مقدمة نود من خلال هذه المقالة، أن نقف على كنه و حقيقة الإشكالية، عنيت إشكالية الماضي الأهلي و الحاضر الأجنبي أو ما سمي بمسميات مختلفة، إشكالية "الأصالة و المعاصرة" أو "القديم و الحديث" أو "الماضي و الحاضر" ، لبسط النظر في بعض حيثياتها، التي تمحور حولها إنتاجات الفكر العربي الحديث، و ذلك من خلال نموذج أحد ممثلي هذا الفكر، ألا و هو الفيلسوف المغربي الكبير المرحوم محمد عابد الجابري، الذي أثار بسعة فكره و إطلاعه و بقوة و متانة نسقه الفلسفي جملة من القضايا و الإشكالات سنتعرض لبعض منها ضمن هذا البحث. إن المتأمل في الفكر العربي الحديث، يدرك أنه بعد أزيد من نصف قرن من الزمان، أي من الأفغاني إلى شكيب أرسلان، لم يعد السؤال يتعلق بمجال واحد من المجالات، بل شمل المجال الحضاري العام للأمة، أي بكل إستعماري و بكل إسلامي، أو بسؤال لماذا تأخر المسلمون و تقدم غيرهم؟ فالتأخر شمل جميع مناشط الحياة النظرية و العملية، و التقدم هناك شمل كل شيء أيضا. عقب هذه اللحظة، لحظة الصدمة المباشرة، تأتي مرحلة تالية يصبح التساؤل فيها متعلقا بالتاريخ، و ليس بالحضارة، سعيا نحو البحث عن مكمن الأزمة من خلال الدراسة التاريخية أو التاريخانية، و من هنا يكون السؤال عن التأخر التاريخي سؤالا مشروعا، يلج بعد ذلك حقل التفلسف و الفلسفة و لتبرز مقاربات و سمت بالفكرية و الفلسفية، حاولت البحث عن مكمن المأزق و رصد أصل الداء من خلال تياراي فكرية طغت على حقل النظر و الفكر الفلسفي العربي1، التي يمكن إجمالها في ثلاث تيارات رئيسة: -الاتجاه الأول: ينتمي الى مدرسة أو يتبني فلسفة معاصرة حاول أن يبحث عن سند لها في الماضي، أو عما يجعل من عملية تبنيها مبررة و مقبولة. -الاتجاه الثاني: قد عمد الى تبني النزعات المادية الجدلية دون المثالية في التراث. -الاتجاه الثالث: الذي ظل محلقا في التجريد باحثا في الماضي عن المقولات و المفاهيم العامة التي تلتقي و المفاهيم و المقولات المعاصرة. هكذا سعوا جميعا، في البحث عن مخرج لإشكالية الماضي الأهلي و الحاضر الأجنبي، الذات و الآخر، كل حسب قناعاته و منطلقاته. يقف المفكر الكبير و الفيلسوف المغربي محمد عابد الجابري في مقدمة من تناولوا الإشكالية هذه، بالدرس الفلسفي و النظرالفكري الجاد، طارحا عدة مشكلات و تساؤلات معاصرة وواقعية، و كذلك تاريخية و تراثية، تتعلق بالعالم العربي الحديث و المعاصر من جهة، ومن التراث و فلسفته النظرية و العملية من جهة أخرى، باحثا عن حلول للخروج من المأزق الحضاري الذي يعاني منه العالم العربي الإسلامي، ساعيا نحو تدشين عصر تدوين جديد2، يكون بمثابة المنطق النهضوي الجديد، بحيث تصبح البداية في نقد و تفكيك النماذج كلها، بل تصبح البداية الفلسفية من منطلق نقد السلاح ذاته، سلاح العقل العربي3. إستيحاء مقولة الصراع من الماركسية كآلية للوصف و التحليل و التفسير إن تناول الأستاذ الجابري للإشكالية يفتح آفاقا رحبة، كالبحث عن موقفه من الماركسية، و خاصة من مبدإ الصراع الطبقي، و التمييز عند تحديد المستوى الذي تنتمي إليه الإشكالية في الفكر العربي بين النظري والإيديولوجي والسياسي، و عن مدى إمكانية قراءة التاريخ قراءة مادية جدلية، فمن أين يستوحي الأستاذ الجابري هذه القراءة، وهل التاريخ فعلا أحادي الفعل و العمل؟ يذهب الأستاذ الجابري في البداية إلى أن قضية الإشكالية – الأصالة و المعاصرة – تطرح نفسها على الفكر العربي الحديث و المعاصر، على أنها القضية الأولى و الأساس، القضية الأكثر إلتصاقا به و بمقوماته و بمضمونه و بأدواته و بأساليب عمله4، يقول الأستاذ الجابري: " إن إشكالية الأصالة و المعاصرة في فكرنا الحديث لم تطرح عندما طرحت لأول مرة في القرن الماضي، من منظور يرفض الحضارة الغربية الحديثة، و مظاهر الرقي و التقدم فيها، بل على العكس لقد طرحت المسألة في إطار السؤال النهضوي المحوري في الفكر العربي الحديث، السؤال الذي إنتشر و ذاع بالصيغة التالية: لماذا و تأخرنا نحن العرب، نحن الشرق و تقدم غيرنا أوربا، المسيحية، الغرب، و بالتالي كيف ننهض و كيف اللحاق بالركب، ركب الحضارة و المدنية الحديثة".5 فقبيل أن يعمد الأستاذ الجابري، إلى محاولة طرح لإشكالية الإزدواجية و الثناءيات، عمد الى التأريخ للأشكالية قديما و حديثا و معاصرا، ليجعل من السؤال الإشكالي سؤالا إيديولوجيا، و ليس سؤالا سياسيا و لا نظريا، إنه سؤال إيديولوجي لأنه ينطلق فيه أصحابه من الواقع القائم، واقعهم هم يحللونه و يضعون له قانونا يعبر عن تاريخه، و يقفز عاى الحاضر، و يهدف الى المستقبل قصد تغييره تغييرا إيديولوجيا. يقول الجابري: " السؤال التهضوي سؤال إيديولوجي مشرع، إنه ليس سؤالا علميا يحلل الواقع من أجل الوصول الى قانون يعبر عن ثوابته، بل هو سؤال ينشد التغيير و يشرع له في إطار حلم إيديولوجي6. يرى أحد الباحثين، أنه كان بإمكان الجابري أن يبحث السؤال النهضوي ليس يإعتباره حلما إيديولوجيا، بل بأعتباره يعكس منذ البداية، المركزية الغربية، التي تقيس التأخر و التقدم على أساس مادي ( العلم و التقنية و منتاجاتها) هذاما يجعلنا ندرك أن المركزية الغربية كانت جاثمة، و لا تزال على كل المستويات النظرية و الواقعية في العالم العربي الإسلامي، لنخلص في التالي الى أن القراءات المختلفة للإشكالية ظلت أسيرة الفضاء الغربي بمحدداته المختلفة، من حيث أرادت محاربته و الوقوف ضده، و على العمل على أقلمته ليتناسب و البيئة و الخصوصية7. الآخر كمقولة أولية لإدراك الذات يبدو لي أن العامل الخارجي يكاد يكون المحدد الأساس على جميع المستويات لأنماط الواقع، على المستوى النظري و العملي، و على مستوى نمط التفكير و الثقافة السائدين في المجتمعين العربي و الإسلامي، هذا فضلا عن تقويضة لبنيات المجتمع التقليدي، و خلق قيم و مؤسسات بديلة، تسهر على تنميط و ترشيد الإنسان العربي، و فرض سلط قاهرية تتجلى بشكل عنيف في قدرته – الغرب – على إدراج الدورات الصغرى للمجتمعات المستضعفة في دورته الكبرى، حيث يخيل للإنسان العربي أنه حر في نسق تفكيره، و حراكه الإجتماعي، بيدأنه في الحقيقة حر في فلك الغرب و كليته، من هنا فإن التنظير العربي الإسلامي على حد سواء لمفاهيم من قبيل الدولة الأسلامية و مجتمع الهوية و المجتمع المدني و دولة الإنسان و ثقافة حقوق الإنسان تستبطن هذه المأساة8، و تخفي وراءها المقاربة الاسلامية المعرفية المنهجية لمعضلة النهوض و التقدم. لذا فإن أولوية دراسة هذا البعد، عنيت البعد الخارجي، و العمل على رده الى حيزه الوجودي الخاص به، إن أمكن ذلك، كفيل بأن يجعلنا نعيد صياغة السؤال