نعيش هذه الأيام على إيقاع الاستعدادات للاحتفال برأس السنة الميلادية الجديدة ومشاركة إخواننا المسيحيين أفراحهم وأعيادهم ، ويعرف شهر دجنبر الجاري كالمعتاد حركة غير عادية في مختلف مناحي الحياة الاجتماعية والاقتصادية . وقد بدأنا نرى كيف أخذت المحلات التجارية والمقاهي والمطاعم والفنادق زينتها وكيف تفنن أصحابها في تزيين واجهات هذه المحلات والمرافق بأبهى الحلل وعبارات البوناني وأرقام العام الجديد بالقطن الأبيض والملون وبصور سانتا كلوز المشهور ببابا نويل ، والذي سنراه في القادم من الأيام مجسدا تماما بجانب نماذج لأشجار الصنوبر المكسوة بلون الثلج وبالكريات الحمراء والخضراء والشرائط الملونة ، ويتقمص هذه الشخصية الخرافية عادة شباب عاطلون اضطرتهم الظروف إلى هذه المهزلة قهرا ، فنجدهم عند أبواب استديوهات ومختبرات التصوير واقفون طوال اليوم يتصيدون الأطفال ويستجدونه ويبتزونهم بطرق فنية عوض أن يقدموا لهم الهدايا كما يفعل بابا نويل النصارى . أما الفنادق والمطاعم والمقاهي بمختلف أصنافها ودرجاتها فقد شرعت مبكرا في أخذ جميع الترتيبات التنظيمية واللوجستيكية لاستقبال ضيوفها وزبنائها وإمتاعهم ببرنامج يليق بمقامهم في سهرة ليلة رأس السنة التي سيحييها وينشطها فنانون ومطربون بمختلف أنواعهم ودرجاتهم الفنية كذلك ، وستتراوح أثمان تذاكر هذه السهرات حسب التقارير الإخبارية بين مائتي درهم في الأحياء الشعبية وثلاثة آلاف درهم كحد أدنى في الأحياء الراقية والفنادق المصنفة . هذا بالنسبة للميسورين ولمن لديهم القدرة الشرائية لتسديد هذه الفواتير الضخمة ، أما الفقراء والبؤساء الذين لا يملكون عشاء ليلة ، فسيكتفون بإحياء السهرة في بيوتهم متسمرين أمام شاشة التلفزيون في انتظار ما سيجود به عليهم المسؤولون والقائمون على هذه الصناديق العجيبة من مواد وفقرات تنشيطية فنية وفكاهية ، في انتظار إشارة الساعة لمنتصف الليل من أجل إطفاء الشموع والتهام الحلوى ومسكوتات الفرانات المنزلية وتورتات المخابز الشعبية . سنشهد كما العادة بهذه المناسبة التي يغتنمها المغاربة المسلمون فرصة للتمرد على الذات وعلى قيم المجتمع وفرصة للتنكر لذواتهم والانسلاخ عن هويتهم ، كيف يرتمون في أحضان النصارى مقلدينهم في جميع مراسيم وطقوس احتفالهم بأعياد الميلاد ورأس السنة الميلادية واحدة بواحدة تقليدا أعمى لا معنى له لا من حيث المبدأ ولا من حيث الدلالة والجوهر ، بحيث يصدق فيهم في هذه الحالة المثل الشعبي المغربي القائل تابعين جيلالة بالنافخ ! وسنشهد تهافت المغاربة المسلمين عشية ليلة رأس السنة على اقتناء حلويات الاحتفال بكل أنواعها وأشكالها وأحجامها ، إذ يتساوى في هذه الحالة الغني والفقير القوي والضعيف المهم هو الاحتفال ، حتى وإن اقتضى الحال بيع قطعة من أثاث المنزل لشراء الحلوى وشموعها وباقي مستلزمات الحفلة بالنسبة لمن لا يملكون شيئا ، وهذه صورة أخرى من صور تعاستنا وشقائنا كمجتمع تافه متعلق بالقشور والعادات السيئة الدخيلة على قيمه ، وصورة من معاناتنا مع الأعياد والمناسبات التي ما أنزل الله بها من سلطان . كما سنشهد تهافت المغاربة المسلمون على اقتناء المشروبات الكحولية بكل أصنافها ودرجاتها والتزود بما يكفي منها حتى يكتمل النشاط في ليلة حمراء ساهرة، وستعرف الأسواق التجارية الكبرى والحانات والخمارات ومحلات بيع الخمور ككل نهاية عام ميلادي ازدحاما شديدا و إقبالا منقطع النظير. ويحضرني هنا مشهد مضحك ومبكي في نفس الوقت لرجل في الخمسينيات من عمره معروف لدى رواد المقاهي بإحدى شوارع مدينة فاس بإدمانه على الخمر بشكل يومي وشربه حتى الثمالة ، وقد كنت ذات مساء برفقة بعض الأصدقاء جالسين بإحدى هذه المقاهي ، وفي لحظة مر من أمامنا هذا الرجل المدمن الثمل وهو في حالة غضب وسخط يصرخ بأعلى صوته ، يسب المغاربة وينعتهم بأبشع الأوصاف ، ولما سئل ياك لاباس أفلان ، أجاب بأنه يكره المغاربة كرها شديدا لأنهم تركوا أخاهم المسلم وخذلوه في هذا اليوم / اليوم الأخير من تلك السنة وذهبوا لشراء الخمور من عند اليهودي ، حرام عليهم علاش زعما ما يتعاونوش مع خوهم المسلم تفووو على مغاربة كي دايرين ! ؟ انفجر جميع من كان بهذه المقهى بالضحك وأكمل السكير الساخط على الوضع المتأبط لقنينة خمره وهو في حالة يرثى لها طريقه على امتداد الشارع الكبير في المدينة من أجل تبليغ احتجاجه واستنكاره إلى كل من يهمهم الأمر ، حول قضية خذلان المغاربة المسلمين لأخيهم المسلم صاحب الخمارة . وبدافع الفضول مررت أنا وأصدقائي من أمام بيسري اليهودي فوجدناه فعلا مكدسا بالمغاربة ومعظمهم من الشباب وفيهم يافعون يتدافعون بداخله ، ووجدنا طابورا طويلا عند مدخل هذا المحل التجاري لا تشبهه في الطول والانضباط سوى طوابير المغاربة المنتظرين لساعات وساعات أمام السفارات والقنصليات الأجنبية ببلادنا . وقد تساءلت مع نفسي وأنا في طريقي إلى البيت بعد توديع أصدقائي ، لماذا كل هذا الإقبال وهذا التدافع من طرف هؤلاء المغاربة بكل فئاتهم العمرية من أجل الظفر بما يريدونه من قنينات الخمر لهم ولأصدقائهم الذين ينتظرونهم في البيوت والشقق المعدة للسهر والاحتفال ؟ وحينما تذكرت بأن للنصارى في ليلة رأس السنة اعتقادات كثيرة ، منها أن الذي يحتسي آخر كأس من قنينة الخمر بعد منتصف تلك الليلة سيكون سعيد الحظ ذلك العام ، وإذا كان عازبا فسيكون أول من يتزوج من بين رفاقه في تلك السهرة ، لما تذكرت هذا قلت لهذا السبب ربما يتهافت الشباب المغاربة على محلات بيع الخمور في هذا اليوم من العام بهذا الشكل الاستثنائي . طبعا تبقى هذه اعتقادات مسيحية خاصة بالمسيحيين يعتقد ويؤمن بها الشباب النصارى في بلدانهم ، أما الحقيقة عندنا فهي شيء آخر ومغاير تماما لهذه المعتقدات . فما أن تنتهي الاحتفالات في ليلة ذلك اليوم الأخير من العام حتى تبدأ فصول دامية من قصة مأساتنا مع البوناني وسهرة ليلة السنة الجديدة . بعد منتصف هذه الليلة بساعات قليلة تتحرك آلة القتل والفتك بحياة الناس والشباب السكارى العائدين إلى بيوتهم على متن سياراتهم ودراجاتهم النارية ، فتتجند فرق الإسعاف وتشرع سيارات النجدة في نقل الجرحى وجثث الموتى إلى أقسام المستعجلات والكسور والحروق ومستودعات الأموات فيما يشبه حالة الطوارئ في البلاد وفيما يشبه حرب أهلية في الأزقة والشوارع ، ويقضي رجال الأمن وشرطة المرور والدرك الملكي في المراكز الشبه الحضرية ليلتهم كاملة في التنقل بين الحوادث المرورية وتحرير محاضر المخالفات التي تكون في هذه الليلة مشتركة بين جميع الحوادث وهي السرعة الجنونية والقيادة تحت تأثير المشروبات الكحولية . وفي الأيام الموالية تطالعنا الصحف والجرائد بأرقام الضحايا ويطل علينا مقدمو النشرات الإخبارية في التلفزيون العمومي بوجوههم الشاحبة بأخبار حوادث وكوارث ليلة رأس السنة الميلادية يختمونها كما العادة بعبارات الأسف والمواساة وبتوصيتهم لنا باحترام قانون السير وبتوخي المزيد من الحيطة والحذر. وهكذا تتحقق فينا رؤيا القساوسة النصارى والأساقفة المسيحيون ومعتقداتهم لكن بشكل معكوس ، إذ يتحول عندنا من يحتسي آخر كأس من الخمر بعد منتصف تلك الليلة أو بالأحرى آخر لتر من الخمر ( وآخر يطرو وفراكة بلغة السكارى المغاربة ) من سعيد الحظ خلال العام الجديد إلى أسوأ وأتعس إنسان على وجه الكرة الأرضية ، وعوض أن يكون أول من يتزوج من بين رفاقه في تلك السهرة بفتاة أحلامه ، يتزوج بسرير ثابت في ركن من أركان بيته أو بكرسي متحرك في أحسن الأحوال يلازمه طوال حياته . نسأل الله السلامة والهداية وحسن العاقبة للجميع ، فلا نريد صراحة أن نرى أحدا من شبابنا مقعدا أو معدما أو تعيسا فيما تبقى من أيام عمره متحسرا على حالته الصحية وعلى شبابه الذي ضاع منه في لحظة طيش وتهور . هذه هي رسالتي لشبابنا المغاربة المسلمون ونحن على بعد أيام من ليلة رأس السنة الميلادية الجديدة ، وهذا هو تحذيري وتنبيهي لهم قبل فوات الأوان . ألا هل بلغت ؟ اللهم فاشهد. [email protected] mailto:[email protected]