عندما تنتفض الشعوب وتبدأ ثوراتها العفوية تكون قد نمت لديها أحاسيس عن مطالب وتطلعات لم تكن تضعها ضمن أولوياتها قبل ذلك. فقبل هذه الفترة لم يكن المواطن العربي مهتما كثيرا بإسماع صوته والتعبير عن رأيه والخروج للتظاهر والاحتجاج، ولم يكن غياب الديمقراطية والحريات كما هي متداولة عالمياً يهمه ويمثل أهم هواجسه. كان يشعر أن الدولة تمثله بشكل من الأشكال وأنه سيكون مطمئنا طالما قامت بواجباتها الأساسية التي تجعله كذلك. كان الإنسان العربي يمر بمراحل من القلق، لكنه كان يغض النظر عنه من منطلق أن الأوضاع ستتحسن وأن ضريبة الاستقرار تتطلّب منه التنازل عن جزء من حريته. وعندما اتضح للمواطن العربي أن الدولة العربية أخلّت بمسؤولياتها تجاهه في مجالات عديدة، بدأ يخاف المستقبل قبل أن يلج عالم التساؤل ورفض كل ما هو قائم أمامه. لقد سكنت المخاوف بقوة عقل المواطن العربي وجيل الشباب عبر البطالة المتفشية وضعف المؤسسات الرسمية كما الخاصة والخدمات العامة من تعليم وصحة وبنيات التحتية. وقد أدى تضييق النظام الرسمي العربي للمجال العام (هامش الحرية والنقاش والحقوق) إلى لجوء الناس إلى مجالات تعبير سرية، حولت الحركات المتطرفة إلى الحاضنة التي تؤوي من حُرم من الممارسة السياسية. انفجار الواقع العربي، لم يكن إلا انفجاراً للخوف الكامن في نفوس العامة والخاصة تجاه الدولة ودورها وواقعها. وفي الفترات الأولى من الربيع العربي حصل التغيير وسقطت شرائح اجتماعية وتغيرت أنظمة وحكام لم يتغيّروا منذ عقود، ووجدت مجتمعاتنا العربية نفسها في أزمات طويلة ومتشعبة لم تألفها من قبل. لكن ردة الفعل المتباينة للأنظمة المنهارة (جرى هذا بنسب متفاوتة وجسّده بصورة كبيرة الانقلاب العسكري في مصر فيما عُرف بالثورة المضادة) أتاحت للمنظومة الأمنية التابعة للدولة فرصة لاستعادة المجال وفرض سلطتها وعودة التحكم الأمني في دول عربية أخرى. لكن الدولة العربية الأمنيّة المنبعثة من جديد يجب أن تستوعب معنى المرحلة وأن لا تخطئ الموعد مرة أخرى من جراء نشوة العودة والسيطرة. فما جرى حتى الآن من ثورات عربية يمثل واحدة من لحظات التغيير التي سيظل عالمنا العربي يعيشها لزمن طويل وما عودة الدولة بشكلها الأمني إلا مرحلة لن يكتب لها أن تكون نهاية التاريخ، فستظل قضية الديمقراطية والعدالة والحريات والحقوق والإقصاء والاستيعاب كما جرى نسبياً في مجتمعات ودول عاشت ما عشناه موضوع حراك منطقتنا. في كل النماذج العربية بلا استثناء يريد المواطن العربي دولة مستقرة ونظاما يحمي أمنه وبلده، لكنه بالزخم نفسه يريد دولة ونظاما حديثا وعدالة وتنمية شاملة، كما يبحث عن تمثيلية مناسبة واقتصاد متطورأكثر تنبّهاً لحقوق واحتياجات الجيل الناشئ والفئات المهمّشة والفقيرة. إن خشية المواطن العربي من انهيار الدولة في دول عربية كثيرة ، كما حصل في سوريا والعراق واليمن، لا يعني منح بطاقة مفتوحة للدول في مناطق أخرى لعدم تحمل واجباتها التي تمثّل أساس وجودها وشرعيتها. لا زال الاحتقان قائما، رغم أهمية وضرورات الدولة ومحورها للمجتمع، بسبب نفس القضايا التي أثارها الربيع العربي. لذا ينبغي للدولة العربية أن تؤسس لعقد جديد مع المجتمع، الذي يجب أن تكون