استعدادا لعودته للمغرب "باش إيشوف البليدة والوالدة"، رشيد 38 سنة، إطار بنكي بأحد أكبر بنوك باريس، بزي رسمي وربطة عنق أنيقة من نوع "بريوني"، يمتطي سيارته المرسيديس السوداء، يحكم إغلاق مقطورة الهدايا، يتفقد أوراقه وحاجياته داخل السيارة، ويتأكد من وجود الأكياس الإيكولوجية ليضع فيها قمامته، يطلب الله أن يوصله بالسلامة، يضع شريطا قرآنيا في قارئ أقراص سيارته، يبسمل ويتوكل على الله. بعد أن قطع المئات من الكيلومترات، يتوقف رشيد في إحدى باحات الاستراحة جنب الطريق، يدخل أحد المقاهي ويطلب قهوة سوداء ساخنة، ليعود إلى سيارته ويخرج كيس القمامة الممتلئ، يبحث عن صندوق للقمامة فلا يجده، فيقرر الاحتفاظ به بسيارته حتى تسنح له الفرصة للتخلص منه. شيء جميل ينم على وعي "السي" رشيد بضرورة المحافظة على البيئة. يتوقف رشيد مرة أخرى في إحدى باحات الاستراحة، بعد أن تراءى له أحد صناديق القمامة، يترجل من سيارته، يرمي كيسه، ليعود لسيارته وينطلق نحو الوطن، "حتى دابا مزيان ماقلنا والو". تمر الساعات بسرعة، ليجد رشيد نفسه يتجاوز بسيارته ميناء طنجة، يصبح شخصا أخر تماما، يتذمر لأتفه الأسباب، حتى من حرارة الطقس المرتفعة، يفك ربطة عنقه، يغير شريط القرآن بآخر لعبد العزيز الستاتي، يفتح نافذة سيارته، ويلقي بقارورات المياه المعدنية الفارغة، ينظر إلى مرآة سيارته منتشيا برؤية أزباله منتشرة على جنبات الطريق، يبتسم ابتسامة عريضة حين يتذكر أن أخر مرة أقدم على فعل أمر مشابه يعود لإجازته العام الماضي. لنترك صديقنا يكمل رحلته، ودعونا نتحدث عن أنفسنا قليلا، ما الذي يجعل أغلبنا كرشيد، أوروبيون داخل منازلنا، نضع كل شيء في مكانه، نهتم بنظافة كل ركن فيه، ونحرص أن يبقى دائما نظيفا؟ ما الذي يجعل هذا الاهتمام يتلاشى فور أن تطأ قدمانا عتبة الباب؟ هل هو عدم وعي، إنعدام مسؤولية، قلة تربية، أم الثلاثة معا؟ في إحدى المرات، عاينت كيف أن أحد المختلين عقليا - لربما أعقل من عشرة أمثالنا - يمر على صناديق القمامة ويقوم بجمع الأزبال المرمية جنب الصناديق، ليأتي بعده مباشرة أحد الأشخاص المحسوبين لفئة العقلاء، ليضع أكياسه الممتلئة جنب الصناديق وليس فيها، لينظر إليه "المختل عقليا" بنظرات كلها إستغراب، وكأنه يقول له "واش تسطيتي، جيتي حتال البركاصا ولحتي الزبل في الأرض ؟". رأيت أيضا بأحد شوارع أكادير، كيف أن طفلة صغيرة- لربما في الخامسة من عمرها- تلح باكية على أمها الأمريكية أن تمدها بمنديل ورقي لتنظف أرضية الشارع العام لأنها أسقطت شيئا من مثلجاتها عليه. قد لا يختلف إثنان على كون النظافة من إحدى السمات الملازمة للإنسان المتحضر ومقياس لرقيه ودرجة وعيه، ولا نجد مبالغة عندما يحكم أحدنا على شعب ما بأنه على درجة من التطور والرقي عندما يتجول في أحد شوارعه النظيفة. أظن أنه قد آن الأوان لتكريس مفهوم الثقافة الإيكولوجية ببلادنا، ودور الدولة لا يجب أن يقف عند حدود سن القوانين، بل يجب أن يرافق ذلك التوعية عبر وسائل الإعلام المختلفة، واستخدام الموارد البشرية بشكل أمثل، والاهتمام بجمال ونظافة كل ركن من أركان بلدنا العزيز ليبرز بصورته الحسنة، ولتصبح النظافة تدريجيا سلوكا إجتماعيا وثقافة مواطنة، والأهم من هذا كله كفانا من تكرير الجملة المشؤومة:" راه غير المغرب هاذا". للتواصل مع الكاتب [email protected] www.Facebook.com/KarimBelmezrar