في الذكرى الخمسين لوفاة "العقاد" (6) كيف يرى العقاد وغيره دور (التراث) في بناء الواقع الجديد للعالم الإسلامي..؟ قبل تحرير حديث الجمعة لهذا الأسبوع كان أمامي سؤال عريض فرض نفسه علي كما فرض نفسه على كل مواطن في هذه الأرض الطيبة بل هو بالنسبة إلى أكثر من سؤال لأنه يتعلق بموضوع أجد نفسي معنيا به بصفة خاصة، ففي هذا اليوم سيتم افتتاح الدورة الربيعية للبرلمان المغربي ومع هذا الافتتاح استقوفتني بكيفية تلقائية مجموعة من الأسئلة وليس سؤالا واحدا ولكن السؤال الأساس الذي تتفرع عنه بقية الأسئلة هو ماذا يمكن أن يتحقق في هذه الدورة من انجاز في ميادين التشريع المختلفة والذي من شأنه أن يخفف من معاناة المواطنين؟ إن الواقع هو الكفيل بتقديم الجواب عن هذا السؤال، غير أن الجواب لاشك محكوم بوضع اقتصادي ومالي يجعل انجازا يحقق الانفراج في المسألة الاجتماعية التي تعني كل بيت أمرا صعب التحقق والمنال. وليس بمقدور هيأة تشريعية تعيش التجاذبات السياسية التي تقف وراءها مطامح وأهداف إن كانت مشروعة في أوقات سياسية عادية فهي ليست كذلك أمام واقع بئيس ومزري لكثير من فئات المجتمع المغربي. وليس من المنظور القريب أن النخبة التي تتولى تدبير الشأن السياسي في البلاد تدرك مسؤوليتها في تجاوز ما نراه وما يثير الكثير من الاستغراب لدى المواطن المغربي، إن واقع ما نعيشه يجعلنا جميعا أمام ضرورة ممارسة نقد ذاتي لعل من خلاله يصحح كل واحد منا ما يجب أن يصحح في مواقفه واختياراته. إنها خواطر لم أر ضرورة الاستمرار فيها لذلك عدت إلى مواصلة الحديث مع العقاد وغيره في واقع الإسلام في القرنين العشرين والواحد والعشرين. لماذا؟ في هذا الحديث الأخير من الأحاديث التي آثرت أن تكون بمناسبة الذكرى الخمسين سنة لوفاة عباس (العقاد) في موضوع الإسلام في القرن العشرين كما تحدث عنه (العقاد) مع ذكر المشاكل والقضايا التي طرحت وتطرح إلى الآن في شأن التعامل مع الإسلام عقيدة وشريعة وتراثا، وإذا كان الكلام عن العقيدة وعن الشريعة ومقارنتهما بما جد بين الناس في موضوع العقائد والمذاهب وما يترتب عنهما من الأوضاع القانونية والتشريعية قد مر كل ذلك في القسم الأول والثاني من هذه الأحاديث. الأصلان الباقيان وفي القسم الذي نشر في الأسبوع الماضي طرحنا مسائل خمس مهمة اهتم بها العقاد واهتم بها المسلمون ولا يزالون وتمنى (العقاد) لو تمكن من الحصول على جواب شاف من صاحب الدعوة محمد عليه السلام، يكون هو الحسم فيها غير أن هذا الجواب ليس واردا كما قلنا لأنه معلق على شيء غير وارد، وإذا كان هذا الجواب هو نفس الجواب الذي اقتنع به العقاد وانطلاقا من هذا الجواب السلبي سعى في مختلف الدراسات والأبحاث التي أنجزها حول الإسلام أن يستنطق الأصليين اللذين ينوبان عن الرسول بعد وفاته في الأجوبة التي يريدها العقاد، ولاشك ان ما تمناه يتمناه معه الكثير من المسلمين وبالأخص الباحثين والعلماء المشتغلين بالأصلين وعلومهما لأنهما الأصلان الباقيان ما بقي