غالبا ما يركّز الباحثون في التجارب الديمقراطية المقارنة على المجال السياسي الغربي وفي أحسن الأحوال على بعض الأمثلة العربية، حيث يكاد يسود الاعتقاد بأن التجربة الغربية هي ما ينبغي الاقتداء بها، بينما يتوجّب تجنب الكثير من مطبّات الواقع العربي، غير أن من شأن هذا التوجه العلمي والسياسي أن يُهمّش الكثير من النماذج الانتقالية في العديد من البلدان الإفريقية، ويحرم المتلقّي من معرفة ما يحصل في مثل هذه البلدان، كما يُسهم في منع السّاسة من الاعتبار ببعض التجارب التي نتشارك معها في التاريخ والجغرافيا والمناخ والاقتصاد، بل الأدهى من ذلك هو أن غياب الاطلاع على أنظمة الحكمة في البلدان الأفريقية، مثلا، يدفع إلى إحساس كبير بالتعالي وتحقير الآخر، إذ يتم الزّعم أحيانا بأننا نُصدّر الثقافة والحضارة والدين والتسامح لهذه الدول. والحال أننا في أمس الحاجة لمعرفة تاريخ وواقع الدول التي استطاعت أن تُنجِح انتقالها إلى الديمقراطية، لأن من شأن ذلك أن يُغني الممارسة السياسية، ويقدم للباحثين قراءات أخرى ممكنة، سيما في ظل موجات الربيع الديمقراطي. من هذه التجارب الانتقالية الناجحة، تبرز تجربة "جمهورية مالاوي" التي عاشت فصولا من التأزّم والصراع، لكن الشعب المالاوي والقائمين على الحكم في هذا البلد توفّقوا في نقل بلدهم إلى عِداد الأنظمة الديمقراطية، فرغم أن الزعيم التاريخي لمالاوي السيد "هاستينغز كاموزو باندا " حقّق لبلده بعض المؤشرات التنموية والاقتصادية التي ساهمت في نقلها من دولة فقيرة غير ساحلية مكتظة بالسكان وتفتقر للثروة المعدنية، إلى دولة بمقدورها أن تحقق التقدم في كل من الزراعة والتنمية الصناعية. نقول رغم هذا التحول، فإن الشعب المالاوي لم يكن ليَقنَع بالهامش الاقتصادي الممنوح من حاكم مستبد، لذلك استمر المجتمع المدني في ضغطه من أجل تحقيق المزيد من الحريات السياسية، وهو الضغط الذي دفع "الحاكم" إلى القبول بإجراء استفتاء سنة 1993، وافق من خلاله الشعب على مطلب الديمقراطية متعددة الأحزاب. وكان من نتائج هذا الاستفتاء أن تم الحسم مع قاعدة "الرئاسة مدى الحياة"، والتأسيس لدستور ديمقراطي، ثم إجراء أول انتخابات متعددة الأحزاب سنة 1994 وأصبح "باكيلي مولوزي" رئيساً. حيث ظل الأخير رئيساً حتى عام 2004 عندما انتُخِب "بينجو وا موثاريكا"، والذي أُعِيد انتخابه في سنة 2009 (نظرا لندرة المراجع في الموضوع فإنه تم التوسّل بالموسوعة الحرة "ويكيبيديا" من أجل تدقيق المعطيات الواردة في هذا المقال). وتجدر الاشارة أيضا إلى أن جمهورية مالاوي تقع في جنوب شرق أفريقيا، تحدّها زامبيا إلى الشمال الغربي وتنزانيا إلى الشمال الشرقي وموزمبيق من الشرق والجنوب والغرب. يبلغ تِعداد سكانها أكثر من 13,900,000 نسمة. وهي من بين أقل بلدان العالم نمواً، ويستند اقتصادها بشكل كبير على الزراعة، ويتوزع سكانها على الريف إلى حد كبير. وبعد الاصلاحات التي باشرها الرئيس "موثاريكا" المنتخب سنة 2006، استطاعت مالاوي أن تُصنّف في الرتبة 11 من ضمن جميع البلدان في أفريقيا جنوب الصحراء الكبرى. غير أن أهم الاصلاحات التي ستعرفها جمهورية مالاوي ستكون مع وفاة "موثاريكا" وتولية نائبته السيدة "جويس باندا" رئاسة مالاوي سن بعدما 2012، وهي أول امرأة تتولى الرئاسة في البلد، وثاني امرأة تتولى رئاسة بلد افريقي. والمعروف أن "باندا" اشتُهِرت بدفاعها عن حقوق المرأة، والعمل في إطار تعليم