، فمن باب أولى كان يجب فتح أبواب التوظيف أمام الدكاترة الذين تزخر بهم مؤسسات الدولة وبخاصة في التعليم الأساسي، والذين لا يجدون ما يفعلونه بتكوينهم العالي إلا حل الكلمات المتقاطعة، أو استغلاله في التعامل الجيد مع الحيل التي تضعها أمامهم قوانين لعبة المزرعة السعيدة، هذا بالنسبة للذين عميهم حب الوطن وغرتهم الأماني في أن يفتكرهم الوطن بمنصب جامعي يلائم شواهدهم، أما بالنسبة لأولئك الذين أمعن الوطن في جرح مشاعرهم ونكأها بعدم إيلاءهم أي اهتمام فقد كانت كندا حلا سهلا أوليس يقول أحد المعاصرين: ليس الفتى من يقول كان أبي ... لكن الفتى من يقول ها كندا. فلا تتركونا نختار الحل السهل، ولا تتحدثوا وراء ظهورنا عن هجرة الأدمغة والعقول فورب الوطن والمواطن إن الله ليعذب من كتم العلم، وليعذب من منع الذي يود أن يبوح بعلمه وينشره، فيا سيدي الوزير بالتأكيد أراك ممن يخاف الله وتخاف عذابه، فلا تكن سببا في كتم علمنا، ولا تكن سببا في جعل جامعاتنا قاعاً صفصفاً بلا علم عميق ولا بحث ذا أفق. دكتورة في البيولوجيا -منسقة جهوية للكتلة الوطنية لدكاترة وزارة التربية الوطنية.