إسلام ومسلمون. التوثيق والقطعية ولاشك أن العقاد فيما سبق أن أثاره يدرك هذا تماما في شأن القراءات التي لا يترتب عن تعددها آثر في المعنى المقصود وإنما هي توثيق زائد على التواتر والقطعية اللذين يتمتع بهما النص القرآني، كما انه من خلال ما كتب أقر انه على الأقل هناك عشر مما يروى من الأحاديث عن الرسول يحظى بالصحة والثبوت وبناء على ذلك فإن التمسك بهذين الأصلين مما يحول بين المسلمين وبين الوقوع في الزلل بل ان التمسك بهما هو الذي يجعل المسلمين يسيرون على المحجة البيضاء التي ليلها كنهارها ولا يزيغ عنها إلا هالك. الوصية المانعة وعندما قال الرسول تركت فيكم ما أن تمسكتم به لن تضلوا من بعدي كتاب الله وسنتي، وإذا تمسك الناس بهما كما أوصى عليه السلام فإن الأمر سيكون قائما على العدل والوحدة والتضامن والتكافل بين المسلمين، وسيكون أصل التعامل مع غير المسلمين مبنيا على ما جاء في هذين الأصلين وقبل وبعد ذلك فهما المانعان من السقوط والزلل. قوام الحياة وإذا كان الناس قد جهلوا أو غفلوا عن هذين الأصلين وما ترتب عنهما من الأحكام والدراسات والأبحاث وما كتب حولهما من شروح وتعليقات مع ما صاحب كل ذلك من تطبيقات، فإن الواجب الذي يفرض نفسه ويفرضه الواقع هو الاهتمام بكل ذلك ووضعه نصب العين لفهمه وإدراك ما جاء فيه وما تضمنه إذ به سيكون قوام الحياة الجديدة التي يسعى المسلمون لبنائها بناء جديدا انه الأساس الذي يكون القاعدة العريضة لهذا البناء النهضوي الذي نريده. دعوة جادة ولاشك أن العقاد بما تركه من كتب ودراسات وما سعى إليه من بعث لكثير من انجازات عباقرة الإسلام من حيث الفهم والإدراك الصحيحان والسليمان لهذين الأصلين، ولم يقتصر جهده على البعث والإحياء فقط ولكنه عمل كذلك للإبداع والابتكار انطلاقا من هذه الركائز والأسس والإدراكه الجيد لكل ذلك دعا في هذا الكتاب إلى العناية بعد ان استعرض مواقف الكثير من دعائم النهضة الحديثة، ولو عن طريق الإشارة اعتمادا منه على ما كتبه بتوسع في الكتب المستقلة التي وضعها والتي تتناول هذه الشخصيات مثل الشيخ محمد عبده وجمال الدين الأفغاني وغيرهما. فكرة ومنهج لقد أراد العقاد من كتابه هذا أن يكون أساس منهاج العمل من أجل الاستفادة مما تركه الأولون ولذلك عقد فصلا مهما في آخر الكتاب بعنوان: التراث الإسلامي ووسائل إحيائه في هذا العصر، وبهذا العنوان والأفكار التي جاءت تحته وضع العقاد أمام الناس ما يراه ضروريا في هذا الباب، وما يجب على الناس أن يستفيدوا منه استفادة كبرى لأنها التي بها تتم إعادة ما ضاع من أمجاد ليس على مستوى الفكر فقط، ولكنه في مستويات أخرى تحتاج الحياة الإسلامية الجديدة إلى الاستفادة من التراث من أجل إقامتها، وقد وضع العقاد هذا المنهاج وأخذ هو مكانته في التنقيب ليس عن المخطوط الذي يكون معمورا في هذه المكتبة أو تلك، ولكن في واقع الناس حتى يكونوا جديرين بهذا التراث الذي نريد إحياءه. منهج وتجاوب وقبل الحديث عن اقتراح العقاد والأفكار