كل دولة من الدول النامية أو السائرة في طريق النمو إلا ويقترن ذكر اسمها بأحد علماء التربية الكبار الذين هندسوا لمنهاجها التربوي، أما نحن فرغم توفرنا على بعض المجلات التربوية ورغم قدرتنا على استشراف بعض المجالات التربوية المستعصية، فالمجال التربوي لا زلنا غير قادرين على التفكير فيه سياسيا وبشكل شمولي، لقد لعب فيه السياسويون كما أرادوا. مزقوا أوصاله وحولوه إلى قطع بحرية عائمة في مياه مملوءة بالألغام. لإرضاء الحزب الفلاني والحزب الفلاني والحزب الفلاني كان لا بد من تقسيم المنظومة التربوية إلى ضيعات يستطيع فيها وزير الحزب الفلاني تلبية طلبات مريديه. إلى حدود الآن لا زلنا لم نبحث جيدا عن الأسباب الحقيقية التي جعلت بعض الأحزاب السياسية خلال تسعينات القرن الماضي تنشطر أوصالها، الوصفة الجاهزة التي قدمت لنا هي تدخل وزارة الداخلية لتقسيم الحزب الفلاني العتيد، لكن لا الأطراف المحسوبة على الحزب الفلاني العتيد ولا الأطراف التي استمالتها وزارة الداخلية استطاعوا أن يقدموا لنا نموذجا تربويا لرافعة الاقتصاد ندافع عنه جميعا؛ ولولا تحسس بعض الأطراف في الدولة للخطر المحدق بنا، لعدنا إلى مرحلة الستينات والسبعينات حينما كنا نستورد الأطر والأساتذة. أثار تدخل أقدام السياسويين بداخل الحقل التربوي واضحة، وهو تدخل بدون رؤية ولا بعد تنموي. مباشرة بعد كل استحقاق انتخابي، ومباشرة بعد إفراز أصوات الناخبين ترتفع درجة الحمى لدى الحزب الفلاني ويصبح المنصب الوزاري والمناصب الموالية له أولى الأولويات. أما المنظومة التربوية اليتيمة فلتنشطر إلى ضيعات ومحميات كي يجد الوزير وأتباعه ما يكفيهم من الوحيش ... "" لسنين عديدة حرمتنا السياسوية من الرؤية الواضحة ومن التفكير الرصين وأصبحنا غير منتجين تربويا وبدأنا نتصرف في المنظومة التربوية كعميان يريدون إعادة تنظيم كبة الخيط المخبولة. وأثناء حكومة التناوب بالخصوص انشطرت هذه المنظومة اليتيمة التي لا أباء لها ولا أجداد، نعم لا أباء لها ولا أجداد، تفتخر فرنسا التربوية بجول فيري jule ferry وبالعشرات من المفكرين التربويين العظام،كما تفتخر فنزويلا بماكادو وغيرهم و أمريكا بجان ديوي وغيره من الأعلام التربوية، تفتخر روسيا بمكارنكو كما تفتخر الفيتنام بلي تان كول LË THÄNH KHÖL...كلهم يفتخرون بأعلامهم التربوية أما منظومتنا التربوية فحتى المفكر محمد عابد الجابري الذي استهوته سلفية المشرق لم يهب لها من وقته الثمين إلا:"أضواء على مشكلة التعليم في المغرب"... منظومتنا التربوية، تحت ضغط أنانية سياسيينا وبدون أباء روحيين يستنكرون حدوث بعض الأفعال، انشطرت إلى ثلاث وزارات وترتب عن هذا الانشطار ظهور قوانين ومساطر تزكي هذا الانشطار وتدعم هياكله. قانونيا وتشريعيا تم فصل الهياكل الإدارية للتعليم الأولي- الابتدائي والثانوي الإعدادي والثانوي التأهيلي عن التعليم الجامعي؛ وتم فصل هاذين الاثنين عن البحث العلمي وعن التكوين المهني التقني و تم خلق أكاديميات خاصة فقط بتدبير الشأن التربوي الابتدائي الإعدادي والثانوي وهي أكاديميات منفصلة عن التعليم العالي والجامعي وليس لها الحق في الاهتمام بمستقبل مصير خريجيها الحاملين للباكالوريا... يقول وزراء التربية الوطنية الذين تعاقبوا على وزارات هذا القطاع أن هذه الأكاديميات هي وزارات مصغرة لدعم