من جديد، و من ثمة نخرج من فضاء الجبرية المفروض على العقل العربي الإسلامي، يشير الاستاذ الجابري لهذه القضية، قضية الجبرية التي يعاني منها الفكر العربي الحديث من جراء ما فرضه عليه الغرب من آراء و أفكار و تقنيات، يقول:" نحن عندما نطرح المسألة التي نحن بصددها – مسألة الأصالة و المعاصرة – على أنها مشكلة إزدواجية مفروضة علينا بسبب تدخل عامل خارجي، و ليست مسألة إختيار حر، فإننا لا نرمي من وراء ذلك قط الى تقديمها على أنها قضية، قضاء و قدر لا مناص من الردوخ له، بل إننا نريد من هذا الطرح الواقعي التاريخي للظاهرة موضوع بحثنا، تلمس الطريق نحو معالجة موضوعية و الوصول بالتالي الى نتائج إيجابية" 9. و يضيف قائلا: " ومن أجل تحليل أعمق لمضمون و أبعاد الإشكالية التي نحن بصددها نقترح الإنطلاق من وضع الطرح السائد موضع السؤال فنقول: هل يتعلق الأمر بالإختيار؟ ل مازلنا نحن العرب في وضعية تسمح لنا بالاختيار بين ما نسميه النموذج الغربي و ما نحلم من نموذج أصيل نستعيره و نستوحيه من تراثنا الفكري الحضاري؟ أعتقد أنه يجب الإعتراف بأننا لا نملك اليوم، و أكثر من ذلك، أعتقد أننا لم نكن نملك منذ إصطدامنا بالنموذج الحضاري الغربي المعاصر، حرية الإختيار بين أن نأخذ به و بين أن نتركه، لقد فرض هذا النموذج نفسه علينا منذ بداية التوسع الإستعماري الأوربي، و بكيفية خاصة و حاسمة منذ القرن الماضي، فرض نفسه علينا كنموذج عالمي، و كنموذج حضاري جديد للعالم كله، يقوم على جملة من المقومات لم تكون موجودة في النماذج الحضارية السابقة له"10. يقرر المرحوم الجابري من خلال النصوص السالفة الذكر، أن الإزدواجية التي تتبع الحياة النظرية و العملية للمجتمعات الإسلامية، تشكل سلطة قوية و قاهرة، تكبح جماح العقل، و تحد من فاعليته،الى درجة أنه لم يعد قادرا على الإختيار بين ما هو أصيل و ذاتي، و بين ماهو وافد و أجنبي. لاشك أن في كلام الأستاذ الجابري هذا كثيرا من الصواب، لكن الأدهى و الأمر من كل هذا أن عملية الاختراق لم تعد فعلا قسريا يمارس علينا من الخارج، بل أصبح إستجابة لحاجة داخلية، و مطلبا مرغوبا فيه، و بدونه لم يعد لوجودنا الفكري و الثقافي معنى وهذا ما يبرز في طبيعة الآليات التي تنتج اللغة كمنظومة إشارات و رموز، لا تستطيع الذات أن تحدد ماهيتها، و لا أن تعبر عن نفسها، إلا من خلال قاموس الآخر، و من ثمة تعكس العملية حقيقة ما يعيشه حقلنا الثقافي من إضطرا ب المفاهيم و تشوش الرؤية و تشوه الفكر و رداءته، الم تعتبر بعض الإتجاهات – و هي تتحدث عن إستعارة المفاهيم – أننا لا يمكن أن نتنفس بدونها، هذا من جهة و من جهة أخرى، ألم يحن الوقت ليدخل الفكر العربي في مكاشفة صريحة مع الذات، و ذلك ببسط خارطة الاختراق الذي عرفه، و ذلك بهدف التحرر من عقدة الإنفصام، و الحد من إنتفاخ الذات و التخفيف من وطأة السياسي، إذ العيب ليس في الإعتراف بحقيقة الإختراق، إذ تلك هي بداية الإمساك بالخيط الرابط بين إشكالات عالمنا و عصرنا، إنما العيب كل العيب في إنكار الإختراق و التبعية و تجاهلهما و الاعتقاد بأن الذات بكر11، فإلى أي حد يستطيع المشروع الحضاري العربي فتح باب الإختيار من جديد، و ذلك على أساس إعادة صياغة مشروعه في ضوء التحليل النقدي لممارستنا النظرية و العملية في العقود السابقة، و لممارسة الآخر، قصد محاولة صياغة مشروع رؤية إنسانية كونية. في ظل هذه الوضعية المأزومة، التي تعيشها الأمة العربية الإسلامية، و في ظل هذه الجبرية يولد صراع المرجعيات، الصراع بين القديم و الجديد، بين الأصيل و الحديث، فكيف يقرأ الأستاذ الجابري وضعية هذا الصراع؟ و إلى أي حد يعتبر الصراع قانونا عاما يحكم مبدأ التاريخ الإنساني، و إلى أي حد يمكن أن نقرأ به النهضةالإسلامية الأولى؟ و في الأخير من أن يستوحي الجابري قراءته هاته؟ يذهب الأستاذ الجابري الى القول:" ليس هناك قانون واحد يعبر عن ميكانيزمات النهضة في كل العصور و الأوطان، و لكن مع ذلك يمكن للمرء أن يلاحظ بسهولة أن جميع النهضات التي نعرف التفاصيل عنها قد عبرت إيديولوجيا، عن بداية إنطلاقها بالدعوة الى الإنتظام في تراث، و بالضبط بالعودة الى الأصل، و لكن ليس بوصفها كانت أساس نهضة مضت يجب بعثها كما كانت، بل من أجل الإرتكاز عليها بنقد الحاضر و نقد الماضي(...) و إن أردنا شرح هذا الميكانيزم النهضوي الإيديولوجي، من خلال الواقع الإجتماعي التاريخي الذي يؤسسه ،أمكن القول باختصار : إنه عندما يبلغ الصراع بين القديم و الجديد في مجتمع ما، درجة من التطور تعمد القوى الممثلة للجديد المناضلة من أجله الى البحث في الماضي البعيد عن أصول، و تعيد قراءتها بالشكل الذي يجعل مضامينها تبدو و كأنها تؤسس الجديد الذي تناضل من أجله"12. صحيح القول أن جميع النهضات التي نعرف التفاصيل عنها، قد عبرت إيديولوجيا في بداية إنطلاقها بالدعوة الى " الإنتظام في التراث" و بالضبط العودة الى الأصول، و لكن هل الآليات و الميكانيزمات التي تفسر تلك العودة إليها، يقوم دائما على مفهوم الصراع بين قوى القديم و الجديد؟ و بأي معنى يصبح الصراع قانونا يحكم جميع النهضات و الثورات؟ و ما المنطلق العلمي الذي يجعل الجابري يدرس نهضة الإسلام ال,لى و قيام دعواته بنفس القانون، عنيت قانون الصراع الطبقي.13 إن الإجابة عن هذه التساؤلات تستدعي منا الوقوف عند علائقية الجابري بالمنظومة الماركسية و قد سبق أن أبرزنا أن الأستاذ يستوحي بعض آليات تفكيره النظري من المنظومة الماركسية و يتخذ منها " منهجا" للتطبيق. خصوصية القراءة الماركسية المغاربية ظل الأستاذ الجابري وفيا للتفسير المادي للتاريخ و للتراث العربي الإسلامي في كتاباته الأولى، من هذا المنطلق ندرك تأكيده على جدوائية قانون الصراع الطبقي، و على مدى فاعليته لتفسير التراث العربي الإسلامي لكن مع فارق أساسي ينبغي التركيز عليه، يكمن في أن الدراسات التاريخية و النفسية و الإجتماعية في أوربا لم تكن قد تبلورت بشكل يجعلها قادرة على التغلغل في الفكر العربي، إذ لم يتحقق ذلك إلا مع بداية النصف الثاني من عقد السبعينات، أي بعد أن تم الإطلاع على أعمال بعض المفكرين الغربيين المعاصرين من قبيل" رودنسون" و "روجي غارودي"، و هذا ما جعل الماركسية في المغرب العربي تتميز بخصوصيتها، حيال نظيرتها في المشرق العربي، يقول أحد الباحثين:" أما في المغرب فالأمر كان على خلاف ذلك، و يتجلى الفرق في أن الماركسية في المغرب العربي تحمل دلالات النقد و المقف الفاحص، ماركسية فيها مراجعة و طرح لعديد من التساؤلات(...) فإن ذلك الموقف ليس وليد ظروف خاصة بالمغرب العربي بقدر