التي تضمنها هذا الاقتراح أود أن أشير إلى أن هذا الاقتراح الذي تقدم به العقاد في هذا الكتاب هو اقتراح تناوله بعض أعلام العصر ورفاقه من الباحثين والدارسين، بل عملوا من أجل انجازه وقطعوا في سبيل ذلك خطوات مهمة، وان كان الفضل في التنفيذ والأسبقية ترجع إلى الباحثين الغربيين، الذين انكبوا على هذا التراث نشرا وتبويبا وترتيبا وجمعا رغم ما صاحب ذلك من أهداف وغايات. ولكن الذي امتاز به العقاد عن الكثيرين من المهتمين في عصره هو أنه كان يريد أن يكون هذا التراث حيا وفاعلا بين المسلمين ونافعا لهم في حياتهم اليومية التي يعيشونها وهم يغدون ويروحون بين الناس. اختلاف القصد والحاصل أن هذه الفكرة أخذ بها الكثيرون مع اختلاف القصد والمنهج وإذا استثنينا الدعاة ورجال الفكر الإسلامي الملتزمين الداعين إلى تصنيف الأحكام الشرعية على اختلاف المناهج فيما بينهم وكيفية الاستفادة من التراث قديمه و حديثه والمقتصرين على ما هو من العلوم الشرعية وعلوم الآلة كما كانت تسمى، فإن هناك باحثين آخرين ودارسين تفرغوا لهذا الأمر وعقدت ندوات كثيرة ومتعددة حول التراث وإحياءه وتجديده، ولكن مع اختلاف في المكانة التي يجب أن تكون للتراث في حياة المسلمين والعرب. والاختلاف في الواقع هو الإجابة على السؤال الأساس وهو ماذا نفعل بالتراث؟ ولماذا نحييه؟ توظيف التراث وبالمناسبة ونحن نتحدث عن موضوع إحياء التراث ودعوة العقاد إلى ذلك لا بأس من إيراد رأيين في هذا الموضوع لمفكرين متميزين في هذا الشأن ولكن كلاهما حاول من جهته أن يوظف التراث فيما يدعو إليه، وما لديه من قناعة فكرية هي أولى باليسار منها إلى من ينعتون باليمين واحد في المشرق والآخر في المغرب، والعقاد لا هو من اليمين ولا من اليسار وإن كان في بعض الأحيان يلتقي الطرفان في مهاجمته كما يحمل هو معول الضرب في الاثنين معا إن لم يكن في كل الأحوال ففي كثير من الأحوال. وأقصد هنا الدكتور حسن حنفي من الشرق (مصر) والدكتور محمد عابد الجابري من المغرب إذ اشتغل كل منهما على التراث مع وضع نظرية تحدد منهاج هذا الاشتغال. التقاء وافتراق ونبدأ بما قاله حسن حنفي، وهو كما اشرنا له وجهة نظر يصعب بجميع المقاييس أن تلتقي مع نظرة العقاد فيما يجب أن يفعل بالتراث ولكنه يلتقي معه كما يلتقي معه كذلك الدكتور الجابري في ضرورة أن يكون هذا التراث في خدمة الواقع ولكن أي واقع هنا يأتي اختلاف التوجهات والمناهج كذلك يقول حسن حنفي في كتاب: (التراث والتجديد) وهو يحدد من المراء بالتراث. ليس مخزونا «ولكن هذا التراث ليس مخزونا ماديا فحسب، هذا الكم الهائل من المخطوطات القديمة المنشور منها وغير المنشور والذي حرر في عصور لم توجد فيها المطابع بعد، ولكنه أيضا ليس كيانا مستقلا بذاته يدافع عنه وكأنه يحتوي على حقائق نظرية مسبقة توجد بذاتها، مهددة بالضياع ان غابت، وتحشد لها العقول في مرحلة الخطر، حقيقا أم وهميا. ليس التراث موجودا صوريا له استقلال عن الواقع الذي نشأ فيه وبصرف النظر عن