وقفت في المقالين الرابع والخامس على سببين أساسيين من أسباب التطرف والإرهاب، ألا وهما: الرغبة في خدمة الإسلام وسوء الظن بالمخالف وخاصة العلماء، وهذان السببان هما أهم الأسباب في الحقيقة، حيث يشترك فيهما كل المتطرفين، وربما عن هذين السببين تتفرع باقي الأسباب. وهناك أسباب أخرى قد تكون الدافع لدى البعض منهم دون البعض الآخر، ومن هذه الأسباب: 3- الرغبة في دفع الظلم والإنتصارللأخ للمظلوم يردد المتعاطفون مع الجماعات المتشددة مقولات يستميلون بها عواطف الناس ومشاعرهم، ويصدق في حق هذه الجمل في الحقيقة ما قاله سيدنا علي كرم الله وجهه: "كلمة حق قصد بها باطل". فالذي ينظر إلى ظاهر هذه الجمل والأقوال لا يرى فيها عيبا، وربما لذلك يستعملونها مدخلا لقلوب الكثير من الشباب لإقناعهم بالانضمام إلى هذه الجماعة أو تلك. ومن بين هذه الجمل والمقولات: "ماذا علينا فعله تجاه إخواننا في هذا البلد أو ذك؟ أليست نصرة المسلم المظلوم واجبة؟ أليس إخواننا مظلومين تكالب عليهم العالم كله؟ أليس واجبا علينا نصرتهم؟ فماذا علينا فعله لنجدتهم ونجدة الإسلام من خلالهم...؟" هذه الجمل ومثيلاتها تفعل فعلها في استقطاب الشباب، حيث تصور أن الأمر دفاع عن المظلومين ونصرة للإسلام والمسلمين، فتلامس هذه الدعوة رغبة جامحة لدى البعض في نصرة الإسلام وإظهار الرجولة والشهامة، فينساق وراء هذه الدعوة دون أن يتحقق من مضمونها ومدى مصداقيتها. كما تلامس دعوات الانتصار للدين أو للطائفة هذه مرضا مستحكما في أبناء الأمة وبشتى طوائفها، اسمه: داء "نحن مستهدفون"، فالمسلمون مستهدفون من قبل الغرب والسنة مستهدفون من قبل الشيعة والحركات الإسلامية مستهدفة من قبل الأنظمة، وهذا الذي نظنه يستهدفنا يرى نفسه أيضا مستهدفا من قبلنا، فالغرب يرى نفسه مستهدفا من قبل المسلمين والشيعة من قبل السنة والأنظمة من قبل الحركات الإسلامية... وهكذا، فمن يستهدف من يا ترى؟ كل منا يتقن دور الضحية ويرتاح له ويجد فيه ضالته ويتفنن في لعبه بشكل مقيت، ليجد مبررا أخلاقيا لفعله أو ردة فعله تجاه هذا الآخر الذي أقنع نفسه أنه فعلا يستهدفه. ولتأكيد ما أقول أضرب مثالا بإمكان كل واحد منا أن يجربه: لو نشر أحدنا خبرا أو عرض مادة صوتية أو مرئية على صفحته على الفيسبوك مثلا، مضمونها أن أحد أبناء دينه أو أتباع طائفته تعرض لظلم، لتفاعل أتباع دين أو طائفة الضحية مع الحدث بالآلاف وربما بالملايين، ولعلقوا عليه ولنشروه وأذاعوه انسياقا وراء الهاجس الذي يسكن داخلهم "أنهم مستهدفون". بينما تراهم يشككون في مصداقية الخبر ويتجاهلونه متى كان مضمونه أن ابن الدين أو الطائفة أو التنظيم هو الجاني وليس الضحية! ولعمري، هل هذا السلوك انتصار للحق والعدل الذي أمرنا به الإسلام؟ أم هو انتصار للطائفة والفئة والعصبية، والذي نهينا عنه؟. ليس معنى هذا أن جميع دعاوى التظلم التي يرفعها المسلمون ليست صادقة، فهناك حالات كثيرة فعلا يتعرض فيها المسلمون للظلم، إن من قبل أنظمة الحكم في البلدان الإسلامية، أومن قبل المسلمين أتباع الطوائف الأخرى، أومن قبل غير المسلمين كما هو الشأن في فلسطين وموافقة أو سكوت الغرب على الانتهاكات التي تستهدف المسلمين هناك، أو كممارسة العنصرية ضد المسلمين في الغرب والمطالبة برحيلهم أو ترحيلهم! كل هذه التصرفات من شأنها أن تدفع ببعض المسلمين إلى الجنوح نحو التطرف أو الإرهاب في مواجهة ما يرونه ظلما يرتكب في حقهم. فكل خطوة في اتجاه نشر العدل والقضاء على الظلم من شأنها أن تساهم في الحد من التطرف والإرهاب. إننا لا نجادل في أن نصرة الأخ الملسلم لأخيه واجبة وجوب نصرة المظلوم مهما كان دين هذا المظلوم أو جنسه، والرسول صلى الله عليه وسلم علمنا كيف تكون النصرة، ففي الحديث الصحيح عن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "انصر أخاك ظالماً أو مظلوماً"، فقال رجل: يا رسول الله صلى الله عليه وسلم، أنصره إذا كان مظلوماً، أفرأيت إذا كان ظالماً كيف أنصره؟! قال: "تحجزه أو تمنعه من