مادة الفلسفة في نظامنا التعليمي - شئنا أم أبينا- تحتل مكانا لا تحسد عليه. مُدرِّسها يبقى في الغالب الأعم حاملا لخصوصيات تميزه عن باقي زملائه، فانطباعاتهم، كما انطباعات التلميذات والتلاميذ، لها ما يجعلها تختلف وتتميز، وتأخذ طابعا خاصا، قد نجزم بالقول إنه سلبي في عمومه، ودروسه التي يقدم تزيد من تكريس هذه الصورة، رغم ما تتضمنه من مادة معرفية ثرية ومتنوعة، فما يحمله التلاميذ عنها في أذهانهم هو كونها صعبة ومعقدة، ومتعالية أيضا على مداركهم، وبالطبع مواضيع الامتحان فيها غامضة ومقلقة، وفي أكثر من مرة تقف عائقا أمام تحقيقهم للنجاح والتفوق. كل هذا يساهم في وضع حاجز نفسي متراكم بين التلميذ والمادة، وهو الحاجز الذي يفرض نفسه كحقيقة مُرة ومؤلمة أثناء حصص المراقبة والتقويم، وكذا أثناء الامتحان الوطني وما يرافقه من ضغط وتوتر، كأي امتحان مصيري آخر. خاصة إذا عرفنا أن صيغة الإجابة في جميع الحالات واحدة، الإنشاء الفلسفي، وهو في شكله ومضمونه عبارة عن موضوع مقالي، يعالج إشكالية فلسفية واضحة، المفروض أن التلميذ واع بها وبتفاصيلها. لكن، هل في مقدور التلميذ أن يتناول هذا المنتوج، المطلوب إنجازه ضرورة دون اختيار، مُدركا تفاصيله تلك، وحيثياته؟.. أم هي الضبابية والغموض اللذين يولدان رُعبا لا ينفك يقلقه ويحاصره؟. لا يختلف اثنان أن الإنشاء الفلسفي هو شكل أولي للكتابة الفلسفية، ولا يختلف اثنان أيضا في أن هذا الشكل الأولي – لا محالة – متاثرٌ ببعده المدرسي من داخل درس الفلسفة. ومن المؤكد أن درس الفلسفة هو الآخر، لا شك في أن العديد من المشكلات والعوائق تعترضه، وتحديدا تلك المتعلقة بالتقويم، إذ نجد أن التلميذ عندما يصل إلى المرحلة التي يكون فيها مطالب بترجمة ما تلقاه داخل القسم من معارف (إشكالات، مفاهيم، تصورات ومواقف..) إلى نص مكتوب، يعاني صعوبات غير طبيعية، وغير منسجمة مع خصوصية المادة وأهميتها، تدور أساسا حول الطريقة التي سيعتمدها في هذا الإطار، فلا اللغة تسعفه، ولا الأسلوب، ولا منهجية الكتابة، التي يفتقدها أصلا، دون الحديث عن المضمون المعرفي الذي قد يحمله معه بطريقة أو بأخرى، فالإنشاء الفلسفي كمنتوج كتابي، يقتضي عناصر مخصوصة، تجعله مصطبغا بالعمق والدقة في الصياغة والتحليل، دون تيه أو زيغ، ولا طيش أوارتباك. عملية من هذا النوع لن تكون بالسهلة أبدا إذا لم تكن مسبوقة بتأطير نظري، وتوجيه عملي إنجازي (قدرات ذهنية، مهارات تعبيرية، منهجية كتابة..) تصبح في ضوءهما إنشاء فلسفيا قادرا على عكس صورة الفلسفة كمادة مدرسية تنتمي إلى مجال معرفي متميز بخصائصه الفريدة. عندما نقرأ للفيلسوف الشهير هيجل قوله "إن الكتابة الفلسفية التي لا تشمل إلا عناصر من المعرفة متفرقة ومعزولة عن بعضها، لا تعبر إلا عن آراء وقناعات فردية لا غير.." نتساءل: هل ما يتلقاه التلاميذ من توجيهات منهجية يُؤهلهم للكتابة الفلسفية كما دعا لها هيجل؟.. وحتى لا نصاب بالخجل، نستبدل السؤال بآخر أخف ثقلا، هل ما ينتجه التلاميذ من كتابات "فلسفية" أثناء التقويم يحظى بالقبول والرضا، ويعكس بالتالي استيعابهم للمادة المعرفية، وكذا لمنهجية الكتابة الفلسفية؟.. الجواب لن يكون مرضيا بالمرة، لأن مشكلات الدرس الفلسفي وعيوبه، تظل مضمرة خفية إلى حدود لحظة الامتحان، حينها تنكشف وتظهر بشكل فاضح، وبالتحديد تلك المتعلقة بمنهجية الكتابة وطرق تلقينها. فكيف يُعقل أن نطلب من التلميذ الالتزام بمنهجية الكتابة الفلسفية دون تخصيص درس خاص بتلقينها والتدريب عليها، درس مستقل في مبناه وفي معناه، له حصصه المحددة، وجُذاذته، من داخل موقعٍ يحتله في الكتاب المدرسي، بل بعض عناصره الجزئية تستحق هي نفسها أن تكون درسا مستقلا، التحليل والحجاج مثلا..