مقدمة : تنظم العلاقة بين المحكمة الجنائية الدولية وهيئة الأممالمتحدة من خلال اتفاقية تعتمدها جمعية الدول الأطراف حسب مانصت عليه المادة الثانية من النظام الأساسي لمعاهدة روما لعام 1998 المحدثة لهذه المحكمة. وتكون العلاقة هي نفس العلاقة بالهيئات الأخرى المنشأة بموجب اتفاقية، و التي تكون أهدافها قريبة من أهداف الأممالمتحدة، بمعنى أن الأممالمتحدة ترى إمكانية عمل هذه الهيأة كجزء من نظامها.1 وفيما يتعلق بالعلاقة بين المحكمة الجنائية الدولية و مجلس الأمن كما هي محددة في ميثاق الأممالمتحدة، ولاسيما الفصل السابع منه، والذي يعطي للمجلس سياسة مطلقة فيما يتعلق بالأمور التي تنطوي على حفظ و استعادة و بقاء السلام، ويعطي أيضا الفصل السابع للمجلس فرض العقوبات لحفظ و بقاء السلام ، ونتيجة لذلك ، يكون لمجلس الأمن الحق قي أن يحيل حالة للمحكمة الجنائية الدولية للتحقيق و إقامة الإدعاء النهائي. ووفقا للفصل 16 من ميثاق الأممالمتحدة يجوز لمجلس الأمن أن يطلب وقف الإجراءات أمام المحكمة الجنائية الدولية لمدة12 شهرا، و ذلك إذا ما رأى مجلس الأمن أن الحالة التي رفع بموجبها المدعي العام للمحكمة تشكل تهديدا للسلام والأمن وفقا لما نص عليه في ميثاق الأممالمتحدة و بموجب السلطات المبينة قي الميثاق من أن لمجلس الأمن الحق في إصدار قرارات ملزمة لكل الدول الأعضاء قي الأممالمتحدة. وهكذا فإن لمجلس الأمن الحق في إيقاف التحقيقات كما هو وارد في النظام الأساسي ووفقا لسلطاته المحددة في ميثاق الأممالمتحدة. ومن تم فالنظام الأساسي لا يقر لمجلس الأمن إلا بصلاحياته المشار إليها في الميثاق2. وبناء على ما سبق، فإن مجلس الأمن يجوز له أن يحيل على المحكمة الجنائية الدولية حالت تتعلق بالجرائم التي سبق أن بسطنا أنواعها من أجل تحريك المتابعة من قبل المدعي العام للمحكمة ، كما يجوز لمجلس الأمن من جهة أخرى أن يطلب إيقاف إجراءات المتابعة أمام المحكمة لمدة لا تتجاوز 12 شهرا كلما تبين له أن هذه الإجراءات من شأنها أن تهدد السلم والأمن الدوليين.وعلى الرغم من ذلك، فان سلطات مجلس الأمن في علاقته بالمحكمة الجنائية الدولية تبقى ضيقة ومحدودة وليس من شانها التأثيرعلى الاختصاصات الواسعة للمحكمة التي حددها نظامها الأساسي .وسنتناول في من خلال هذا البحث أوجه العلاقة بين المحكمة وهيئة الاممالمتحدة من حيث التعاون الإجرائي والتعاون التشريعي والتعاون القضائي. وبما أن التعاون الإداري والمالي لا يؤثر بشكل مباشر على النظام القضائي للمحكمة، فإننا سنقتصر في بحثنا على الأوجه الأخيرة فقط. وعليه ، سنقسم هذا البحث إلى مطلبين : نتناول في الأول التعاون الإجرائي والتشريعي، وللأهمية المتميزة للتعاون القضائي فسنخصص له المطلب الثاني . المطلب الأول : التعاون الإجرائي من أهم أوجه التعاون الإجرائي بين المحكمة والأممالمتحدة ، ما يتعلق منها بتزويد المحكمة بالمعلومات التي تحتاجها لاستكمال إجراءات التحقيق وجمع الأدلة، وكذلك الحال تزويد المدعي العام فيها بالمعلومات المطلوبة. كما