1- "" ماذا يعني أن يصنع الإنسان مصحفا يحوي بين صفحاته مائة وأربع عشرة سورة، وستة آلاف ومائتين وستة وثلاثين آية، وهو عدد السور والآيات التي يتضمنها القرآن الكريم؟ من يفعل ذلك لابد وأنه يصنع خيرا عظيما، تبعا للحديث الشريف الذي يقول فيه الرسول الكريم عليه الصلاة والسلام: "خيْركم من تعلم القرآن وعلمه". وصانعو المصاحف يعلّمون الناس القرآن وإن كان ذلك بطريقة غير مباشرة. نتحدث هنا عن مصحف كريم بحجم عادي، يستطيع من يطالعه قراءة حروفه بشكل طبيعي، دونما حاجة إلى إجهاد عينيه، ودونما حاجة إلى استعمال مكبّر الحروف، وليس عن مثل ذلك "المصاحف" التي يتم حشر سورها جمعاء في "كتب" ضئيلة للغاية، يستحيل قراءة حروفها إلا بعد الاستعانة بجهاز الميكروسكوپ! 2- مثل هذه المصاحف الضئيلة، (في حجمها وليس في مضمونها) يوجد عدد منها في العالم الإسلامي، وسبق لزوار "هسپريس"، من خلال أحد مقاطع الڤيديو المنشورة على الموقع، أن شاهدوا واحدا منها قبل أسابيع، يعود إلى أحد المواطنين المغاربة من منطقة الرحامنة. ويظهر المواطن من خلال مقطع الڤيديو مزهوا بمصحفه الصغير الذي يحمله أمام عدسة الكاميرا بين طرف سبّابته وطرف إبهامه مثل لعبة صغيرة، ويفتخر بكون ذلك "المصحف" أصغر مصحف في المغرب، وربما، حسب قول صاحبه، أصغر مصحف في العالم العربي برمّته، قبل أن يختم مقطع الڤيديو بتهنئة أبناء منطقته على امتلاك واحد منهم ل"مصحف" بهذا الحجم الضئيل، وكأنّ المنطقة تمتلك مفاعلا نوويا كالذي يوجد في مدينة ديمونة الإسرائيلية! 4- السؤال الذي طرحْته على نفسي عندما شاهدت هذا المصحف الضئيل، الذي سبق لي أن شاهدت ولمست نظيرا له كان في ملك أحد أعمامي رحمة الله عليه، هو: ما الفائدة من تضييع الوقت في صنع مثل هذه "المصاحف"؟ وما الجدوى من صنع أو كتابة مصحف لا تظهر حروفه إلا إذا وضعنا عليها المجهر؟ فالقرآن الكريم، وكما يعلم الجميع، أنزله الله تعالى ليكون دليا وإماما للمؤمنين، وعندما نتحدث عن الدليل والإمام فإننا نتحدث عن الوضوح والبيان، فالدليل أو المرشد الذي يرافق السياح لزيارة المآثر التاريخية على سبيل المثال يستحيل أن يؤدي مهمته إذا كان أخرسا، لاعتبار أن لا أحد سيفهم ماذا يقول، وبالتالي فوجوده من غيابه سيان، وبما أن هذا النوع من "المصاحف" يستحيل قراءتها بشكل عادي، دون الاستعانة بمجهر، مع صعوبة القراءة حتى في هذه الحالة، فإن نفس منطق "الدليل الأخرس" ينطبق عليها، وبالتالي، تبقى مهمة كتابتها وصنعها مجرد مضيعة للوقت والجهد ليس إلاّ! 5- القرآن الكريم إذن، لا يجب أن نعامله كقطعة ديكور، وإنما المفروض فينا هو أن نقرأه ونفهمه ونتدبره. "أفلا يتدبّرن القرآن"، كما يقول الله تعالى، ونمتثل لأمره سبحانه: "وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا لعلكم ترحمون". فليس المهم هو تلك الزخرفة التي تحفّ صفحات المصاحف، ولكن المهم هو مضمون تلك الصفحات ومعاني كلماتها الربّانية. ولكن يبدو، والله أعلم، أننا نهتم بالقشور ونرمي اللبّ جانبا، لذلك صار من العادة مثلا، في صباحات يوم الجمعة من كل أسبوع، دون سواها من بقية أيام الله تعالى، أن يشغّل الناس آلات التسجيل التي تصدح بأصوات مقرئي القرآن في المتاجر والأسواق والمحلبات ودكاكين البقالة وداخل سيارات الأجرة والحافلات وفي كل مكان، وكأننا مدعوّون إلى الاستماع إلى القرآن خلال يوم الجمعة لوحده، حتى صار الأمر مجرد عادة يتم تكريرها بلا وعي تقريبا. الطامة الكبرى هي أن الناس، وإبّان ذلك ينشغلون بأمور الدنيا والثرثرة دون اكتراث ولا انتباه لمضمون ما يُتلى على مسامعهم من الآيات البيّنات، مخالفين أمر الله تعالى الذي أمرنا بالإنصات والاستماع عندما يتلى علينا القرآن. أضفْ إلى ذلك، أننا، وحتى عندما نقرأ القرآن في البيت أو المسجد لا نفهمه ولا نستوعبه، لأننا نعاني من كارثة ثانية، وهي أننا لا نهتم بالتفسير، حتى أئمة المساجد والوعاظ الذين يلقون الدروس نادرا ما يهتمون بتفسير القرآن، وعوض ذلك يكررون سرد الأحداث التاريخية التي ميّزت عصر الأنوار في التاريخ الإسلامي يوم كنا خير أمة أخرجت للناس قبل أن نصير اليوم أسوأ أمة على وجه الكرة الأرضية! ففي المغرب مثلا، يوجد آلاف طلبة القرآن في المدارس العتيقة، يحفظون سور القرآن وآياته عن ظهر قلب، ويقرؤون الحزبين الراتبين بعد صلاة صبح ومغرب كل يوم، ومع ذلك، عندما تسأل كثيرا منهم عن معنى الآيات الثلاث المكوّنة لسورة الكوثر، التي هي أصغر سور القرآن، يجيبك بصوت خفيض: لست أدري! وكاتب هذه السطور، واحد من الذين كانت تنطبق عليهم هذه القاعدة، مع سورة الكوثر، بعد أن أتمّ حفظ القرآن الكريم للمرة الثالثة على التوالي! وما زالت منطبقة عليه إلى حدود اليوم بخصوص سور وآيات أخرى لا حصر لها! فمتى سنهتم بفهم معاني القرآن عوض ترديده كالببغاوات واتخاذه كقطع الديكور؟؟؟ [email protected] mailto:[email protected]