، ولو في أول سنوات تدريس المادة فقط (الجذع المشترك)؟. بل كيف نتجاوز خلافات الأساتذة حول مضمون التوجيهات الوزارية الخاصة بمنهجية الكتابة؟، عندما نصطدم بين الفينة والأخرى باجتهادات تتضمنها بعض الكتب التجارية التي تغزو المكتبات، ويقبل عليها التلاميذ، لأنها تعلمهم كيفية تجاوز هذه المعضلة التي تلاحقهم خلال الامتحان، أقل ما نصف به تلك الاجتهادات أنها غريبة وعجيبة. والسبب هو إعراض الكثير من الأساتذة عن تلقين منهجية الكتابة وفق التوجيهات الرسمية، وفي إطار اجتهادات منضبطة ودقيقة، والسبب مهم ووجيه، هو طول البرنامج السنوي للمادة من جهة، وغياب التنصيص القانوني على ذلك من جهة أخرى. اللهم بعض اللقاءات التربوية التي تتداول التوجيهات والمقررات الرسمية، وهي في مجملها غير متاحة للجميع، وهذا مشكل آخر تعانيه المادة، المجال لا يسمح بالتفصيل فيه. تأسيسا على ما سبق، هل يمكن اعتبار ما يكتبه التلميذ إنشاء فلسفيا، أم أنه مجرد محاولة يائسة لإرضاء الأستاذ / المصحح، لتجنب نقطة سيئة تعرضه للرسوب، أو تعرضه لإضاعة فرصة الحصول على معدل يلبي طموحه؟.. مثل هذا السؤال هو بمثابة تدشين للدخول في دوامة جديدة من دوامات الإنشاء الفلسفي، هي التصحيح، وهي من الهواجس التي تؤرق الأستاذ والتلميذ معا، لما يصاحبها من مخاوف تتعلق أساسا بالموضوعية والنزاهة، وإمكانية تحققها على النحو المطلوب. هاجس من هذا النوع مخالف تماما للهاجس الذي يُفترض في مادة الفلسفة أن تخلقه لدى التلميذ، وهو كيف يتمثّل في كتاباته آليات التفكير والفهم والحجاج..وغيرها، والغائبة تماما عن حساباته أثناء حصة التقويم، وهذه من مفارقات الإنشاء الفلسفي، بل من مفارقات درس الفلسفة ككل. وهي المفارقة التي تقتضي ضرورة معالجتها، وإلا ظل درس الفلسفة مجرد لحظة لاستعراض تاريخ الأفكار ليس أكثر.. وما يجعل الأمر يأخذ صورة مؤلمة فعلا، هو تكريس هذه المشاكل والمفارقات كحقيقة وكواقع أثناء امتحان الباكالوريا، عندما يتواطأ الكثيرون- كل من موقعه - عند موعد امتحان الفلسفة، في جعله حصة هرج ومرج، ظنا منهم أنهم ينقدون تلميذة أو تلميذا من الرسوب بسببها. يومها نحس وكأننا أمام احتفالية الغش، لسان حالهم يقول: جل التلاميذ عاجزون، لماذا لا نقدم لهم يد العون، بغض الطرف عن تجاوزاتهم الأخلاقية والتربوية تارة أو بالمساعدة المباشرة في الغش تارة أخرى..، وضعية مؤسفة فعلا. في ظل هذه الوضعية، هل من سبيل لتخليص درس الفلسفة من مشاكله ومفارقاته؟.. سؤال ما فتئ كل مرتبط بمادة الفلسفة – من قريب أو بعيد - في المستوى الثانوي التأهيلي يطرحه، لكن الإجابة تبقي في أحسن الأحوال محدودة ونخبوية، لأنها غالبا مؤجلة إلى إشعار آخر. والذي يزيد في تأجيلها ظهور معضلة أخرى تتعلق بلجوء الوزارة - لحل مشكل الخصاص ومشكل تغيير الإطار - لأساتذة من تخصصات أخرى لتدريسها( الجغرافيا، الدراسات الإسلامية، القانون..) ليس رغبة من هذه الثلة من الأساتذة في تدريس الفلسفة، بل لأن تخصصاتهم لا تحتاجهم، وإن احتاجوها هم. واضح أننا كلما تناولنا مشكلة من مشاكل مادة الفلسفة إلا واصطدمنا بأخرى لا تنفصل عنها، تزيدها تعقيدا وتفاقما، لكن وبما أن اللحظة هي اقتراب موعد امتحان الباكالوريا، وامتحان مادة الفلسفة جزء مهم فيه، نقول أن الإنشاء الفلسفي - أو المقالة الفلسفية كما يسميها البعض - واجهة درس الفلسفة المشرقة. فكيف لهذه الواجهة أن تكون كذلك، والفلسفة كمادة تعليمية تحضر على هامش التخطيط التربوي، وتتخبط في مشكلات لا تنتهي؟..