لقد انعقدت الدورة الأولى للمجلس الوطني لنادي قضاة المغرب والقضاء المغربي يمر بلحظات هامة وحاسمة في تاريخه من حيث عدة معطيات يتجلى أهمها في كونه يعيش الآن مرحلة انتظار عمَّرت طويلا -في نظري- لإخراج القوانين التنظيمية المتعلقة بالسلطة القضائية، إذ إنه منذ صدور الدستور الجديد سنة 2011 والسلطة القضائية تنتظر، وهذا الانتظار، بل والتردد، تتحمل مسؤوليته وزارة العدل، مما طبع مسطرة الإعداد في أحيان كثيرة بالتعثر نتجت عنه عدة سلبيات، ليس أقلها من اشتغال البلد بسرعتين: سرعة تعيش على ايقاعها السلطتان التنفيذية والتشريعية اللتان تشتغلان وفق منطق دستور 2011 وتستفيد من المزايا العديدة التي جاء بها، وسلطة قضائية لازالت حبيسة قوانين تعود إلى السبعينات (النظام الأساسي للقضاة مثلا)؛ فهل يعقل أن نبقى أربع سنوات من بعد مصادقة المغاربة على الدستور الجديد دون إخراج أي نص من النصوص التنظيمية المتعلقة بالسلطة القضائية؟ مع أن جلالة الملك طالب منذ سنة 2012 في خطابه أمام البرلمان بالإسراع في إخراج هذه النصوص؟ هذا طبعا لا يمكن تفسيره، مهما أحسنًّا النية بالمعنيين بإخراج هذه النصوص، إلا بابتغاء أهداف من وراء هذ الوضعية الجامدة، وأنتم تعرفون أن هذه الوضعية ينتج عنها عدة آثار تهم القضاة كأفراد، من حيث استفادتهم من الضمانات الممنوحة لهم دستوريا -ومنها ضمانات التاديب التي منحهم الدستور لأول مرة حق الطعن قرارات الصادرة عن المجلس الأعلى للسلطة القضائية بهذا الخصوص وغيرها من الضمانات-، كما تهم هذه الضمانات أيضا القضاء كمؤسسة من حيث وجودها ومن حيث اشتغالها وضرورة ابداء رأيها في كل ما يُعد من قوانين تهم القضاء إما كمؤسسة أو ممارسة أي القوانين التي تهم موضوع الحق وسُبل اقتضائه. ليت هذا الانتظار وهذا الوقت الكبير أسفر عن ظهور مشاريع ومسودات قوانين في المستوى المطلوب ووفقا للسقف الدستوري الذي هو ملك لنا جمعا كمغاربة قبل أن نكون قضاة، بل إن إلقاء نظرة على هذه المشاريع والمسودات وما يصاحبها من نقاشات وتصريحات لمسؤوليين وتصرفات سوف تجدون أن الأمر لا يبعث على التفاؤل، وأنه عوض أن تكون هذه النصوص شارحة لما ورد في الدستور من الحقوق بشكل مجمل فإنها -في نظري- وفي الكثير من مقتضايتها -حتى لا أعمم- جاءت مقيدة لما ورد فيه من حقوق لفائدة السلطة القضائية، ولكم أن تأخذوا أمثلة على ذلك بما يلي: - تقزيم دور المجلس الأعلى للسلطة القضائية وجعله يقترب من مجرد لجنة للبتّ في الوضعيات الفردية للقضاة تقريبا، وبقاء السلطة التنفيذية هي المهيمنة على المحاكم في كل الجزئيات من حيث الجانب التسييري لها. - بقاء المسؤوليين القضائيين خاضعين لمراقبة وزارة العدل، وأنتم تعلمون جيدا ماذا يعني ذلك من إشكالات. - غياب معايير الحكامة في تسيير المرفق القضائي الذي يجب أن يكون عبر معايير واضحة إضافة إلى مبدأ التباري كما هو منصوص عليه دستوريا وكما هو معمول به في باقي مؤسسات الدولة. - عدم وضوح بعض الاختيارات: تعيين القضاة في