يدخل في هذا السياق تعاون الأممالمتحدة مع المحكمة في رفع الحصانة عن موظفيها المتورطين بارتكاب جرائم تدخل في اختصاصها. الفرع الأول : تقديم المعلومات للمحكمة إن موظفي الأممالمتحدة يتمتعون بحصانة قضائية، كما أن لسجلاتها حماية خاصة، بموجب اتفاقية عام 1946 ،والمتعلقة بامتيازات وحصانات الأممالمتحدة. ولهذا فإن النفاذ إلى معلومات خاصة بالأممالمتحدة الذي قد تتطلبه العملية القضائية للمحكمة ، يجب أن يخضع لموافقة خاصة من جانب الأمين العام للأمم المتحدة ،وهذا ما تناوله " الاتفاق التفاوضي المعني ب العلاقة بين المحكمة الجنائية الدولية و الأممالمتحدة " ،إذ تتعهد الأممالمتحدة بالتعاون مع المحكمة وأن تزودها بما تطلبه من معلومات ومستندات ، على أن يؤخذ بعين الاعتبار مسؤوليات الأممالمتحدة واختصاصاتها بموجب الميثاق.كما يجوز للأمم المتحدة أو برامجها أو صناديقها أو مكاتبها المعنية ،الموافقة على أن توفر للمحكمة أشكالاً أُخرى من التعاون والمساعدة، تتفق مع أحكام الميثاق والنظام الأساسي. ولكن في حالة ما إذا كان الكشف عن المعلومات أو المستندات أو تقديم أشكال التعاون أو المساعدة الأخرى من شأنه أن يُعَرِّضَ سلامة أو أمن موظفي الأممالمتحدة الحاليين أو السابقين، أو يضر بنحو آخر بأمن أية عملية أو أنشطة للأمم المتحدة ،أو بسلامة تنفيذها ،فإنه يجوز للمحكمة أن تأمر- بناءً على طلب الأممالمتحدة بصفة خاصة – باتخاذ تدابير حماية ملائمة. كذلك إذا طلبت المحكمة من الأممالمتحدة تزويدها بمعلومات أو مستندات مُودعةً لديها أو في حوزتها أو تحت سيطرتها، وكانت قد كُشِفَ لها عنها بصفة سريَّة من جانب دولة أو منظمة حكومية دولية أو منظمة دولية أو منظمة غير حكومية،فإن الأممالمتحدة تقوم بالتماس موافقة المصدر على الكشف عن تلك المعلومات أو المستندات، فإذا كان المصدر دولةً طرفاً في النظام الأساسي ولم تتمكن الأممالمتحدة من الحصول على موافقتها بخصوص الكشف المطلوب في غضون فترة زمنية معقولة ، فإن الأممالمتحدة تُبَلِّغ المحكمة بذلك.و تُحَل مسألة الكشف عن المعلومات المطلوبة بين الدولة الطرفالمعنية والمحكمة وفقاً للنظام الأساسي.فإذا لم يكن مصدر المعلومات أو المستندات دولةً طرفاً في النظام الأساسي، ورفضت الموافقة على الكشف عنها، تقوم الأممالمتحدة بإبلاغ المحكمة بأنها ليست قادرة على توفير لمعلومات أو المستندات المطلوبة ،بسبب وجود التزامٍ مسبق بالمحافظة على السرية مع مصدر المعلومات . الفرع الثاني : تقديم المعلومات إلى المدعي العام تتعهد الأممالمتحدة ، بموجب الاتفاق التفاوضي بينها وبين المحكمة، بالتعاون مع المدعي العام ،والذي يتولىمهمتي التحقيق والاتهام أمام المحكمة.كما أنها تعقد معه ما قد يلزم من ترتيبات أو اتفاقات -حسب الاقتضاء-لتسهيل هذا التعاون، لاسيما عندما يمارس واجباته وسلطاته المتعلقة بإجراء التحقيقات.كما أن الأممالمتحدة تتعهد بالتعاون فيما يتعلق بطلبات المدعي العام،بتقديم ما قد يلتمسه من معلومات إضافية من هيئاتها وفقاً للفقرة الثانية من المادة 15 من النظام الأساسي، وذلك بخصوص التحقيقات التي يباشرها من تلقاء نفسه.