لما فشل وزير الثقافة المصري فاروق حسني والمرشح العربي والمسلم في الفوز بكرسي اليونسكو، بعدما كانت حظوظه ظاهريا الأقوى، أمام نظيرته البلغارية إيرينا بوكوفا بنتيجة 27 صوتا مقابل 31، أسال المثقفون والمحللون السياسيون العرب والصحافيون الكثير من المداد حول هذا الموضوع فهناك من يرى بأن الرجل غير مؤهل وهو مجرد نحات قضى في دكان وزارة الثقافة المصرية أكثر من عشرين عاما ،وهذا كاف لعدم اقتناع الدول الغربية بأهليته وهناك من يرى بأن الرجل مؤهل وأعطى الكثير للثقافة المصرية وله مواقف ثابتة تجاه القضية الفلسطينية ،منها رفضه التطبيع مع إسرائيل ثقافيا ولم يزر هذه الأخيرة قط رغم الضغوطات التي مورست عليه ،كما أنه ينتمي لدولة عريقة ثقافيا وتملك حضارة عمرها آلاف السنين، ويرجعون السبب إلى عدم أهلية الدول العربية لهذا المنصب لافتقارها للديمقراطية والتقدم ووحدة الصف،أما حسني نفسه فاعتبر أن القضية سيست واعتبر استبعاده طبخة أعدت في نيويورك. "" لكن هناك آخرون يعيدون فشل حسني المدوي إلى صراع الحضارات بين الغرب والعالم الإسلامي وهو أمر يحمل الكثير من الصحة وقد تأسف حسني بعد فشله على كونه كان يريد من خلال فوزه بكرسي اليونسكو ترسيخ حوار الحضارات. إن عدم فوز الرجل جعل موضوع صراع الحضارات يطفو إلى السطح من جديد . هل الغرب فعلا يريد حوارا بين الشمال والجنوب وهل هو حسن النية إلى درجة تسليمه بحوار بناء بين الحضارة الغربية والإسلامية ليعيش العالم في وئام أم أن مصالحه وأطماعه تحتم عليه صراعا لا هوادة فيه مع العالم الإسلامي والعربي وإن كان هذا الصراع غير باد بالعين المجردة؟ إن ما تثبته النوايا الغربية وسياساتها الخارجية وتوجهاتها الكبرى أنها لا تريد تبني حوارا للحضارات لأن الأمر ليس في صالحها ، وإنما تفضل صراع الحضارات لأنها في موقع القوة، والقوي دائما لا يكون الحوار في صالحه لأنه سيظطره إلى تقديم تنازلات ، والغرب ليس مستعدا لتقديم تنازلات للعالم الإسلامي والعربي، فهو من موقع قوته يستطيع أن يملي شروطه ويفعل كل ما يخدم مصالحه ، أما الضعيف ، والأمر ينطبق على الدول العربية والإسلامية فهو الذي يرى بأن الحوار يخدمه محاولة منه إقناع الطرف القوي بأطروحاته. ومحاربة فوز فاروق حسني من قبل أوربا وأمريكا واللوبي الصهيوني ،كونهم يروا بأن الأنظمة العربية المسلمة لا تستحق أن يكون فردا منها على رأس اليونسكو لأنه لن يخدم مصالحها فارتأت محاربة هذا الفوز والوقوف في طريق وصول مسلم أو عربي لهذا المنصب، فالغرب يريد أن يكون الفائز منتميا لحظيرة المجتمع الغربي. الشيء الذي يدل على رغبته في السيطرة على المواقع الكبرى في المنظمات الدولية من أجل خدمة مصالحه انطلاقا من هذه المواقع ،وتصريح الفائزة البلغارية بالمنصب بوكوفا بعد فوزها :" قلت للوفد المصري أنني آمل أن نكون معا ، لأنني لم أؤمن يوما بصراع الحضارات" مجرد تصريح دبلوماسي وجواب مجاملة لأن فوزها في حد ذاته يؤكد أن صراع الحضارات هو السائد وأنه في الوقت الراهن على أشده وأن اللوبي الصهيوني أيضا وراء إذكاء هذا الصراع . فهل فشل فاروق حسني أمر حتمي فرضه صراع الحضارات،رغم حظوظه التي كانت تفوق كل التوقعات ونجاحه كان شبه مؤكد بعد تفوقه في الدورات الأولى على غريمته؟ إن الأمر فعلا يبدو حتميا رغم وجود بعض الفلتات كوصول بطرس غالي إلى كرسي الأممالمتحدة ،وإن كان وصوله لم يشكل قيمة مضافة للأمة العربية والمسلمة. بفشل فاروق حسني تأكد فشل أطروحة حوار الحضارات ،وتأكد هذا الفشل كذلك أثناء الحملة الانتخابية لمنصب رئاسة اليونسكو،حيث تكاثفت الجهود الأمريكية والأوربية مع جهود اللوبي الصهيوني وقادوا حملة شعواء ضده وحاولوا تشويه سمعته مستغلين تصريحاته حول حرق الكتب الإسرائيلية واتهامه بمعاداة السامية وقد نسي هذا الغرب ما يقوم به من حرق حقيقي للعرب في فلسطين والعراق فمجرد تهديد فاروق حسني بحرق الكتب الإسرائيلية يعتبر جريمة لا تغتفر عند الغرب في حين الحرق اليومي الذي تمارسه إسرائيل على الفلسطينيين ،والعراقيون الذين حولت أمريكا شوارعهم إلى بؤر للموت كلها أمور تبدو أفعال عادية ويباركها الجميع وإن لم يباركونها يسكتون عنها وذلك أضعف الإيمان. رغم اعتذار فاروق حسني لإسرائيل على خلفية ما اعتبره زلة لسان لما صرح في البرلمان المصري بأنه مستعد لحرق الكتب الإسرائيلية إن وجدت في المكتبات العامة المصرية، حتى تسحب معارضتها ضد ترشيحه، وتدخل حسني مبارك مباشرة على الخط، وفعلا سحبت إسرائيل معارضتها ،لكن ظاهريا فقط لأنها من أجل خدمة مخططاتها لن تعول على نجاح فاروق حسني رغم أن هذا الأخير كان مستعدا لزيارة إسرائيل لثنيها عن معارضة ترشيحه ، كما كان يرى فوزه المرتقب في صالح إسرائيل حيث سيعمل على المصالحة ،وليظهر حسن النية تجاهها صرح بأنه عمل على الحفاظ على التراث اليهودي بمصر، لكن ما نسيه فاروق حسني أن هذه التنازلات والاعتذارات وإحناء الهامة أمامها، رغم علو هامة التاريخ المصري وحضارته،لا يساوي شيئا أمام مخططاتها ومن هذه المخططات تهويد مدينة القدس ،والسعي لانتزاع اعتراف دولي لاعتبارها تراثا إسرائيليا ،وقد حاولت ذلك من قبل لكنها فشلت ،وإن وصل السيد حسني إلى سدة اليونسكو لن تتمكن من تحقيق ذلك، لذلك دعمت من سيخدم مخططها وهناك من يتحدث في الكواليس عن الأصول اليهودية للفائزة البلغارية ، فلما فازت بالمنصب سارعت إسرائيل إلى إظهار الحماس من خلال تهنئتها المحملة بالكثير من المعاني وكان ذلك عبر بيان لوزارة الخارجية جاء فيه : "إسرائيل ترحب بهذا الانتخاب وهي على يقين بأن تعاونها المثمر مع اليونسكو سيستمر بل سيتعزز" ليس المقصود هو المرشح في حد ذاته ،أو أهليته من عدمها ،ولكن المستهدف بالدرجة الأولى هو الانتماء لدولة عربية وإسلامية ولم يسبق لعربي مسلم أن ترأس اليونسكو وقد تقدم قبل فاروق حسني غازي القصيبي السعودي والإثنين لم يتمكنا من الفوز لمحاربتهما من قبل الدول الغربية ،رغم أن بلدي الرجلين أي السعودية ومصر قدما تنازلات كبيرة لهذه الدول فلم يشفع لهما ذلك فحوربا في كل مرة حتى لا يتمكن أي منهما الظفر بكرسي اليونسكو. الغرب يرى بأن صراع الحضارات شيء صحي بالنسبة له، رغم كون هذا الصراع لا محل له من الإعراب كون الحضارة لا طابع عرقي لها ولا ترتبط بجنس من الأجناس، وهو في تعنته ونظرته الفوقية إلى العالم العربي والإسلامي لم يستوعب بعد فكرة الندية وأن الثقافة العربية لها قيمتها التي قد تتفوق على الثقافة الغربية في بعض الجوانب ، وأن الحضارة المصرية التي ينتمي لها فاروق حسني عمرها آلاف السنين ، لكن ضعف الأنظمة العربية هو الذي جعل الغرب وإسرائيل يصولون ويجولون ويملون ما يريدون علينا دون حاجة منهم لحوار الحضارات ،وكل من سولت له نفسه التمرد ، فإن الجميع يتألبون ضدهم حتى إخوته وأبناء عمومته من العرب والمسلمين ليقدموه وجبة سائغة لهذا الغرب كما فعل الثور الأبيض والأسود في كليلة ودمنة ،ولن يغير الله ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم ،فالعرب أيضا يتحملون جزءا من المسؤولية لأنهم لو كانوا أقوياء وكلمتهم موحدة لسيجوا أنفسهم ضد الغرب ولفرضوا حوارا حضاريا حقيقيا وبناء معه ولمسحوا إسرائيل من الخريطة منذ زمن بعيد ،أما الآن فإن صراعهم مع هذا الغرب المتعنت دائما يدخلونه مدججين بضعفهم وفرقتهم وتخاذلهم فيخسرون المعركة منذ الجولة الأولى .