معبرة عنه، وأن تتبنى نهج التغيير والتصحيح والإبداع في بناء المعادلة الجديدة. لأن التلكؤ في إقامة عقد جديد سيجعل الناس في نزاع مفتوح يؤدي الى انهيار ما تبقى من الدولة في مناطق أخرى. دروس ما جرى في دول عدة في المنطقة متصلة بالفشل النسبي أوالشامل في القيام بمسؤوليات الدولة في صيانة السلم الاجتماعي وتحقيق العدالة وحماية الحقوق اللازمة في الدولة تبدأ عندما تخسر ثقة قطاع كبير ومهم من مجتمعها، تستفحل أزمة الثقة هذه عندما يصل غيابها الى قطاعات إضافية من المجتمع تعيش في البوادي والمدن وتنتمي الى فئات شعبية متنوعة. عندما تشرع الدولة في تغطية فشلها بالقمع ضد حقوقيين وكتّاب وصحافيّين وشباب، فيبدو أنها بدأت تعاني من أزمة الشرعية التي تهدد مع الزمن استمرارها . أزمة الشرعية تتعدى فقدان الدولة القدرة على القيام بالدور الطبيعي الموكول إليها، فكلما زادت حاجتها إلى التحكم والقمع والاعتقال تبيّن أنها تعاني من مخاوف. فهناك علاقة طردية بين لجوء الدولة الى العنف ضد قطاعات مؤثرة من مجتمعها وبين تدهور الشرعية، الدول التي تطمئن على شرعيتها وتتمتع بحال من الثقة هي أقل اضطراراً لاستخدام وسائل القوة مثلما هي أقل اضطراراً لتوظيف آليات القوة التي في حوزتها. لهذا فان سجن السياسيين والصحفيين والمحتجّين السلميّين وقمع الحريات والمحاكمات الصورية دليل على ضعف وتخبط. كلما اشتد عنف الدولة وزادت أساليبها التعسفية في ظل تراجع دورها الأساسي، الذي يعد أساس شرعيتها، اهتزت الأرض التي تقف عليها. إن أزمات الدول، نتاجٌ لهذه الجدلية ضمن جدليات أخرى مثل الفقر والتحديث والتنمية ، انحسار الطبقة الوسطى ومشاكل التفكك الاجتماعي والسياسي . في كثير من الحالات تسعى الدولة إلى التحالف مع قطاعات قوية ومتنفذة اقتصاديا، وهذا أمر طبيعي في عصر الليبرالية الجديدة التي ولدت مع سياسة الخوصصة لكن في عالمنا العربي دخلت تشوّهات على هذه المعادلة الدالة عن النفوذ البعيد عن حركة المجتمع (مثال النموذج المصري والسوري والتونسي قبل الثورة)، وقد يترتب عن هذا عزل فئات كثيرة في المجتمعات العربية. تحالفت الدولة العربية مع طبقة رجال الأعمال (رغم أهمية القطاع الخاص للاقتصاد الوطني ومتطلبات نموه) على حساب الفئات الشعبية، ثم تحالفت الدولة مع الأجهزة الأمنية والقمع على حساب الحقوق والحريات العامة، وهذا وَلّد مخاوف ومهّد لتخزين الغضب، بالخصوص لدى شرائح مستهدفة: حقوقية وشبابية و عمالية. إن السؤال الأساسي اليوم هو: هل تتمكن الدول العربية في لحظة الحرب على الإرهاب والسعي إلى العودة إلى التحكم بالحياة السياسية في البلوغ الى وضع وكأن ثورات لم تحصل وشعباً لم ينتفض؟؟ قد تكون الإجابة صعبة في المستقبل المنظور، إلا أن المفترض أن تغيراً اساسيا قد حصل في التفكير والسلوك العربيين منذ عام 2011، وأن هذا التغيرسيفرض نتائجه وتوابعه مع الزمن. لهذا بالضبط لن يكون الزمن الآتي إلا زمن البحث عن المعادلات التي تتفق والديمقراطية والحريات والعدالة الاجتماعية والمشاركة, في إطار الحرص على استقرار الوطن ونموه. إن إرساء أسس عقد جديد بعد ضعف الدولة وتفاقم أزمتها وآفاق انهيارها وانقسامها لابد أن يشكل خريطة طريق للمرحلة المقبلة.