وينبغي على المدعي العام توجيه طلب بالحصول على هذه المعلومات إلى الأمين العام للأمم المتحدة ،حيث يقوم الأخير بإحالة الطلب إلى رئيس الهيئة المعنية، أو إلى مسؤول آخر يتولى هذه المهمة .كما يمكن للأمم المتحدة أن تتفق مع المدعي العام ،على أن تقوم بتقديم المستندات أو المعلومات المطلوبة إليه بشرط المحافظة على سريَّتها، ولغرض مُحَدَّد ،هو استقاء أدلة جديدة، بشرط أن لا يكشف عن هذه المعلومات لأجهزة أُخرى من أجهزة المحكمة،أو لأطراف ثالثة،في أي مرحلة من مراحل الدعوى ، أو بعدها، دون موافقة الأممالمتحدة . الفرع الثالث: رفع الامتيازات و الحصانات الخاصة بموظفي الأممالمتحدة يتمتع العاملون في الأممالمتحدة يتمتعون بحصانات بموجب قواعد القانون الدولي .غير أن النظام الأساسي يقرر ولاسيما المادة 27 منه قد استبعد مبدأ الحصانة الممنوحة للأشخاص بمقتضى القانون الدولي أو القوانين الوطنية ،لأنه كثيراً ما وقف عائقاً أمام إحقاق مبادئ العدالة.لذلك، فعلى الأممالمتحدة أن تتعاون مع المحكمة ، وأن تتخذ جميع التدابير اللازمة من أجل السماح للمحكمة بممارسة اختصاصها، و ذلك من خلال رفع جميع الامتيازات و الحصانات التي تَحُول دون إمكانية ملاحقة المتهمين ومحاكمتهم. الفرع الرابع :الجرائم المرتكبة ضد موظفي الأممالمتحدة نصت المادة 8 من النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية ،على أن هذه الأخيرة تختص تلك الجرائم في حالة ارتكابها ضد العاملين في المهام الإنسانية أوحفظ السلام وضمن جرائم الحرب فقط ،بما فيهم موظفي الأممالمتحدة العاملين في مثل هذه المهام .إلا أن هناك من يرى ضرورة إدراج هذه الجرائم في اختصاص المحكمة بشكل عام، وليس في سياق المهام الإنسانية وعمليات حفظ السلام فقط. فقد تقدمت دولة المكسيك بمشروع قرار إلى مجلس الأمن يدعو إلى حماية العاملين ب الأممالمتحدة في أنحاء العالم، حيث بادرت بتقديمه إثر الهجوم الانتحاري على مقر الأممالمتحدة في العاصمة العراقية بغداد في 19 آب 2003،وطالب المشروع الذي تبنته بلغاريا وفرنسا وألمانيا وروسيا وسورية، وَ أَيَّدَتْهُ أغلبية أعضاء مجلس الأمن، بمحاكمة مرتكبي الجرائم ضد موظفي الأممالمتحدة أمام المحكمة الجنائية الدولية. وتضمن المشروع مجموعة من الجرائم ، من بينها الاختطاف والقتل المتعمد والاغتصاب وغيرها من الجرائم التي حددتها لوائح المحكمة الجنائية الدولية، و التي تُصَنَّف من جرائم الحرب. غير أن الولاياتالمتحدة عارضت مشروع القرار. وفي حملة دبلوماسية، قادها وزير الخارجية الأمير كي كولن باول،حاول فيها إقناع نظيره المكسيكي لويس أرنستو ديربز،بحذف الفقرة التي تشير إلى المحكمة ، فتم لهُ فيها ما أراد، وصدر قرار مجلس الأمن رقم 1502 في السادس والعشرين من آب سنة2003 خالياً من الإشارة إلى المحكمة الجنائية الدولية ، مكتفياً بِحَثِّ الدول على معاقبة مرتكبي تلك الجرائم . المطلب الثاني: التعاون التشريعي من أهم مظاهر التعاون التشريعي نذكر دور هيئة الأممالمتحدة في إعداد وتعديل التشريعات الخاصة بالمحكمة ثم دورها في تفسير بنود النظام الأساسي لها. الفرع الأول :دور الأممالمتحدة في إعداد وتعديل التشريعات الخاصة بالمحكمة الجنائية الدولية . إن جمعية الدول الأطراف في النظام الأساسي للمحكمة هي التي تُقِر التشريعات التي تتعلق بالمحكمة تعد بمثابة برلمان المحكمة.