الواقع الذي يهدف إلى تطويره بل هو تراث يعبر عن الواقع الأول الذي هو جزء من مكوناته. وإن ما عبر عنه القدماء باسم «أسباب النزول» لهو في الحقيقة أسبقية الواقع على الفكر. ومناداته له، كما أن ما عبر عنه القدماء باسم «الناسخ والمنسوخ» ليدل على أن الفكر يتحدد طبقا لقدرات الواقع وبناء على متطلباته، إن تراخي الواقع تراخي الفكر وإن اشتد الواقع اشتد الفكر. بين الفكر والواقع لاشك أن الدكتور حسن حنفي يتحدث هنا عن التراث من وجهة نظر فلسفية مادية حيث يربط الموضوع بالخلاف الأساس بين ما يسمى بالمادية أو الميتافيزيقية أين الأصل أو البداية الفكر أن الواقع وهو هنا منحاز إلى أن الواقع هو الذي يولد الفكر والعقاد على عكس ذلك على طول الخط. فالتراث إذن ليس له وجود مستقل عن واقع حي يتغير ويتبدل. يعبر عن روح العصر، وتكوين الجيل، ومرحلة التطور التاريخي. التراث إذن هو مجموعة التفاسير التي يعطيها كل جيل بناء على متطلباته خاصة وأن الأصول الأولى التي صدر منها التراث تسمح بهذا التعدد لأن الواقع هو أساسها الذي تكونت عليه، ليس التراث مجموعة من العقائد النظرية الثابتة والحقائق الدائمة التي لا تتغير بل هو مجموع تحققات هذه النظريات في ظرف معين، وفي موقف تاريخي محدد، وعند جماعة خاصة تضع رؤيتها، وتكون تصوراتها للعالم. ومع ما نلاحظه في الفقرة أعلاه فإن حسن حنفي يؤكد هنا ما سبق أن ذكره العقاد وهو ارتباط التراث بوجدان الأمة وواقعها وهو ما يسميه المخزون النفسي عند الجماهير يقول: لما كان التراث إذن ليس مخزوما ماديا في المكتبات، وليس كيانا نظريا مستقلا بذاته، فالأول وجود على المستوى المادي، والثاني وجود على المستوى الصوري فإن التراث في الحقيقة مخزون نفسي عند الجماهير. فالتراث القديم ليس قضية دراسة للماضي العتيق فحسب، الذي ولى وطواه النسيان، ولا يزار إلا في المتاحف، ولا ينقب عنه علماء الآثار بل هو أيضا جزء من الواقع ومكوناته النفسية. مازال التراث القديم بأفكاره وتصوراته ومثله موجها لسلوك الجماهير في حياتها اليومية إما بعاطفة التقديس في عصر لا يسلك الإنسان فيه إلا مداحا، أو بالارتكان إلى ماضي زاهر تجد فيه الجماهير عزاء عن واقعها المضني». (ص:11-12) اما الدكتور محمد عابد الجابري فله من التراث حكاية ذكرها في مقدمة كتابه (نحن والتراث والحداثة) وهو على أي حال ليس على منهاج حنفي بل تطور في تعامله مع التراث ولذلك فهو يرى: مقارنة لفظية الواقع أن لفظ «التراث» قد اكتسى في الخطاب العربي الحديث والمعاصر معنى مختلفا مباينا، إن لم يكن مناقضا، لمعنى مرادفه «الميراث» في الاصطلاح القديم، ذلك أنه بينما يفيد لفظ «الميراث» التركة التي توزع على الورثة، أو نصيب كل منهم فيها، أصبح لفظ «التراث» يشير اليوم إلى ما هو مشترك بين العرب، أي إلى التركة الفكرية والروحية التي تجمع بينهم لتجعل منهم جميعا خلفا لسلف. الوعي الدائم وهكذا فإذا كان «الإرث»، أو «الميراث»، هو عنوان اختفاء الأب وحلول الابن محله، فإن «التراث» قد أصبح، بالنسبة للوعي العربي المعاصر، عنوانا على حضور الأب في الابن، حضور السلف في الخلف، حضور الماضي في الحاضر... ذلك هو المضمون، الحي في النفوس الحاضر في الوعي، الذي يعطي للثقافة العربية الإسلامية عندما ينظر إليها بوصفها مقوما من مقومات الذات العربية وعنصرا أساسا ورئيسيا من عناصر وحدتها. الكل في الكل والجابري يرى أن التراث هو التراث هو الكل في الكل ان صح التعبير يقول: ومن هنا ينظر إلى «التراث» لا على أنه بقايا ثقافة الماضي، بل على أنه «تمام» هذه الثقافة وكليتها: إنه العقيدة والشريعة، واللغة والأدب، والعقل والذهنية، والحنين والتطلعات، وبعبارة أخرى إنه في آن واحد: المعرفي والإيديولوجي وأساسهما العقلي وبطانتهما الوجدانية في الثقافة العربية الإسلامية. حاصل الماضي والحاضر لقد عرف أحد المؤرخين الألمان التاريخ بقوله: إنه «حاصل الممكنات التي تحققت». وإذا كان هذا التعريف ينطبق على التاريخ الفعلي الواقعي، سواء السياسي منه والفكري، فإن «التراث»، في الوعي العربي المعاصر، لا يعني فقط «حاصل الممكنات التي تحققت» بل يعني كذلك «حاصل» الممكنات التي لم تتحقق وكان يمكن أن تتحقق. إنه لا يعني «ما كان» وحسب، بل أيضا، ولربما بالدرجة الأولى، ما كان ينبغي أن يكون، ومن هنا اندماج المعرفي والإيديولوجي والوجداني في مفهوم «التراث» كما يوظف في الخطاب العربي الحديث والمعاصر. لماذا هذه الخصوصية، لماذا هذا الاندماج؟ لابد من الإشارة مجددا إلى أن استعمال لفظ «التراث» بهذا المعنى الذي أبرزناه الآن استعمار «نهضوي»، فهو من جملة المفاهيم الموظفة في الخطاب النهضوي العربي الحديث والمعاصر، وبالتالي فهو يستقي، كما قلنا، كل مضامينه من ذات الخطاب، أعني من ظروف النهضة العربية الحديثة، من طموحاتها وعوائق مسيرتها.» (ص:24) التراث الإسلام ووسائل إحيائه في هذا العصر هذا التراث بهذا المفهوم الشامل والواقع هو الذي يتحدث عنه العقاد ويقترح علينا وسائل إحيائه. والعقاد رغم أن ما كتبه جاء فصلا من بين فصول كتاب فإنه في الواقع أحاط بموضوع التراث بشكل ما كان للمجلدات التي كتبت في هذا الصدد أن تخرج في شأن منهاج ننشر التراث على ما كتبه العقاد في هذا الفصل الذي استعرض فيه وسائل إحياء التراث وحصرها فيما يلي: إحياء التراث الإسلامي لابد له من عملين متلازمين يتوقف أحدهما على الآخر 1 – النشر: أحدهما نشر الكتب والآثار الإسلامية في جميع الأقطار التي تقرأ لغة العرب. 2 – الرغبة: والثاني إيجاد الرغبة في قراءة هذه الكتب والإحاطة بهذه الآثار، أو تنشيط هذه الرغبة إذا كانت موجودة على حالة من الضعف والفتور، إذ لا يكفي نشر الكتب والآثار لإحياء التراث الإسلامي إذا نحن نشرناها بين أناس لا يحفلونها ولا يقبلون عليها ولا يشعرون بالحاجة إلى دراستها والإلمام بها.. 3 – تحسين النشر: وكثيرا ما تكون طريقة النشر سببا من أسباب الترغيب في القراءة والتنشيط إليها، وكثيرا ما تكون الرغبة في القراءة والنشاط إليها سببا من أسباب العناية بالنشر والتوفر على وسائله المثلى. ومن ثم نقول أن إحياء التراث الإسلامي يحتاج إلى عملين متلازمين، وأن كل عمل من هذين العملين يتوقف على الآخر. 