مع بداية كل موسم دراسي جديد هنا بألمانيا تحضرني دائما ذكريات طفولتي، و معها الحالة التي كان عليها تعليمنا في ثمانينيات القرن الماضي وكيف كان بعض مدرسينا "سامحهم الله"يفرغون فينا مشاكلهم وسخطهم على وضعيتهم وكيف كان البعض الآخر"أطال الله في عمرهم و شفاهم مما تسببنا لهم فيه من مشاكل نفسية وعصبية" يتحملون شقاوتنا ويكافحون من أجل تعليمنا وتربيتنا بتفانٍ و إخلاص، وأطرح أكثر من سؤال عن حاضر ومستقبل هذا القطاع بمملكتنا السعيدة وهل خطونا خطوات إلى الأمام كما هو حال الأمم المتقدمة أم إلى الوراء كما هو حال الأمم المتخلفة التي لا تضع التعليم في خانة الأولويات. حاولت التقرب من بعض التلاميذ و أولياء أمورهم و بعض أطر التعليم للتعرف عن قرب عن التجربة الألمانية في هذا المجال فحررت من خلالهم هذا المقال، وأترك للقراء الأعزاء فرصة تحريك عقارب ذاكرتهم إلى الوراء، والعودة إلى ماض بعيد قريب, بسلبياته وإيجابياته، تَمَّ نقشه بإتقان من طرف رجال ونساء صادفناهم في المدارس، ساهموا في بناء شخصياتنا بضعفها وقوتها و عقدها فأصبحت ذكريات لقائهم جزء من حياتنا، والمقارنة بين تعليمنا و تعليم من تفوقوا علينا فيه، هذا مع الإشارة إلى وجود بعض الاختلافات في المناهج والطرق التربوية من ولاية لأخرى إذ أن هناك فرق كبير بين مدارس شمال ومدارس جنوبألمانيا. يعتبر الدخول المدرسي بألمانيا حدثا مهما بالنسبة للصغار، حيث تبدأ الاستعدادات لهذا اليوم أسابيعا قبل موعد الدخول المدرسي خلال العطلة الصيفية، لا عن طريق تقزيم الميزانية الشهرية للأسر، بل يتلقون عن كل مرشح للذهاب إلى المدرسة مبلغا يصل إلى 100أو 120 "أورو"هذا إضافة إلى المبلغ الشهري الذي يتقاضوه عن كل طفل، تلك المبالغ هي أصلا ليست مخصصة لشراء القناطر المقنطرة من الكتب، الأمر الذي يخلف أضرارا جسيمة على ميزانيات ونفوس ذوي الدخل المحدود و أيضا على أجساد الصغار وبالتالي على مردوديتهم بعد نهاية الموسم الدراسي كماهو حال إخواننا في المغرب، بل هي فقط لتوفير جو احتفالي يليق بهذا اليوم حتى يستوعب الصغير أهميته، أما ما يحتاجه من الكتب والمقررات فيحصل عليها عند بداية الموسم من مكتبة المدرسة بالمجان شريطة أن يعيدها قبل نهاية العام، لتكتفي الأسر فقط بتوفير أشياء بسيطة يكون ثمنها غالبا بسيطا، لذلك فلا يعتبر الدخول المدرسي هنا مكلفا. وتحرص العائلات الألمانية على الاحتفال بذهاب صغارهم أول مرة إلى المدرسة، حيث يتم الإعداد لهذا الحدث عن طريق شراء الهدايا من طرف جميع الأقارب و المعارف و أحيانا من الجيران، ليتسلم الطالب الصغير في ذلك اليوم كيساً مليئاً بالمفاجآت، بل حتى المدرسون يُعِدون بعضا من الحلويات يستقبلون بها تلاميذهم الجدد لإزالة كل الحواجز بينهم، و كي لا يتحول المدرس إلى قائد عسكري في مخيلة البعض بل كصديق أو كفرد من أفراد العائلة، فإنه يشجعهم على التعبير عن رأيهم بدون قيود، تماما كما لوأنهم أشخاص بالغون, لهم قيمتهم و مكانتهم في المجتمع، أي محاولة ربط علاقة صداقة بين جيلين متباعدين أساسها العلم و التعلم و الاحترام المتبادل. ويعتبر تعنيف أو إهانة التلميذ بسبب أو بدونه من طرف المدرس أمام زملائه من الكبائر التي يعاقب عليها القانون الألماني بالسجن و الغرامة والمنع من مزاولة المهنة، لذلك فهناك