غير أنه يجوز للأمم المتحدة وبموجب الفقرة الثالثة من المادة 11 من النظام الداخلي لجمعية الدول الأطراف، يجوز للأمم المتحدة أن تقترح بُنوداً تُدرج ضمن جدول أعمال الجمعية لكي تنظر فيها. ومن ناحية أخرى وبموجب المادتين 35 و36 من النظام الداخلي لجمعية الدول الأطراف، فإن للأمم المتحدة دعوة مفتوحة للمشاركة في أعمال ومداولات الجمعية، دون أن يكون لها حق التصويت.وحينما تناقش مسائل تهم الأممالمتحدة داخل الهيئات الفرعية لجمعية الدول الأطراف، يحضر الأمين العام أو من يمثله – لو رغب في ذلك – أعمال ومداولات هذه الهيئات، ويجوز للأمين العام أو من يمثله، أن يدلي ببيان شفوي أو خَطِّي خلال المداولات،كما يجوز له أن يشارك في اجتماعات جمعية الدول الأطراف ومكتب الجمعية ،و له أيضاً أن يُدلي ببيانات شفوية أو خَطيَّة بشأن أي مسألة تنظر فيها الجمعية، وتكون لها علاقة بأنشطة الأممالمتحدة ، كما يمكنه أن يقدم أي معلومات يراها ضرورية وحسب الاقتضاء . كما أنه بموجب المادة 123 من النظام الأساسي ، وبعد انقضاء سبع سنوات على بدء نفاذه،يعقد الأمين العام للأمم المتحدة مؤتمراً استعراضياً للدول الأطراف،بُغْيَة النظر في أية تعديلات قد تدعو الضرورات العملية والفنية بإجرائها عليه،ويجوز أن يشمل ذلك قائمة الجرائم الداخلة في اختصاص المحكمة. الفرع الثاني: دور محكمة العدل في تفسير النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية حسب المادة 119 من النظام الأساسي ،فإن أي نزاع يتعلق بالوظائف القضائية للمحكمة يُسَوَّى بقرار منها،ولكن إذا حدث نزاع لا يتعلق بالوظائف القضائية، و كان النزاع بين دولتين أو أكثر من الدول الأطراف، بشأن تفسير أو تطبيق النظام الأساسي،ولم يُسَوَّى عن طريق المفاوضات،فإنه يُحالإلى جمعية الدول الأطراف في غضون ثلاثة أشهر من بدايته،ويجوز للجمعية أن تسعى لتسويتهأو إحالته إلى محكمة العدل الدولية ، والتي يتبين أنها تساهم في تفسير التشريعات الخاصة بالمحكمة. المطلب الثالث:التعاون القضائي بالرغم من أن إنشاء المحكمة الجنائية الدولية لم يتم عن طريقه، فإنه وبضغط من الدول الخمسة دائمة العضوية في المجلس، فقد مُنِحَ اختصاصات واسعة ومهمة جداً في نطاق العمل القضائي لتلك المحكمة،تتعلق بتحريك الدعوى،وإمكانية تأجيل نظر المحكمة في دعوى معينة، فضلا عن الدور الذي يلعبه في حالة عدم استجابة الدول لطلبات المحكمة. الفرع الأول: تحريك الدعوى من مجلس الأمن بالنسبة للمحكمة الجنائية الدولية،يلاحظ أنه بالرغم من أن لمجلس الأمن الحق في تحريك الدعوى ضد مرتكبي الجرائم الدولية التي تمس الأمن والسلم الدوليين بموجب الفصل السابع من الميثاق الأممالمتحدة.