الظلم، فإن ذلك نصره". فمن خلال هذا الحديث يتبن لنا أمران: أولهما أن نصرة الأخ لأخيه لا تعني دائما مسايرته فيما هو فيه والوقوف خلفه كيفما كان الحال! فهذا التصرف كان من سمات الجاهلية، فجاء الإسلام بتقويمه، وأمر المسلمين أن ينصروا إخوانهم فقط متى كانوا على الحق، أما إن كانوا ظالمين فنصرتهم تعني نصحهم وردهم عن الظلم وليس مساعدتهم على ظلمهم أبدا. الأمر الثاني الذي يتبين من خلال الحديث هو أن هذا الأخ في الدين أو الطائفة أو التنظيم قد يكون ظالما، وهذه حقيقة لا بد أن نقبلها، إن هذا الأخ الذي قد نكن له الحب والإعجاب والتقدير وتربطنا به روابط قوية، قد يكون ظالما في نزاعه مع الآخر، فهو ليس معصوما، وظلمه المحتمل هذا ليس بالضرورة ناتج عن عمد، فقد يكون عن خطإ وقد يكون عن جهل، فحذاري ثم حذاري أن تعمينا عواطف الأخوة عن النظر إلى فعل الأخ بعين العدل والإنصاف، فنحسن فعله بينما هو يستحق التقبيح!. لقد أثبت القرآن أن المؤمنين قد يصدر منهم الظلم والبغي على إخوانهم، فما بالك على أعدائهم وخصومهم! قال تعالى: "(وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا ۖ فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَىٰ فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّىٰ تَفِيءَ إِلَىٰ أَمْرِ اللَّهِ ۚ فَإِن فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا ۖ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ) الحجرات:9 . ولقد أرشدنا النبي صلى الله عليه وسلم من خلال الحديث السابق إلى أن النصرة تكون بأحد أمرين: تقديم المعونة والدعم بشتى أنواعه إن كان الأخ مظلوما، والنصح والمنع من الظلم إن كان الأخ ظالما. إذا، فلا بد من التحقق والتيقن بأن الأخ الذي نريد نصرته مظلوم فعلا، ولا يتم هذا التحقق إلا بعد توفر المعطيات اللازمة لأخذ نظرة صحيحة، وبناء حكم عادل حول الصراع بين أخينا الذي نريد نصرته وخصمه، ومن بين المعطيات التي لا بد من توفرها: الاستماع إلى الطرف الآخر الذي يدعي أيضا أن هذا الأخ ظلمه، ثم النظر في حججه وأدلته التي يدعي من خلالها أيضا أنه مظلوم، وبعد التحقق من حجج أخينا الذي نريد نصرته وحجج خصمه الذي يدعي أن أخانا ظلمه، يمكننا الوصول إلى حكم عادل نتصرف على إثره حسب مقتضيات الشرع. ودون هذا الأمر، فإن المسارعة في نصرة الأخ نصرة عمياء دون روية وتثبت نصرة على الطريقة الجاهلية وليست أبدا على طريقة الإسلام!. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "من خرج من الطاعة وفارق الجماعة فمات مات ميتة جاهلية ومن خرج على أمتي يضرب برها وفاجرها لا يتحاشى من مؤمنها ولا يفي لذي عهدها فليس مني ومن قاتل تحت راية عمية يدعو إلى عصبية أو يغضب لعصبية فقتل فقتلة جاهلية". هذا الحديث يحذرنا من القتال تحت راية القبيلة أو العصبية أو العمية، والعمية من العمى والضلال، والعمى كناية عن عدم الوضوح في الرؤيى، وهنا أسأل نفسي وإخواني: أين وضوح الرؤيى مما يجري في سوريا والعراق؟ أين المحجة البيضاء التي أمرنا النبي صلى الله عليه وسلم بلزومها عند الفتن؟ كيف بدأ هذا القتال وكيف تشعب؟ كيف توسعت أهدافه وتنوعت وتبشعت وسائله وصوره؟ من يحرك خيوطه؟ ما الغاية من ورائه؟ متى سينتهي؟ ومن المستفيد منه؟.أسئلة لا بد أن يطرحها على نفسه كل من يريد المشاركة في هذا القتال. ألا يستدعي هذا الوضع المعقد من المسلم الذي يحتاط لدينه المزيد من التريث قبل الدخوا في هذه المعمعة؟ خاصة وأن الأمر يتعلق بإزهاق آلاف الأرواح؟. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:(لن يزال المؤمن في فسحة من دينه ما لم يصب دما حراما) رواه البخاري. كيف يغامر المسلم بحياته أو بحياة الآخرين في وضع نتج عن واقع لا يعرف شيئا عن أسبابه وحيثياته وملابساته؟ كل يدعي الجهاد، وكل يدعي نصرة الإسلام، وكل يدعي دفع الظلم. والنتيجة آلاف الأرواح تزهق، ودول تدمر وشعوب تشرد وأمة تعاني وتئن... ولا حول ولا قوة إلا بالله. [email protected]