سلسلة من الأساليب العقابية السلمية الأكثر فعالية التي يلجأ لها المدرس في حق المشاغبين، ويتم في أقصاها بعث التلميذ إلى المجلس التأديبي الذي لا يعمل على توبيخه بل على محاولة إصلاح الإعوجاج بكل هدوء و بتنسيق مع الآباء حتى لا تصبح المدرسة جحيما أو سجنا لا يطاق, وأيضا تجنبا لخلق أي عداوة بين المدرسين وتلاميذهم. ويحرص المدرس على مشاركة الجميع في مراحل الحصة داخل الفصل دون تهميش لهذا وتشجيع للآخر، لكي لا ينمِّي الإحساس بالغيرة و الحسد لدى البعض و التكبر والغرور لدى البعض الآخر، لذلك يتم تعويدهم منذ الصغر على الاندماج في ما بينهم على شكل مجموعات, يتقاسمون الأدوار، يتبادلون المعلومات ويساعدون بعضهم البعض دون أي نوع من الأنانية والانعزال، ولتحقيق هذا الهدف يتم إلحاق اختصاصيا في علم النفس بكل مدرسة يكون على علاقة دائمة بالتلاميذ و مدرسيهم و أولياء أمورهم وعلى علم بكل ما يحيط بهم لإصلاح كل اعوجاج في شخصية الطفل قبل فوات الأوان. ويتم جمع تلاميذ القسم الأول مع أقرانهم من القسم الثاني في فصل واحد لذلك فالجدد هم فقط ضيوف بين القدامى, حيث يجب أن يجلس تلميذ من القسم الثاني إلى جانب آخر من القسم الأول، ليشارك الطلاب أيضا معلمهم في تلقين زملائهم دروسا في الاعتماد على النفس والانضباط، عن طريق تقليد بعضهم البعض, وتكرار الصغار للسنة الأولى هي فقط فرصة لتقوية الإحساس بالمسؤولية لديهم وتطوير شخصياتهم بأنفسهم أما المعلم فيكون متفرغا فقط لتلقينهم أصول الكتابة والقراءة، والحساب. ولتكسير الروتين لدى التلاميذ فإن المؤسسة تنظم سلسلة من الخرجات الترفيهية لفائدتهم بعد اتفاق مسبق مع الآباء، يتم خلالها تعريفهم بمختلف المراكز العلمية والفنية و الرياضية التي تزخر بها ألمانيا، كالمتاحف و الملاعب، و المسارح، و دور السينما، هذا إضافة إلى بعض الرحلات التي يتم تنظيمها خارج ألمانيا، يحتك خلالها الصغار بعادات و تقاليد الآخرين، وأيضا لتحسين مستواهم في اللغات الأجنبية التي يدرسونها. ويلعب التوجيه المدرسي دورا مهما في حياة التلميذ حيث تتوفر كل مدرسة على قسم خاص بالتوجيه يعمل على إعطاء دروس في طريقة اختيار المسالك التي تلبي رغباتهم وكدا الشروط التي يجب توفرها للحصول على مقعد في إحدى الشعب كما يتم تنظيم أسابيع خاصة بمهن المستقبل ليتعرف التلاميذ على كل ما يرغبون في ممارسته عن طريق تنظيم زيارات لبعض ميادين العمل, وتخصص المدارس يوما من أيام السنة يذهب خلالها الطالب رفقة أمه أو أبيه إلى مقر عمله يحرر بعدها تقريرا عن تجربته كمتدرب إلى جانب والده أو والدته. وتعمل المدرسة على ربط علاقة دائمة مع الآباء من خلال تنظيم أيام خاصة بهم والتعرف على آرائهم والإصغاء لهم ولرغباتهم وانتقاداتهم، والتنسيق والاتفاق معهم على الأيام التي يتلقى فيها التلميذ الواجبات، وتعريف الآباء باليوم الذي يجب عليه فيه تقديمها لمدرسه, وغالبا ما تكون نهاية الأسبوع خالية من الواجبات المدرسية لخلق فجوة و متنفس للتلميذ لممارسة هواياته مع آبائه، ولا يتعرض المدرسون للتفتيش من طرف مبعوث من مندوبية الوزارة، بل من طرف الآباء عن طريق المراقبة الدائمة لمستوى أبنائهم، فإذا اتفق هؤلاء على تغيير مدرس ما لعدم كفاءته، فإن المؤسسة تحوله مباشرة إلى مهمة أخرى، ويعتبر عدم حضور أحد الأبوين