ومع ذلك فقد أكد النظام الأساسي في المادة 13 على هذه الصلاحية عند تعداده للجهات المختصة بتحريك الدعوى، وهي : أ- أحد الدول الأطراف ب- مجلس الأمن الدولي ج- المدعي العام للمحكمة وبناءً على ما تقدم ، فلمجلس الأمن أن يحيل إلى المدعي العام أيَّ "حالة" يبدو فيها أن جريمةً أو أكثر من الجرائم الداخلة في اختصاصها قد ارتكبت. وعندما يقرر المجلس إحالة تلك الحالة ، فإن الأمين العام للأمم المتحدة يُحِيل - وعلى الفور – قرار مجلس الأمن الخَطِّي إلى المدعي العام،مشفوعاً بالمستندات والمواد الأُخرى التي تكون وثيقة الصِلة بقرار المجلس .وبالمقابل ،تُحال عن طريق الأمين العام المعلومات التي تقدمها المحكمة إلى مجلس الأمن . و الغاية من إعطاء المجلس هذه الصلاحية بمقتضى النظام الأساسي و المادة 40 من الفصل السابع من الميثاق ، يرجع إلى أن المحافظة على الأمن والسلم الدوليين من مسؤولياته الأساسية، ولتجنب تدخل مجلس الأمن مستقبلاً في إنشاء محاكم جنائية دولية مؤقتة كما حصل في يوغسلافية السابقة ورواندا. الفرع الثاني : سلطة مجلس الأمن في التدخل في إجراءات التحقيق أو المحاكمة. إذا كان لمجلس الأمن الحق بإحالة أي حالة يرى أ نها تدخل ضمن إطار الجرائم الداخلة في اختصاص المحكمة ، فإن له من جهة أُخرى الحق باتخاذ قراريُوصي بمقتضاه ،عدم البدء بالتحقيق أو المقاضاة ، أو وقفها ، في أي مرحلة من مراحل التحقيق أو المحاكمة.حيث تنص المادة 16 من النظام الأساسي على أنه : (لا يجوز البدء، أو المضي في تحقيق أو مقاضاة ،بموجب هذا النظام الأساسي ،لمدة إ ثنى عشر شهراً، بناءً على طلب من مجلس الأمن إلى المحكمة بهذا المعنى ،يتضمنه قرار يصدر عن المجلس بموجب الفصل السابع من ميثاق الأممالمتحدة، ويجوز للمجلس تجديد هذا الطلب بالشروط ذاتها).فإذا ا تخذ مجلس الأمن،بموجب الفصل السابع من الميثاق، قراراً يطلب فيه من المحكمة،عدم البدء أو المضي في أي تحقيق أو مقاضاة ، فإن الأمين العام يحيل هذا الطلب على الفور إلى رئيس المحكمة ومدعيها العام، وعلى المحكمة التقيد بمقتضاه . ومن الواضح أن هذه السلطة الممنوحة لمجلس الأمن تشكل قيداً يُكَبِّل يَد المحكمة من الاستمرار بممارسة اختصاصها في نظر أَيَّةِ دعوى،وفي أَيَّةِ مرحلة كانت عليها ابتداءً من التحقيق وإلى ما قبل إصدار الأحكام،ولمدة سنة قابلة للتجديد لمرات غير محددة ،بالنظر للإطلاق الذي ورد عليه ال نص المتقدم ،مادام مجلس الأمن راغباً في ذلك ، ودون مراعاة لأي اعتبارٍ آخر ، بما في ذلك المجنى عليه الذي لم يحسب له أَي حساب.فضلاً عن أن تَحَكُّم مجلس الأمن كجهة دولية تسيطر عليها السياسة لا العدالة القانونية، يُثير الشك حول نزاهة و حِيْدَة التحقيقات والمحاكمات الجنائية الدولية ،إذا ما أُجِّلَتْ عدة مرات . الفرع الثالث: دور مجلس الأمن في حالة عدم استجابة الدول لطلبات المحكمة أما بالنسبة للمحكمة الجنائية الدولية،ف عملاً بالفقرتين 5 و 7 من المادة 87 من النظام الأساسي ، فإن للمحكمة أن تدعو أية دولة غير طرف في ذلك النظام ، إلى تقديم المساعدة المنصوص عليها في الباب التاسع منه- و المتعلق بالتعاون الدولي والمساعدة القضائية- على أساس ترتيب خاص أو اتفاق مع هذه الدولة، أو على أي أساس مناسب آخر.