4 – المزج بالحياة وعندنا أن الوسيلة المثلى لإيجاد الرغبة في إحياء التراث الإسلامي هي مزحة بالحياة الحاضرة وتحويله إلى مجراها، فلا يشارفه الإنسان كما يشارف متحفا قديما للآثار المحفوظة بل يشافه كما يدخل في معترك الحياة وينغمس في تيار الشعور والعاطفة وليس ذلك بعسير إذا حسنت المطالعة وحسن الاختيار وحسن التنبيه. الإنسية والعقاد في الفقرة التالية يرى أن التراث هو: الإنسية العربية الإسلامية كما عبر عن ذلك الأستاذ علال الفاسي وذلك عندما يقول العقاد. «فالتراث الإسلامي عامر بسير العظماء والأبطال، وكل واحد من هؤلاء العظماء والأبطال له حياة، وله أشواق، وله هموم، وله وثبات بين الرجاء والإخفاق، ونعيد هذه الحقيقة بعبارة أخرى فنقول ان كل عظيم من عظماء الأمم الإسلامية، وكل بطل من أبطالها صالح لأن يصبح مدار قصة أو حادثة كهذه القصص أو كهذه الحوادث التي نقرؤها ونشاهدها فتهز نفوسنا وتنطبع في خواطرنا وتصبح حية بحياتنا عصرية بانتقالها إلى عصرنا ومشابهتها الوقائع والأحداث التي تجري بيننا. حركة الاحتجاج وللذين يسعون إلى إيجاد أصل وتأصيل للحركة الاحتجاجية داخل المجتمع الإسلامي فهم واجدون في هذا التراث ما يفي بالحاجة وأكثر وفي هذا يقول: التراث الإسلامي عامر بالحركات الاجتماعية التي تحتاج منا إلى فهم جديد وتفسير جديد، فإذا استخرجنا هذه الحركات الاجتماعية وعرضناها وفسرناها على الوجه الأمثل، فسنرى يومئذ أنها حركات حية تشبه كل الشبه ما نراه بأعيننا أو ما نقرؤه في الأنباء البرقية والصحف السيارة، وسنرى يومئذ أن عالم التاريخ الماضي وعالم الحياة الحاضرة يلتقيان أقرب التقاء، ويتعاونان في إفهامنا حقيقة الماضي والحاضر على السواء، فرب مسألة عصرية لا نفهمها حق فهمها إلا إذا قارناها بمسألة مثلها في العهود الغابرة، ورب مسألة غابرة لا نفهمها حق فهمها إلا إذا ضاهينا بين أسباب اليوم وأسباب الأمس، ورجعنا إلى البواعث المشتركة بين ما كان وبين ما هو كائن، فنحس ونحن نقرأ أننا لا ننتقل إلى عالم التاريخ الدابر بل ننقل التاريخ الدابر إلى عالمنا الذي نعيش فيه ونضطرب بالرجاء والكفاح في نواحيه. الترويح عن النفس وللذين يسعون إلى إيجاد متنفس لهم في هذا التراث فهم واجدون لكل ذلك على النحو الذي يرضيهم ويسعفهم وفي هذا يقول العقاد: والتراث الإسلامي عامر بالفكاهات والنوادر والأحاديث التي لا زمان لها لأنها إنسانية تصلح لكل زمان ولا تختلف باختلاف البلدان والأطوار، فإذا بحثنا عنها وجمعناها وجدناها أنها صالحة لوقتنا كما كانت صالحة لأوقاتها التي جرت فيها، لأن الطبيعة الإنسانية في أساسها قلما يطرأ عليها التغير في عناصر الفكاهة والعبرة ومقاييس الفطنة والبلاغة، فالنادرة البارعة والجواب السريع والفكاهة الحسنة والكلمة النافذة هي بنت كل