ماهو تأثر على المستوى الفكري المحض، بما يجري في البلدان الأخرى و خاصة فرنسا، من تطور داخل الماركسية، و من قراءة متجددة لها. إن الماركسية الموضوعية التي تصلح للعالم العربي عند المؤرخ المغربي المعروف عبد الله العروي مثلا كذلك نجدها عند فيلسوفنا الكبير الجابري و غيرهم ممن تتلمذوا على يد كبار الأعلام أمثال مكسيم رودنسون الذين كان لهم دور كبير في إتخاذ و بلورة هذا الموقف من الماركسية في المغرب العربي"14. كان من نتائج التحرر من القوالب الجاهزة في المنظومة الماركسية، العمل على إعادة النظر في جملة من المفاهيم التي تنتمي الى المجال التداولي الماركسي، و محاولة تطويعها و تحريرها، و من المفاهيم التي أعيد بناؤها، مفهوم "الصراع الطبقي" و " دكتاتورية البلوريتاريا" و " الإيديولوجيا" و "الممارسة"، و غيرها من المفاهيم التي لم يعد لها ذات التجارب التي عرفتها بعض الدول الأوربية التي تحولت الى الإشتراكية، و مادام المفهوم التي تحددها البنية التحتية أصبح يتمتع بإستقلالية ذاتية في بعض المراحل و الحالات التي يكون فيها محددا أساسيا، بل و مؤثرا بالدرجة الأولى في البنية التحتية. إن مفهوم الصراع الطبقي مفهوم أساسي في المنظومة الماركسية، بل إنه حسب ماركس قانون يفسر لنا تاريخ المجتمع الإنساني، و تطور المجتمعات إذ أن دخول الناس في علاقات الإنتاج تتضمن علاقات لهم، بوسائل الإنتاج حيث أن المجتمعات الإنسانية من حيث علاقة الناس بها لم تشهد الوسائل، بينما يحرم الباقون منها، و حيث يعمد من لا يملك الى خدمة من يملك، فإن هذه المجتمعات عرفت في الغالب قد عرفت صراعا مجتمعيا بين هاتين الطبقتين15، و الطبقة من المفاهيم الأساس في الماركسية، غير أن لم يتم تحديده بشكل واضح، و الحديث عن الصراع الطبقي يستدعي وجود طبقتين لا ثالثة لهما، و لم يعرف التاريخ الذي تستند اليه المنظومة الماركسية وجود طبقتين لا ثالثة لهما، و عبثا يحاول الدارسون للتراث العربي الأسلامي أن يبثوا ذلك في تاريخه. سبق أن أسلفت أن الأستاذ الجابري، يعتبر مفهوم الصراع الطبقي أحد العوامل الرئيسة المحركة للتاريخ، بل أكثر من ذلك يعتبره "العامل الأساس ضمن وضعيات إجتماعية معينة"16، لكن الأستاذ الجابري و هو يقوم بمعالجة الإشكالية أعني، القديم و الحديث ضمن التاريخ العام الذي عرفته في إطار الفكر العربي، منذ النهضة الثانية التي إنتهى إلى القول بأن هذه الإشكالية لا يمكن تحليلها أو تفسيرها و الوقوف على ماهيتها من خلال مقولة التحليل الطبقي، أو من خلال إثبات أي مفكر أو سياسي أو مثقف لإنتاجه النظري من خلال التعبير عن مصالح طبقية، أو وضع طبقي ينتمي اليه هذا الأخير بل إن الأستاذ الجابري غير مقتنع بإمكانية و لا بجدوائية تفسير الإشكالية، في فكرنا العربي الحديث و المعاصر بهذا القانون العام، ومن هنا سيعمل على إثبات أن هذه الإشكالية لاتعكس وضعا طبقيا، و لا تعبر بالضرورة عن مصالح طبقية، إذن فكيف السبيل الى فهم هذا التناقض؟ إذ الأستاذ الجابري غير مقتنع بالتحليل الطبقي فيما يخص إشكالية الفكر العربي، بإعتبارها إشكالية عامة، أي تدخل في إطار العام أما إذا أردنا حسب منطق الأستاذالجابري أن نطبق التحليل الطبقي فإن ذلك ينتمي الى وضع خاص هو بذلك و قد إطلع على الفكر الفرنسي من جهة، و كذا على نشوء و تطور الأحزاب الشيوعية في العالم العربي من جهة ثانية، يدرك تمام الإدراك، أن الماركسية المعاصرة يمكن تأويلها بشكل يبقي عليها حية و يجعلها قابلة للتطور، وذلك بهدف مسايرة و مواكبة العصر و تحولاته، و هذا ما جعل الأستاذ الجابري يرفض كل قراءة ميكانيكية جامدة أو جاهزة، أو ما يصطلح عليه الأخذ بالماركسية " كقوالب جاهزة"، و كذالك يعني فيما يعنيه عدم الفصل بين العام و الخاص.17 ومن المنطلق ذاته يرى الأستاذ الجابري أن قانون الصراع بين قوى القديم و الجديد على مستوى واسع من التجريد، يكشف عن طواعيته خاصة عند حديثه عن النهضة الإسلامية الأولى، و مع إدراكه بأننا الى اليوم، لا نملك معلومات دقيقة، و مفصلة حول الصراع الذي عرفه مجتمع الجزيرة، ما عدا بعض المصادر المتوفرة و القرآن على رأسها، فإنه يغامر بتطبيق نظريته حول الصراع الطبقي، ممثلا في الملإ من قريش ساداتها وأغنيائها من جهة و أفراد إحتفظ التاريخ بأسماء عدد مهم أطلق عليهم إسم " الحنفاء"، يقول الأستاذ الجابري:" إن تاريخ الاسلام الى اليوم تاريخ صراع بين الطبقات، تارة يكتسي هذا الصراع صبغة إقتصادية إجتماعية و تارة يظهر بمظهر الصراع الإيديولوجي، و النزاع بين الفرق".18 فإذا كان هذا القانون، قانون تفسير قيام النهضات على أساس من الصراع الطبقي صحيحا، و على مستوى واسع من التعميم و التجريد، الأمر الذي يدفعنا الى طرح السؤال التالي: لماذا عمد الجابري الى تفسير قيام النهضة العربية الأولى على الأساسي الطبقي الاجتماعي و لم يفعل ذلك فيما يتعلق بقيام النهضة العربية الثانية؟ هل يرجع ذلك كما يقول الى أن النهضة العربية الأولى كما النهضة العربية الثانية، لم تعاني مما نعبر عنه اليوم بإشكالية القديم و الحديث؟ -باحث مغربي مقيم بمدينة أمستردام بهولندا الهوامش: * جابرية نسبة لمحمد عابد الجابري 1 – عبد الحميد يويو، الخطاب الفلسفي في الفكر العربي المعاصر، كلية ألآداب و العلوم الإنسانية، 1995 وجدة 2 – محمد عابد الجابري، تكوين العقل العربي،المركز الثقافي العربي، الدارالبيضاء، الطبعة الأولى، 1995 3 - عبد الحميد يويو، الخطاب الفلسفي، مرجع سابق، صفحة 110 4 – محمد عابد الجابري، الخطاب العربي المعاصر، دار الطليعة، بيروت، صفحة 34، 1982 5 – محمد عابد الجابري، إشكالية الأصالة و المعاصرة في الوطن العربي، مركز دراسات العالم العربي، ط الأولى، بيروت،1985 6 – عبد الحميد يويو، مرجع سابق، ص 123 7 – مرجع نفسه، 8 – ميمون النكاز، الخطاب الإسلامي المأسور، قاهرية السلط المعرفية، مجلة المنعطف، وجدة، عدد 11، 1995، ص35 9 – الجابري، إشكالية الأصالة و المعاصرة، مرجع سابق، صفحة 35 10 – الجابري، نفسه 11 – مصطفى المرابط، ذوات الغرب النقيضة، مجلة المنعطف، عدد 10، صفحة 4-5 ، 1995 12 – الجابري، إشكالية الأصالة و المعاصرة، مرجع سابق 13 – عبد الحميد يويو، مرجع سابق 14 – مرجع نفسه، صفحة 118 15 – محمد وقيدي، العلوم الإنسانية من ماركس الى يومنا هذا، مجلة دراسات عربية، عدد 7 أيار-مايو 1981 16 – محمد عابد الجابري، إشكالية الأصالة و المعاصرة، مرجع سابق 17 – عبد الحميد يويو، مرجع سابق، صفحة 114 18 – محمد عابد الجابري، التراث و الحداثة،المركز الثقافي العربي، الدارالبيضاء، الطبعة الأولى، 1991