على الأقل لليوم المخصص للقائهم بالمدرسين بدون سبب دليلا على عدم اهتمامهم بابنهم، الأمر الذي يمكن أن تستغله الجهات المختصة في أخد الطفل من والديه و بعثه إلى إحدى مراكز تربية الأطفال المتخلى عنهم، آنذاك يكون الأب ملزما بدفع مصاريف ابنه للمؤسسة التي تكفلت به، وفي حال عدم قدرة الآباء على تسديد مصاريف ابنهم، فإن الدولة تتكفل به ويتم تسجيل تلك المصاريف على شكل ديون تسترجعها منهم بعد حصولهم على عمل. ولا توجد بألمانيا مراكز خاصة بتكوين الأساتذة و المعلمين تكلف الدولة الملايين من الأغلفة المالية و الآلاف من المؤطرين و...و... بل يتم تكوينهم داخل مدرجات الجامعة غير معزولين عن الآخرين، يتلقون فيها تعليما جامعيا عاديا كل حسب التخصص الذي يرغب في تدريسه مع وجود بعض الاختلافات، وعلى الطالب أن ينجح في وحدات عامة تهم التخصص الذي سيدرسه وأخرى مهنية خاصة بالراغبين في مزاولة التدريس كعلوم التربية أو البيداغوجيا، و بعد حصول الطالب على شهادته فإنه يغادر الجامعة كأي متخرج منها ليبدأ مشواره المهني بنسفه عن طريق البحث عن مدرسة تحتاج مدرسين من تخصصه، و بعد حصوله على العمل يمضي العقد مع المسؤولين عن المؤسسة التي يرغب التدريس فيها, ولا وجود لأي تدخل من الوزارة في مكان تعيينه أما إذا وجد المتخرج صعوبة في الحصول على عمل، و هذه حالات استثنائية و غير موجودة لأن ألمانيا تعاني أصلا من نقص في أعداد المدرسين، فإن مكتب الشغل يتكفل به وبمصاريفه إلى غاية نجاحه في الحصول على عمل. وبالرغم من جودة وقوة هذا القطاع بألمانيا، إلا أنه لا يخلوا من مشاكل يستحيل القضاء عليها، كانتشار ظاهرة التدخين و تناول المخدرات والعنف بين المراهقين, هذا الأمر, تستغله بعض الحركات العنصرية للهجوم على أبناء المهاجرين المتورطين في ذلك بالرغم من أنها حالة عامة لا تفرق بين هذا وذاك، وتعمل المصالح الأمنية على مراقبة التلاميذ خارج المدارس، وإذا ُسُجِّل غياب لتلميذ ما بدون مبرر، فإن المدرسة تتصل مباشرة برجال الشرطة يباشرون فورا بحثهم عن سبب الغياب بالاتصال بأسرته، وتتم مراقبة المتمردين بالمدارس من خلال أسرهم عن طريق تكليف مختص اجتماعي بمرافقتهم قصد تحديد الخلل و محاولة إصلاحه انطلاقا من جدوره، وفي حال صعوبة الاندماج واستحالة الانضباط فإنهم يحولونهم إلى مدارس خاصة بذوي الاحتياجات الخاصة قصد مساعدتهم وليس معاقبتهم. حقيقة أنه لا مجال للمقارنة بين نظام التعليم المغربي والألماني لكن ليس مستحيلا أن نؤسس تعليما قادرا على مواجهة تحديات هذا العصر، فقوة هذا القطاع هي أساس تقدم الشعوب وازدهارها وأنه لا مجال لإصلاحات ترقيعية مؤقتة بدون هدف, بل لإرادة حقيقية ووعي كبير بأهمية هذا القطاع، فالمسؤولون الألمان مثلا لا يعتمدون على اقتراحات وضغوط نواب الأمة في تطوير التعليم، بل على تقارير الباحثين في الجامعات و المعاهد المتخصصة في دراسة مشاكله تلك البحوث يتم تخزينها على شكل معطيات تكون رهن إشارتهم للاعتماد عليها في الخروج بإصلاحات حقيقية و فعالة، والفلسفة المُتَّبعة هي، للرفع من جودة المنتوج يجب تطوير أساليب ووسائل المنتج وتحفيزه, والمنتجون هنا هم الآباء وأطر التعليم في نفس الآن أما وسائل الإنتاج فهي البيت، والمدرسة و محيطهما معا. [email protected] mailto:[email protected]