رياح عاتية هبت على ضفاف غابات الربيع... بشار السفاك ما يفتأ ينتصب فوق جماجم شعبه، ويعض بكل عظام جسده المُغذَى إيرانيا وروسيا على عرش الشام المهترئ... البغدادي يناوشه ويناوش أزلام الشيعة المتوسمين في العراق، ويعلنها حربا متوحشة انتحارية على العالم بأسره... اليمن يبلى إيمانُه وتنزوي حكمتُه... مصر أم الدنيا تتزوج عسكريا مخضب اليدين بالأحمر القاني، وتدخل في عصر عسل مُسكر، تحت صدى تقارير وأهازيج تزف العروس إلى خدر الخنوع... ليبيا بلية، يختلط فيها الحابل بالنابل، و يتيه فيها ثوار التحرير وسط ركام من حديد المعارك، و مؤامرات الأقزام... ثم وصولا - آيبين - إلى مهد الثورات، ومنتهى الانتكاسات، تونس الزيتون، حيث ما فتئت النهضة ترشد، وتتبع راشدا، حتى أوقفت مترصديها على شفا جرف هار، وانحازت بالوطن - ومعها عقلاء آخرون- إلى بر الأمان، عسى الله أن يفتح بالسلم والوفاق أبواب المجد والرفاه، ولو بعد حين، أليست الديمقراطية سجالا؟ يحار اللبيب وهو يتابع مسارات الربيع العربي، وهي تنقلب سريعا بسحرها على سَحَرتها من الشباب الحالمين، أرادوها قصة عشق للحرية سعيدة، فلم تأب إلا أن تصير اليوم تراجيديا لسيزيف وصخرته العنيدة، كيف لتلك الأحلام الوردية أن تنقلب بكل تطرف إلى كابوس من الرجعية؟ أنى حلت هتافات التحرر، وترانيم الانعتاق؟ يمنيا، سوريا، وعراقيا، لا صوت يعلو فوق أصوات المدافع والرصاص، ولا وقع على الأرض سوى هدير التجبر والطائفية وكيدِ الأجنبي (الإيراني، الروسي والأمريكي...)، يعجز المحلل المتابع، والاستراتيجي المتخصص، بل وحتى جهابذة مؤسسات التخطيط العملاقة في الدول المهيمنة عن الإلمام بكل خيوط ما يجري... ليبيّاً، هرج ومرج، حدث ولا حرج، تجبرت العشائر، وتآمر الإخوة الأكاسر، فانزاح العالم عن ليبيا ولم يعبأ، وقضى حاجته فيها بتَركِها!! مصريا، سبق السيف الجسارة، ودخل السيسي في "الدور" دون لف ولا دوران، أخذ مصر من ناصيتها، وأدخلها بيت الطاعة!! وأما تونسيا، فلم يكن انتخاب السبسي رئيسا في الانتخابات الأخيرة مفاجئا لأحد، ذلك أن المشهد بات منسجما مع نفسه ضمن تسونامي ارتدادي لظاهرة الدومينو الشهيرة، فبنفس الزخم الثوري الغاشم الذي انطلق من سيدي بوزيد، والذي أطلق شرارتَه الأولى البوعزيزي وهو يشعل النار في جسده، و منه في عروش دكتاتوريات تزلزلت تباعا من دولة إلى أخرى، بنفس تلك القوة الثورية المبادِرة، والمتوالية/المتزامنة، ها هي ذي زلازل الخريف العربي بدورها تَتْرَى في مسلسل قاس من الهزات النكوصية بنفس النسقية، وحسب نفس ظاهرة الدومينو!! في تونس، حيث سقطت آخر أوراق الخريف، وحيث تمت المحافظة على حيز من السلم يسمح بشيء من التأمل السياسي، لربما لفظت وحدات الدومينو آخر أنفاسها، فبالرغم من كون المشهد بدا أقل ثورية منه عند بدايات الربيع... فتبدى للمتطلعين عسر مخاض فجر الحرية... بعد أن تكللت محاولات حركة النهضة للإصلاح ضمن "الترويكا" بالتعثر، وبعد أن استدعى الحرس القديم عصارات تجاربه في التحكم، فلم تُسقط وحداتُ الدومينو غصنَ الزيتون من يد التونسيين، وإنما نفخت فيه عواصفُ تساقطِها فبات عكازا يتكئ عليه السبسي، ليبني لها أمجاد الأجداد، ويكون خير سلف لخير سلف... كذا... عَوْدا على بدء. انتكاسات الربيع العربي بشتى تجلياتها، تطرح في مجملها أسئلة محورية حاسمة، حول مدى جاهزية شعوب الدول المعنية ومثيلاتها للخروج بمصائرها من نير التخلف والاستبداد، ومدى طاقتها لتحمل تكلفة التغيير المنشود، وكذا أبعاد قدرتها على الانبعاث من مجازر التقتيل والقمع الوحشيين، ومن مكائد أقطاب الدولة العميقة. لعل طلائع الثوار التوانسة التي صدمت العالم بإقدامها وعبقريتها، لم تكن بالأشجار التي تخفي غابات جحافل الأحرار... لعلها حمّلت الجماهير ما لا طاقة لها به... لعل طلائع الثوار كانت بدورها في البداية قد نفخت في الرماد فقام... وتحت كيد كهنة الماضي المَهَرة، من شركاء بنعلي وأبنائه البررة، وعواصف انهيارات الدومينو الارتدادية... ما لبث الرماد اليوم أن خار غبارا ونام... [email protected]