طور التدريب بالنيابة العامة لمدة سنة، والتقاعد الذي لم يحسم مجتمعيا بعد وتم فرض سن 65 على القضاة، وحرمان قضاة الدرجة الثالثة الحاليين من الاستفادة من النظام الاساسي المرتقب وجعلهم خاضعين لنسق الترقي المنصوص عليه في ظهير 1974، والإصرار على تنظيم بعض المقتضيات التي تجاوزها الزمن مثل تنظيم إقامة القضاة في الدوائر التي يعملون بها، ومحاولة فرض رقابة على حرية التعبير التي نص عليها الدستور بواسطة فرض الحصول على الإذن أو قيام القاضي عند كل تدخل في ندوة بأنه لا يمثل الهيئة القضائية وغير ذلك... وبعض المقتضيات التي تحاول محاصرة الحَراك القضائي لجمعية بعينها عبر تقنية تمطيط مبدأ واجب التحفظ المنصوص عليه في الدستور حتى يستوعب ما ليس منه. - الحفاظ على مؤسسة الانتداب التي طالما نادت مختلف الفعاليات الحقوقية سابقا بحذفها، وعوض الاستجابة لهذا المطلب الذي نتج عن أعماله عدة مشاكل تهم التخدّل والتأثير على القضاء، قام مشروع القانون التنظيمي بتوسيع مؤسسة الانتداب ليشمل بالإضافة إلى الرئيس المنتدب المسؤولين القضائيين في الجهات عوضا عن شخص وزير العدل فقط كما كان، ثم كذلك إمكانية النقل مع الترقية في خرق للمبدأ الدستوري القاضي بعدم قابلية القضاة للنقل والعزل. - عودة النقاشات حول تبعية النيابة العامة للسلطة التنفيذية في قفز تام على الدستور وذلك عن طريق ليِّ نصوصه واستنتاج أحكام غير صحيحة ولا تتماشى مع فكرة استقلال القضاء، بل إن بعض النقاشات في المؤسسة التشريعية للأسف امتدت حتى إلى المطالبة ببقاء المفتشية العامة للشؤون القضائية تابعة لوزارة العدل . هذه فقط بعض الأمثلة التي لا تجعلنا مطمئنين على مستقبل السلطة القضائية وفق ما أدراه المغاربة عندما صوتوا على دستور 2011 ووفق ما أراده جلالة الملك في عدة خطب ملكية سامية، ومنها الخطاب التاريخي أمام البرلمان الذي طالب نواب الأمة بجعل استقلالية القضاء هي المحور والفصيل عند مناقشة النصوص التنظيمية التي ستحال عليه. الآن وبعد احالة نص واحد فقط على البرلمان، هو مشروع القانون التنظيمي المتعلق بالمجلس الأعلى للسلطة القضائية، وفي انتظار إحالة النصوص الأخرى التي نؤكد مرة أخرى على أنها تأخرت أكثر من اللازم، فإننا نطالب المؤسسة التشريعية بأن تكون على موعد مع التاريخ وتعيد الأمور إلى نصابها في كل النقاط التي تتنافى مع فكرة استقلال القضاء، ولو بالشبهة، أي مجرد الاحتمال، وأن تقوم بالإنصات من جديد وفي وقت وجيز إلى المعنيين الحقيقيين بهذه النصوص. كما ندعو أيضا وزارة العدل فيما تبقى من النصوص التي لم تحل على البرلمان إلى استحضار روح الدستور والمقاربة التشاركية الحقيقية وليس الشكلية والابتعاد عن منطق ردود الافعال والتصريحات ورفض كل منتقد واعتباره ضد الاصلاح. كل هذه التحديات تتطلب منا مناقشة مستفيضة حولها وسبل التعامل معها وفق ما ينتظره السادات والسادة القضاة منا جميعا لضمان التنزيل السليم والديمقراطي لاستقلال السلطة القضائية. رئيس نادي قضاة المغرب