اللامركزية ولكن هذه اللامركزية على ما يبدو هي لامركزية غير شمولية وتحتاج كثيرا إلى مقومات الانسجام اللامركزي. بل حتى تسمية اللامركزية أصبحت شبه متقادمة وتنتمي إلى منتصف القرن الماضي، فقهاء هذا التخصص التشريعي يفضلون مصطلح الجهوية تاريخيا الفلسفة الجهوية تم تأطيرها فكريا ونظريا عبر أربع مقاربات تنموية إلغاء إحداها يمس مباشرة بمقومات الجهة. والمقاربات المؤطرة للجهات هي كالتالي: * المقاربة التاريخية * المقاربة الجغرافية * المقاربة الديموغرافية * المقاربة الاقتصادية المقاربة التاريخية هي الأكثر انتقادا لأنها تقوم على تزكية النعرات الجهوية وتأجيجها حينما تحددها في خصوصية مغلقة، في حين يرى البعض بأنها اللبنة الأساسية اتجاه نظام فدرالي. على العموم تلتقي هاته المقاربات أو المدارس الأربعة على بعض المقاييس في تحديد مناطق الجهات. وهي كالتالي: * البنية الجيولوجية والفيزيائية * الأنشطة الاقتصادية المعاصرة وشبكة الطرقات * إشعاع المدن الكبرى * الكثافة السكانية * الخريطة الجامعية إدراج هذه المقاربات والمقاييس يوضح مما لا يدع مجالا للشك بأن المكون الجامعي هو مكون ضروري لسياسة اللامركزية وبدون القطب الجامعي المندمج مع باقي مستويات التعليم الأخرى سيحول المؤسسات التربوية الثانوية التأهيلية إلى أنهار تصب في بحيرات غير محددة المعالم، كما هو الشأن حاليا في المغرب. عند كل الدول التي تحترم فيها قيم العلم والمعرفة مسار المتمدرسين منذ ولوجهم التعليم العمومي إلى حصولهم على الشواهد والدبلومات العليا هو مسار واحد والبرامج والمناهج التربوية المتبعة هي برامج ومناهج واحدة تتوخى التدرج التنوع وتسهيل العقبات، لكن بداخل منظوتنا التربوية، هاته المسارات الموحدة وهاته البرامج المندمجة تتحكم فيها مؤسسات تعليمية منشطرة مما يخل كثيرا بمقوم المصداقية التربوية من تقويم و انسجام للمنظومة التربوية برمتها. لا تستغربوا ففي المغرب مسارات المتمدرسين لا يتم التعامل معها وفق ملفات تقويمية دقيقة، لأنه قد يحصل أن تجدوا أن المعدل التقويمي لأحد المتمدرسين طوال مساره الدراسي في أحد المواد التعليمية كالعلوم الطبيعية مثلا لا يلامس عشرة على عشرين ولكن عند اجتيازه مباراة ولوج كلية الطب يحصل على كرسي بداخل هذه الكلية في حين يقصى متمدرس آخر سبق له أن حصل على معدلات عالية في هذه المادة ذات العلاقة العضوية بمجال الطب. كما يحصل كذلك أن لا يتعدى المعدل التقويمي لأحد المتمدرسين ستة على عشرين في مادة لغوية مثلا ولكن في مقابلة ولوج إحدى مراكز التكوين البيداغوجي الثلاثة نجد أن هذا المعدل يرتفع إلى أكثر من الضعف ويصبح ثمانية عشرة على عشرين. مثل هاته الحالات التقويمية هي أقرب إلى حالات التلبس المعمول بها في حالات الأجرام، لكن المسؤول الحقيقي على هذه الحالات ليس هم دائما الأساتذة بالطبع بل هو النظام التربوي الذي لا زال لم يستطع تقديم واعتماد بيانات تقويمية مفصلة لمرودية المتمدرسين من جهة ومعالجة كل الاختلالات التقويمية التي قد تقصي في بعض الأحيان أمهر متمدرسينا. المعطيات التقويمية رغم اختلالاتها متوفرة ومتضمنة في ملفات المتمدرسين لكن عملية استثمارها وصياغتها على شكل بيانات تتوخى العدالة التربوية لا زال مستعصيا؛ ولعل عملية خلق مجلس وطني للتقويم التربوي المؤسساتي سيحل