و في حالة امتناع دولة غير طرف في النظام الأساسي،ولكنها عقدت ترتيباً خاصاً أو اتفاقاً مع المحكمة، عن التعاون بخصوص الطلبات المقدمة، يجوز للمحكمة أن تُخْطِر بذلك جمعية الدول الأطراف، أو مجلس الأمن،إذا كان المجلس هو الذي أحال موضوع الدعوى إلى المحكمة.أما في حالة عدم امتثال دولة طرف في النظام الأساسي،لطلب تعاون مقدم من المحكمة،وهو أمرٌ يتنافى وأحكام النظام الأساسي، ويحول دون ممارسة المحكمة لوظائفها وسلطاتها ، فإن للمحكمة أن تتخذ قراراً بهذا المعنى ، ولها أن تحيل المسألة إلى جمعية الدول الأطراف، أو إلى مجلس الأمن أيضاً،إذا كان هو صاحب قرار الإحالة إلى المحكمة. فإذا قررت المحكمة أن تُبَلِّغ مجلس الأمن،بامتناع دولةٍ ما عن التعاون المطلوب،أو أن تُحيل هذه المسألة إلى المجلس – حسب الأحوال-،عندئذٍ يُرسل مُسَجِّل المحكمة قرار المحكمة هذا إلى المجلس عن طريق الأمين العام للأمم المتحدة، مشفوعاً بالمعلومات ذات الصلة بالقضية، ليتولى المجلس اتخاذ الإجراء الذي يراه مناسباً.ومن ثم يُبَلِّغ المجلس ،عن طريق الأمين العام للأمم المتحدة ، المحكمة الجنائية الدولية و عن طريق المُسَجِل أيضاً بما اتخذه من إجراءات في ظل تلك الظروف .وعليه، فان المحكمة تستعين بمجلس الأمن ، بما لهُ من سلطات واسعة،لضمان استجابة الدول لطلباتها، وسواءً كانت من الدول الأطراف أو الدول غير الأطراف. الفرع الرابع: دور مجلس الأمن في تقرير وجود حالة العدوان جريمة العدوان من الجرائم الخطيرة على المجتمع الدولي، لذلك تم إدراجها في النظام الأساسي للمحكمة . وبما أن إختصاص المحكمة لن ينعقد بخصوص هذه الجريمة حتى يتم التوصل إلى تعريف لها ،و حيث لم يتم التوصل إلى هذا التعريف في مؤتمر روما ، فقد تم إناطة هذه المهمة ب"اللجنة التحضيرية للمحكمة الجنائية الدولية"، والتي لم تتمكن بدورها من تحديده في جلساتها العَشْر ، ويبدو أن التوصل إلى اتفاق بشأن تعريف جريمة العدوان،أمرٌ غير ممكن في المستقبل المنظور. وبعد أن تولت جمعية الدول الأطراف مهامها، قامت في أول اجتماع لها بإنشاء فريق معني با لتوصل إلى تعريف لهذه الجريمة ،حيث أن هنالك ثلاثة تعريفات تَبَنَّى كل واحدٍ منها مجموعة من الدول.إلا أن الخلاف بشأن هذه الجريمة لا يتعلق بتعريفها حسب ، بل ينصرف إلى مسألة أُخرى أكثر أهمية،وهي تحديد الجهة التي تقرر وجود حالة العدوان، وهو شرطٌ أساسي لكي تمارس المحكمة اختصاصها في نظر هذه الجريمة. فالدول دائمة العضوية في مجلس الأمن- وخاصة الولاياتالمتحدةالأمريكية وبريطانية – أفصحت مراراً بأن النجاح في تعريف العدوان وتحديد عناصره وعَدِّهِ من الجرائم الداخلة في اختصاص المحكمة، يجب أن لا يؤثر مطلقاً على صلاحيات وسلطات مجلس الأمن المقررة بموجب الفصل السابع من الميثاق، والتي بموجبها ينفرد مجلس الأمن بتقرير وجود حالة العدوان وتحديد الطرف المعتدي.