الفتيات، كما عُرفت بتأييدها لمبدأ المساواة بين الرجال والنساء إن هذه المرأة القادمة من أصول فقيرة، والتي عانت من عنف زوجها السابق، ومن محافظة محيطها الاجتماعي، واحترفت مهنة الفلاحة من أجل إعالة أبنائها الثلاث، قبل أن تتحول إلى رئيسة للرابطة الوطنية لسيدات الأعمال. نقول بأن هذه المرأة هي التي ستدخل المعترك السياسي بصفتها نائبة برلمانية، ثم وزيرة لحقيبة الخدمات الاجتماعية، ثم وزيرة للخارجية، ثم أضحت أول امرأة ترأس بلادها وثاني امرأة تتزعّم بلدا إفريقيا. لقد كانت أولى القرارات التي اتخذتها رئيسة مالاوي هي أنها قامت بتخفيض أجرتها الشهرية بنسبة بنسبة 30% (نفس القرار الذي اتخذه الملك الاسباني مؤخرا بعدما خفض راتبه بنسبة 7% بغية المساعدة في تنفيذ سياسة التقشف التي انتهجتها حكومته)، أما أهم التدابير التي جلبت لها تعاطف شعبها، فهو مغامرتها ببيع الطائرة الرئاسية الوحيدة التي تتوفر عليها البلاد، فضلا عن بيعها ل 60 سيارة رئاسية. ولما سألها أحد المراسلين الأجانب عن لماذا الطائرة الرئاسية بالضبط؟ أجابت: "يوجد في بلادي الكثير من الفقراء، بينما تُكلّفنا مصاريف صيانة الطائرة والتأمين عليها 300 ألف دولار سنويا"، ثم أضافت: "المسافرون على الدرجة السياحية والمسافرون على الدرجة الأولى جميعهم يصلون نفس المحطة في نفس التوقيت، والرفقة في السفر ممتعه"، وقد وظّفت الحكومة الملاوية عائد ال 15 مليون دولار، الذي جنته من بيع الطائرة في إطعام أكثر من مليون شخص. وهي كلها إجراءات نالت بها "باندا" تقديرا مهما من قِبل المجتمع الدولي رغم حداثة عهدها بالسلطة، حيث دخلت قائمة مجلة "فورين بوليس" الأمريكية لأهم 100 شخصية في العالم واكتسبت احترام أغلب زعماء الدول الافريقية والأوروبية ولقبت بالمرأة الحديدية التي أصبحت وجه التغيير للأفضل في القلب الدافئ لإفريقيا. مما جلب لبلدها المزيد من الدعم والاستثمارات الخارجية (الأهرام: 23 مارس 2013). بكلمات قليلة يمكن القول، بأن هناك مجموعة من الدروس يمكن الاعتبار بها من خلال المعطيات السالف ذكرها: فتجارب الانتقال الديمقراطي لا تقتصر على البلدان الغربية التي راكمت ممارسة تاريخية وفكرا ديمقراطيا، بل إن تجربة مثل "مالاوي" تفيد بأن دولة فقيرة، تعاني من الأمية، يمكنها أن تشُدّ الأنظار إليها، إذا توافرت الإرادة لكل من المجتمع والحاكم؛ إن التعددية السياسية والحزبية وربط المسؤولية بالمحاسبة الانتخابية شرط لتقدّم أي قُطر من أقطار المعمورة؛ إن ما أقدمت عليها الرئيسة "باندا" هو درس لكل مسؤول يطالب المواطنين بالتقشف والصبر على الدولة، فهي بدلا من أن تبدأ من الشعب، فضّلت أن تعطي بنفسها القدوة؛ كان بإمكان الرئيسة أن تتدرّع بضرورات الأبهة والفخامة البروتوكولية المطلوبة في الزيارات الخارجية لكي ترفض بيع الطائرة الرئاسية الوحيدة وأسطول السيارات؛ ليسا مهما أن تكون إجراءات السيدة "باندا" شعبوية، ما دام ذلك أمر يتعلق بالنوايا، وفي المجال السياسي لا يجوز الحديث عن ما تخفيه الصدور، وإنما العبرة بالنتائج، وفي التجربة المالاوية جاءت النتائج في صالح الديمقراطية والتقدم الاقتصادي والاجتماعي، لأن المطلوب من كل زعيم سياسي أن يحقق أكبر قدر من الانجازات المجتمعية حتى ينال تصويت شعبه، وإلا فإنه يُعاقَب في حالة الفشل، وهذا هو ما يُقصد به لما يتم تضمين الدساتير مبدأ "ربط المسؤولية بالمحاسبة" -باحث في العلوم السياسية