زمان يعيش فيه الإنسان، وليس بالمتغير عليها مع تغيير التواريخ إلا طريقة العرض والتناول دون المعدن الأصيل. الشعر أما الشعر فهو ذو مكانة متميزة في هذا التراث والتراث الإسلامي عامر بالشعر «الغنائي» والمقطوعات الباهرة والشواهد السيارة، ومنها ما ليس يحتاج إلى غير النقل والتعليق اليسير ليلقى نصيبه من الزواج والإعجاب، ومنها ما يحتاج إلى تعليق يجعل الفائدة منه فائدتين والرغبة فيه رغبتين، يقرؤه القارئ ليستوعب محاسنة فهذه فائدة، ويقرؤه ليدرك الفرق بينه وبين ما يقابله من آداب الأمم الأخرى أو من آداب العرب في العصر الحاضر فهذه فائدة أخرى. النقل إلى الواقع ونصل إلى نقطة الالتقاء بين العقاد وحنفي والجابري رغم اختلاف المنهاج والخلفية الايديلوجية وهو كيف نجعل التراث يعيش فينا ونعيش فيه العيش الايجابي. وهذه عندنا هي وسائل «إحياء التراث الإسلامي» أي نقله إلى عالم حياتنا وتحويله إلى مجرى زماننا، وتمثيلية للقراء كي يشارفوه كما يشارفون الدنيا الحية لا كما يشارفون المتاحف المزوية، فهو يحيا بنا ونحن نحيا به في آن». من الذي يقوم بهذا الواجب؟؟ ولكن الطامة الكبرى والتي تحتاج إلى حل هو من يقوم بهذا الدور دور إحياء التراث والانتفاع به، ولذلك يطرح العقاد السؤال أعلاه. جماعات أو أفراد لا يستغنون عن جهد الجماعات، وسنبين لحضرات القراء فيما يلي أن الأدب العربي خاصة –سواء أكان قديما أم حديثا- أحوج الآداب إلى جهود الجماعات التي لا تغني فيها أعمال الأفراد المترقين. مسؤولية الحكومات فعلى الحكومات قبل كل شيء أن تقبل في بلادنا المختلفة على إحياء ما عندها من المخطوطات المتروكة أو المطبوعات الكاسدة، وعليها أن ربط بين هذا العمل وبين قوانين الإنتاج الناجح في سوق الأعمال الاقتصادية، فلا تلتقي به إلى موظفين مطمئنين إلى مرتب مضمون كيفما كان مصير عملهم من النجاح أو الخيبة، بل تنوط به أناسا يعنيهم رواجه وكساده ويهتمون به اهتمام الزارع بمحصوله والتاجر بكسبه، وتجعله مقرونا إلى بعض الشركات على نحو تشترك فيه الغيرة على الأدب والغيرة على الرواج. النشر والمقارنة وختاما يتحدث العقاد عن أقسام إحياء التراث والمؤسسات التي تنتدب نفسها لذلك وفي كل ما هو قائم في هذا الباب. وهناك أقسام كثيرة لإحياء التراث الإسلامي غير مجرد الطبع والإذاعة، فمن الكتب ما يطبع كما كتبه مؤلفوه، ومنها ما يختار منه الأصلح والأدنى إلى التشويق، ومنها ما يشفع بالتعليق أو التفسير، ومنها –وهو أصعب الأقسام جميعا- ما يحتاج إلى المقارنات بينه وبين نظائره في الأمم الأخرى، والى الملاحظات عن البواعث والأسرار التي لا يقتصر العلم بها على العلم بالشؤون الإسلامية». وبهذا الحديث نكون قد استنفد الحديث عن هذا الكتاب هدفه وغايته ولكن الحديث عن الإسلام في القرنين العشرين والواحد والعشرين يستمر لأنه الحياة التي يحياها قرابة مليار ونصف من الناس في هذا العالم وهذا العدد الهائل من الناس مؤثر ومتأثر ومنفعل ومتفاعل. -أستاذ الفكر الإسلامي