كما أن التعريف الذي اقترحته دول الاتحاد الأوربي لهذه الجريمة لم يتعرض إلى هذه المسألة المهمة ،وهكذا فإنها لم تعترض على الرأي المتقدم.إلا أن هذا الرأي رفضته العديد من الدول،ومنها دول عدم الانحياز و المجموعة العربية، لأنه سيجعل المحكمة لا تباشر صلاحيتها في محاكمة المعتدي إلا إذا سمح مجلس الأمن بذلك .وبما أن الدول الخمسة الدائمة العضوية في مجلس الأمن تملك حق النقض (الفيتو) فسيكون بإمكان أيٍّ منها فرض إرادته بهذا الخصوص " فإذا اتفقت الدول الأربعة عشر في مجلس الأمن على أن الحالة المعروضة عليه تشكل جريمة عدوان ،إلا أن أحد الدول دائمة العضوية استخدمت حق النقض (الفيتو) فإن استخدامه يعني الحيلولة دون إمكانية المحكمة من استخدام صلاحيتها تجاه الحالة المعروضة.وعندئذ ٍ سنعود إلى عدالة المنتصر ، أو إلى العدالة الانتقائية التي من شأنها إفلات بعض مرتكبي جريمة العدوان من المساءلة والعقاب –وخاصةً إذا ما تعلق الأمر برعايا الدول دائمة العضوية-هو اتجاهٌ يتنافى والأهداف التي من أجلها أُنشئت المحكمة. كما أن هذا الأمر من شأنه أن يَطْرَح إشكالية عملية ، مقتضاها أنه إذا أخفق مجلس الأمن في إصدار قرار بشأن جريمة العدوان لسبب أو لآخر ،فكيف يتم حَلُّ هذه المشكلة؟ وتقدمت المجموعة الأخيرة من الدول بثلاثة مقترحات بهذا الخصوص : 1- العودة إلى قرار " الاتحاد من أجل السلام " الذي صَدَرَ عن الجمعية العامة للأمم المتحدة عام 1950بناءً على طلب الولاياتالمتحدة آنذاك،والذي يمنح الجمعية العامة للأمم المتحدة حَقَّ الحلول محل مجلس الأمن،إذا لم يتمكن الأخير من التصدي لمسؤولياته بسبب استخدام أحد أعضائه الدائمين حق النقض (الفيتو) – وقد استخدم هذا القرار في العدوان الثلاثي على مصر– إلا أن هذا المقترح الذي تقدمت به سوريا ، رُفِض بِحُجة أن الظروف الدولية الراهنة تختلف عن الظروف التي اتخذ فيها ذلك القرار . 2- أن يُحال الموضوع إلى المحكمة الجنائية الدولية لتمارس دورها ،دون إذن أو تفويض من مجلس الأمن ،وبذلك تُعْكَس الآية، فلا يُعَلَّق اختصاص المحكمة القضائي على القرار السياسي لمجلس الأمن.وقد رُفِض هذا الاقتراح من الدول دائمة العضوية في مجلس الأمن ،التي أكدت أن المحكمة لا تملك اختصاص النظر في جريمة العدوان ومن ثم محاكمة مرتكبيها إلا بعد أن يعتمد مجلس الأمن قراراً بوقوع العدوان ،وهو شرطٌ لابد منه لإثارة المسؤولية الجنائية الفردية أمام هذه المحكمة . 3- إحالة الموضوع إلى محكمة العدل الدولية بناءً على طلب الجمعية العامة أو مجلس الأمن لإصدار رأي استشاري بوقوع جريمة العدوان ، ومن ثم إحالة الموضوع إلى المحكمة الجنائية الدولية .وهو رأي لم يتوصل إلى اتفاق بشأنه بسبب موقف الدول دائمة العضوية الراغب في حَصر تلك الصلاحية بمجلس الأمن الدولي وحده . الهوامش: 1-راجع د. محمود شريف بسيوني، المحكمة الجنائية الدولية، ص70 2-راجع د. محمود شريف بسيوني، مرجع سابق، ص.69-