كتب الدكتور محمد بولوز مقالا بعنوان (قتال داعش واجب شرعي ومن قتلوه كان شهيدا) نشر بموقع الجريدة الإلكترونية هسبريس وبموقع أستاذنا أحمد الريسوني يوم الإثنين 09 فبراير 2015، ذهب فيه إلى وجوب قتال تنظيم الدولة الإسلامية المعروف ب"داعش"، وقد استند في ذلك إلى مجموعة من الأدلة حسب رأيه نناقشها بعد هذه المقدمة. إن القتل هو السمة البارزة في العالم الإسلامي، والظاهرة المتفشية فيه، فالحروب اليوم –كما كانت بالأمس إبان الاستعمار- لا تدور رحاها إلا في العالم الإسلامي، وضحاياها بالألاف، إن لم نقل بالملايين، هم أولئك المسلمون رجالا ونساء، وشبابا وكهولا، وأطفالا وشيوخا، ناهيك عن المتقاتلين. بل حتى الحيوانات العجماوات، والنباتات، والجمادات لم تسلم من آثار القتل، فقتلت هي الأخرى. إذن فلا ترى إلا القتل، ولا تسمع إلا القتل وسفك الدماء، فكأنه كتب على هذه الأمة أن تعيش القتل وتصبح عليه وتمسي. ولا شك أن النظام الدولي الغربي وأزلامه وأذنابه من العالم الإسلامي، إلا قليلا منهم، يتفننون في صناعة القتل، وكيفية إخراجه، وإدارته والترويج له، تارة بالتدخل المباشر، وتارة بالوكالة، وأخرى بتأسيس ودعم ورعاية بعض المنظمات الإرهابية. فهذه صناعتهم، وهذه تجارتهم، وهذه براعتهم، وهذه فلسفتهم، أن يوقدوا نار الحرب وبخاصة بين المسلمين، حتى يقتلوا أنفسهم بأيديهم، ويخربوا ويدمروا أوطانهم بأنفسهم، فيعرقلوا بذلك فعلهم الحضاري والتنموي، ويحطموا كل ما من شأنه أن ينهض بهم، ويفك أسرهم من التخلف، ويحط عنهم أغلال الجمود. طبعا كل هذا يتم برعاية ومباركة صناع الموت، ومبتكرو الدمار. والذي يدمي القلب، ويجعله يموت كمدا، أن فلسفة الموت هذه ينخرط فيها بعض علماء الدين بفتاويهم، فتصبح الفتوى أضر على الأمة من السلاح الشاكي، إذ الشأن فيها أن تشكل عقلية العنف والتطرف والإرهاب، فعقلية العنف والتطرف تكون بداية مجرد خاطر، فتصير فكرة، ثم تصير عقيدة يدين بها صاحبها، ومتى سنحت له الفرصة لتنفيذها، قام بذلك ولم يتلكأ. ولا جرم أنه إذا كانت هناك طائفة تتبنى القتل، وتتخذه منهجا وسلوكا في حياتها ومواقفها، فإن هناك طائفة أخرى تأتي فتصدر فتاوى توجب قتل المخالف، وتجيز القضاء عليه. فيكون بذلك القتل والقتل المضاد، والفتاوى المضادة، والأفكار المضادة، والمفتون المختلفون، بحسب انتماءاتهم الدينية والسياسية والمذهبية، وهلم جرا. والله المستعان بالأمس القريب وقع الانقلاب العسكري الفرعوني في مصر، فانقض على الشرعية. وكانت وسيلته إلى يومنا هذا القتل، فحرق المتظاهرين وفتك بهم، وأسر منهم الألاف. وقامت طائفة من علماء السوء بإصدار فتاوى تحرض على قتل المتظاهرين والمناضلين من أجل الحرية والكرامة والشرعية، ووصفتهم بالخوارج وتمسكت في ذلك بأحاديث، صنفت من خلالها الحركة المناهضة للانقلاب حركة "خارجية إرهابية" وعلى رأسهم حركة الإخوان المسلمين. وأصبح اليوم مصطلح "الخوارج" يعني كل من خرج على الحاكم المستبد، أو النظام الاستبدادي، وكل من انتقده أو بين عواره، أو حتى مجرد مخالفته ولو في شيء يسير. فها هو النظام السوري المجرم –إن جاز أن نقول عنه نظاما- تحصد آلته الحربية بدعم شيعي مخز ألاف السوريين، فتنسف مدنهم وقراهم، ثم تتركهم مشردين في العالم كله، بلا رحمة ولا شفقة. وأين الرحمة والشفقة من قلوب هؤلاء المجرمين العتاة ! لكن من المستفيد من هذا الدمار والقتل اللذان يسودان العالم الإسلامي وبخاصة العالم العربي منه؟ أليس هم صناع القتل والدمار؟ واليوم يطلع علينا الأستاذ محمد بولوز برأي، ذهب فيه إلى وجوب قتال داعش، وحشر في ذلك من الأدلة، مما جعلنا نعقب عليه في ما يلي: أولا: ينبغي أن نؤكد على أن الحكم الشرعي له ارتباطان، ارتباط بالنص الديني الصرف، وارتباط بالواقع، بكل متغيراته الاجتماعية والاقتصادية والسياسية وغيرها، ومن لم يحط بهذا الواقع ويغوص فيه فهما وتحليلا، فأنى له أن يصدر حكما شرعيا، وإن أحاط علما بالنص الديني، وتعمق في فهمه، وكذلك العكس صحيح بالنسبة لمن يغوص في الواقع ولا يفهم النص الديني، فلا بد من كيفية التنزيل التي تجمع بين الاثنين فهما وتحليلا ومقاصدا، وهذا الذي يسمى بفقه التنزيل. من هنا نقول إنه قد يكون الحكم على الشيء جائزا في الحال، ممنوعا بالمآل، فمآلاته ترجع على مقدماته وحكمه الأول بالبطلان. ويعني هذا إذا استحضرنا الواقع السياسي والتحالف الذي تقوده أمريكا وحلفاؤها ضد داعش، لمصالح استراتيجية أمريكية صهيونية، فتكون الحرب على داعش ممنوعة، لأنها لا تصب في صالح الإسلام والمسلمين. بل تصب في صالح القطب الشيعي الإيراني، المتحالف مع أمريكا للقضاء على أهل السنة. وهذا ما تؤكده الوقائع مما تفعله المليشيات الشيعية من قتل أهل السنة وتهجيرهم من ديارهم وقراهم. وقد تطرقت قناة الجزيرة الإخبارية إلى المليشيات الشيعية، وما تملكه من عتاد ورجال وما يفعلونه بأهل السنة في العراق وسوريا. فلماذا سكتت أمريكا دهرا عن هؤلاء، واليوم تنطق حربا على داعش. فهذا الواجب الذي يتمسك به الدكتور محمد بولوز لا أساس له شرعي، ولا مستند له من الواقع، وإنما هو مبني على الوهم. ولا أحد من العقلاء فضلا عن العلماء يقر داعش على ما تفعل. ولو كانت أمريكا وحلفاؤها جادين وصادقين في القضاء على داعش، لضربوا على أيدي الممولين لداعش والداعمين لها، والمناصرين لها. وإلا فكيف بتنظيم يملك ترسانة من مختلف الأسلحة، وله معاقله، فيتغول في المنطقة، ومع ذلك يخفى على أمريكا وكهنتها من رجال الاستخبارات ! إن هذا لشيء عجاب، ولكن العجب يزول حينما نعلم أن أمريكا لا تهمها إلا مصالحها، ومن أجلها قد تفعل ما تفعل. فالمعطيات تؤكد أن هذه الحرب أمريكية بامتياز، من هنا كان وجوبها ساقط الاعتبار. وإذا سقط وجوب القتال، سقطت معه معنى الشهادة تباعا التي يريد أن يمنحها محمد بلوز للمحاربين في الصف الأمريكي. من هنا يكون قتال داعش تحقيقا للمصالح الأمريكية، "سيرا في ركاب الآخرين " خلافا لما زعمه الأستاذ محمد بولوز. ثانيا: ذهب محمد بولوز إلى الاستنجاد ب"حلف الفضول" الذي شارك فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم وزكاه بعد مجيء الإسلام. حتى قال فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم «لَقَدْ شَهِدْتُ فِي دَارِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جُدْعَانَ حِلْفًا مَا أُحِبُّ أَنَّ لِيَ بِهِ حُمُرَ النَّعَمِ، وَلَوْ أُدْعَى بِهِ فِي الْإِسْلَامِ لَأَجَبْتُ»[معرفة السنن والآثار]. وعند بلوز فإن "موضوع التحالف المعلن وهو استهداف كسر شوكة داعش وإضعافها وإيقاف زحفها عن التهام مناطق أخرى والتمكن من مواقع جديدة،.." من هنا كان التحالف الدولي بقيادة أمريكا شبيها بحلف الفضول، فقام الأستاذ بولوز بمباركته والدعوة إلى الانضمام إليه، بناء على هذه الأهداف المعلنة،، وبناء على وجه الشبه بينهما وهو مناصرة المظلوم بكسر شوكة الظالم. وتهافت هذا المنحى يظهر في ما يلي: ينبغي أن يعلم الجميع أن حلف الفضول الذي شارك فيه سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم كان حلفا عربيا خالصا، عن طواعية واختيار وبإرادة حرة من القبائل العربية، حيث اجتمعوا بدار عبد الله بن جدعان التيمي، فقرروا وتعاهدوا على "ألا يجدوا بمكة مظلوما من أهلها وغيرهم من سائر الناس إلا قاموا معه، وكانوا على من ظلمه حتى ترد عليه مظلمته،..." وقد علق عليه المباركفوري في (الرحيق المختوم) بقوله: "وهذا الحلف روحه تنافي الحمية الجاهلية التي كانت العصبية تثيرها" أما الحلف الأمريكي فهو حلف التبعية، الخالي من كل إرادة ذاتية حرة ونزيهة، بل إنه يقع تحت الترغيب والترهيب. فأمريكا هي التي تأمر، وهي التي تنهى، فإذا قامت قاموا، وإذا قعدت قعدوا، وإذا أقبلت أقبلوا، وإذا أدبرت أدبروا، وهكذا يدورون في فلكها أينما دارت وتوجهت. فلا شك إذن أن قياس الحلف الأمريكي على حلف الفضول قياس باطل لا ينتهض. وإلا لماذا لم تقد أمريكا حلفا لإنقاذ الصومال وبعض الدول الإفريقية؟ ولماذا لم تقف في وجه الانقلابات المضادة للشرعية ومنها مصر؟ ولماذا لم تقد حلفا ضد جرائم إسرئيل؟ ثم بوجه عام لماذا لم تقد حلفا عالميا لمناهضة الدكتاتوريات والاستبداد الذي ترزأ تحته شعوب ودول، فترسخ الديمقراطية وتحميها؟. الجواب باختصار أن ذلك ليس من مصالحا، ولا يجلب لها الخير. إذن فهذا الحلف حلف جاهلي لا مصلحة للمسلمين فيه. فنحن بحاجة إلى حلف عربي إسلامي خالص، بإرادة حرة ونزيهة للدفاع عن مصالح المسلمين، وهذا الحلف هو الكفيل والوحيد بالقضاء على الإرهاب والتطرف والنهوض بالأمة، إذا خلصت النيات وصدقت العزائم. فحلف الفضول حلف عدل وإنصاف وحلف أمريكا حلف جور واعتساف، وشتان بين الثرى والثريا. ثالثا: من القواعد الفقهية المشهورة والمعروفة "الحرج مرفوع غير مقصود" و"المشقة تجلب التيسير" وغيرهما من القواعد في هذا الباب. إن المشكلة ليست في إقرار القاعدة، وإنما يكمن في فهمها وتنزيلها على الواقع. والأستاذ بلوز يعني بذلك على حد قوله: "رفع الحرج الشرعي عن الجنود والضباط المسلمين المشاركين في هذه المعركة، وليس رفع الحرج فقط، وإنما ابتغاء الأجر والثواب والدرجات العليا في الجهاد والشهادة" ونحن نتساءل ما الذي حمل هؤلاء الضباط والجنود على الإحساس بالحرج؟ فلا جرم أنهم يحسون بالحرج إزاء هذه الحرب لأنهم غير مقتنعين بها البتة، بإقحامهم في الحلف الأمريكي، ولا يرغبون فيها، وإنما فرضت عليهم فرضا لا مناص منه. فالثواب الخالص الذي لا شية فيه ما كان لله تعالى، والحرج المرفوع في الدين قطعا ما كان لله تعالى، لا لأمريكا ولا لغيرها من دول التحالف، والشهادة لا تنال بالتمني، عَنْ أَبِي مُوسَى، قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: الرَّجُلُ يُقَاتِلُ حَمِيَّةً، وَيُقَاتِلُ شَجَاعَةً، وَيُقَاتِلُ رِيَاءً، فَأَيُّ ذَلِكَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ؟ قَالَ: «مَنْ قَاتَلَ لِتَكُونَ كَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ العُلْيَا، فَهُوَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ» [رواه البخاري] وعَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ قَالَ: سَأَلَ رَجُلٌ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ مُنَكِّسٌ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، مَا الْقِتَالُ فِي سَبِيلِ اللهِ تَعَالَى؟ فَإِنَّ أَحَدَنَا يُقَاتِلُ حَمِيَّةً، وَيُقَاتِلُ غَضَبًا فَلَهُ أَجْرٌ؟ قَالَ: فَرَفَعَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَأْسَهُ إِلَيْهِ وَلَوْلَا أَنَّهُ كَانَ قَائِمًا مَا رَفَعَ رَأْسَهُ إِلَيْهِ ثُمَّ قَالَ: " مَنْ قَاتَلَ لِتَكُونَ كَلِمَةُ اللهِ هِيَ الْعُلْيَا فَهُوَ فِي سَبِيلِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ " [الإمام أحمد في مسنده] وبهذا يتبين أن المجاهد أو المقاتل إما أن يقاتل في سبيل الله لإعلاء كلمة الله، ونصرة دين الله، وإما أن يقاتل في سبيل الشيطان لتحقيق سبله وخطواته. قال الله تعالى: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ." [النور21]