إشكالات غياب العدالة التربوية والجودة بداخل المؤسسات التربوية الوطنية؛ كما سيساهم في حل بعض إشكالات التدبير المالي ويطور من قدرة المنظومة التربوية على الالتئام والانسجام.. حتى الموظفين العموميين بداخل هذه المنظومة في غياب بطائق تقنية دقيقة لتقويم الموظفين يصبحون عرضة للظلم والإجحاف، ولمن يريد فعلا وبصدق وبروح عالية الانخراط بداخل المنظومة التربوية في برنامج التنمية البشرية عليه التفكير أولا في إنصاف هاته الكفاءات الوطنية التي يتم إقصاءها وتهميشها فقط لأنها تلتزم الممانعة وترفض طريقة صرف وإهدار المال العام... التئام المنظومة التربوية يمكن تحقيقه عبر سيناريوهين وهما سيناريوهين واردين باللفظ في ديباجة الميثاق الوطني للتربية والتكوين، السيناريو الأول كما سبقت الإشارة إلى ذلك يمكن تحقيقه في تجميع كل المؤسسات التربوية بما فيها الجامعية تحت لواء الأكاديمية وضمن تنظيم جهوي، هذا على ما يبدو ما تتضمنه المادة153التي تقول:"يراعى في إحداث الجامعات الجديدة أو أي مؤسسة للتعليم العالي استجابتها لمعايير تلبية الحاجات الدقيقة للتعليم العالي على المستوى الجهوي". السيناريو الثاني هو ذو أبعاد وظيفية حيث سيتم جمع المؤسسات التربوية المنسجمة تحت لواء جامعة متخصصة مع خلق مؤسسات ثانوية مرتبطة عضويا بتخصص الجامعة المذكورة، هذا ما يرجحه الميثاق الوطني للتربية والتكوين في المادة 150حينما يقول:" يتم الارتقاء بالجامعة إلى مستوى مؤسسة مندمجة المكونات، ذات استقلال مالي فعلي وشخصية علمية وتربوية متميزة، وتنظم على صعيد الجامعة الجذوع المشتركة وتستعمل هذه الموارد على الوجه الأمثل ويتم حسن توزيعها على جميع المؤسسات التابعة للجامعة أو المرتبطة بها، أو الفاعلة معها في إطار الشراكة". مثلا كل المؤسسات التربوية ذات البعد التربوي البيداغوجي سوف يتم تنظيمها تحت لواء جامعة لعلوم التربية، مع خلق ثانويات تأهيلية خاصة بمجال علوم التربية. نفس الشيء بالنسبة للمؤسسات الجامعية ذات البعد الطبي، البيولوجي و الفزيولوجي الرياضي سيتم تجميعها في قطب جامعي مندمج. العلوم الميكانيكية، الفيزيائية والاليكترونية كذلك في قطب جامعي يشمل انسجامات العلوم والمناهج المرتبطة بها؛ نفس الشيء بالنسبة للتخصصات الأدبية، الفنية والتصويرية. هكذا فالأقطاب الجامعية سوف لن تكون جهوية بل وطنية ووظيفية. دول الاتحاد الأوروبي حاليا رغم تبني معظمها للجهوية فقد وجدت نفسها مضطرة إلى سلك هذا المنحى الثاني فالأقطاب الجامعية الأوروبية التي هي بصدد تحقيقها مند سنة 1999سعت ما أمكن الحفاظ على تخصصات و ميولات مؤسساتها الجامعية وفتحت إمكانية استقبال المراكز الجامعية الأوروبية لكل الطلبة الأوروبيين. بالإضافة إلى خصاص التئام المنظومة التربوية و ربط التعليم الجامعي بالنظام الأكاديمي تحتاج هذه المنظومة إلى انسجام وتناغم مؤسساتها الاجتماعية. المال السايب يعلم السرقة بعد ظهور النصوص التشريعية المنظمة لمؤسسة محمد السادس للنهوض بالأعمال الاجتماعية لرجال التعليم يتساءل بعض الملاحظين بكل ما للسؤال من غيرة على مؤسسات ومستقبل هذا الوطن: لماذا تستمر المؤسسة الاجتماعية الأخرى لرجال التعليم، رغم تقادم طرقها وعدم شفافية مداخيلها، هل المغرب مغربين، مغرب يسعى إلى مسايرة اكراهات التحديث، ومغرب خاص بالجماعات الاحتكارية التي تغري وتعلم الآخرين كيفية الحصول على المال ولو على حساب شرف المهنة وشرف المستقبل، أم المغرب هو مغرب واحد وموحد. هل هنالك من يستطيع من هاته الجماعات الاحتكارية تبرير هذه الازدواجية التي تطبع هيآت الأعمال الاجتماعية لرجال التعليم!؟ قبل ظهور مؤسسة محمد السادس للنهوض بالأعمال الاجتماعية لرجال التعليم، في سنة 1994قامت الكنفدرالية الديموقراطية للشغل وهي في أوج علو كعبها النضالي بتوقيع اتفاقية مع بنك الوفاء للتأمين يتضمن منتوجين تأمينيين الأول تحت اسم تأمين العمر الذهبي والثاني التأمين على الحياة، آنذاك لازالت الدولة على الأقل لم تقدم منتوجات وطنية لتنمية الجانب الاجتماعي لأسر رجال التعليم؛ وحتى الكنفدرالية الديمقراطية للشغل حينما وقعت الاتفاقية مع المؤسسة البنكية المذكورة لم تقم بها من منظور محلي أو فئوي ضيق، بل قامت بها من منظور وطني شمولي انخرط فيه كل رجال التعليم على طول وعرض الوطن ولم يكن للنقابة أي ربح مالي غير مصلحة رجال التعليم. لكن بعد أن أصبح للدولة منظور تنموي اجتماعي واضح يتجلى في مؤسسة محمد السادس للنهوض بالأعمال الاجتماعية، بكل المنتوجات والخدمات الاجتماعية التي أصبحت تقدمها لرجال ونساء التعليم والتي بالضرورة ستقوم على تطويرها، أصبحنا نلاحظ تهافتات على تمرير تعاقدات لا يعلم رجال التعليم أن سعر خدمات تلك التعاقدات هو نفسه السعر الساري، إن لم يكن أكثر؛ وبالتالي لم يعد دور الأعمال الاجتماعية هو البحث عن تخفيضات وإنجاز مشاريع بأقل كلفة، بل تحول إلى عالم من الوساطات والسمسرة... من حق الجميع أن يتساءل عن جدوى الازدواجية في تأدية نفس الخدمات والمنتوجات الاجتماعية وما السر من وراء ذلك. خصوصا وأنه أصبح يتضح توجه اجتماعي جديد/قديم واضح المعالم بداخل فروع مؤسسات الأعمال الاجتماعية لرجال التعليم، توجه أكثر ما يمكن أن يقال عنه أنه سيخلق فوضى وطنية على مستوى أمد قصير. هاته الفوضى معالمها بادية للعيان في طريقة تدبير هاته المؤسسات التي يقال عنها أنها ذات بعد اجتماعي؟؟ ولكن في واقع الأمر هي ذات بعد احتكاري سياسوي وانتخابي. أنصار هذا التوجه الاجتماعي الاحتكاري القديم/الجديد يقولون انه التاريخ ويتهمون الدولة وكل الهيآت بالتقصير في حق رجال التعليم، و يقولون بأنه الآن فقط بعد أن حققوا نجاحات تجارية في مقتصديات - تخضع لقانون اقتصاد الريع - تنبهت الدولة إلى نجاحهم وبدأت تسعى عبر مؤسساتها المحدثة، مؤسسة محمد السادس للنهوض بالأعمال الاجتماعية، على قطع الطريق عليهم... منطق التاريخ هذا هو منطق للأحقاد والضغينة وليس منطق العقل والقوانين والأعمال النظيفة. بأي حق يترك رجال التعليم أقسامهم وهم يتقاضون تعويضات عن أعباء القسم ؟؟ويتحولون إلى تجار وباعة، يبيعون كل شيء التوابل الثلاجات الملابس الداخلية، الهواتف، الكتب المدرسية وكل شيء، وليس فقط لرجال التعليم بل لكل المواطنين؛ بأي حق ينفرد رجال التعليم وهم موظفون عموميون مثلهم مثل جميع الموظفين العموميين الآخرين بمساحات تجارية للبيع والشراء مقتطعة من الفضاءات التربوية الضيقة. لو كل شريحة وظيفية من الموظفين العموميين قاموا بمثل ما يقوم به رجال التعليم لأغلق كل الباعة محلاتهم... مؤسسة محمد السادس للنهوض بالأعمال الاجتماعية على الأقل حساباتها مضبوطة بنكيا وبالفاصلة وكل مداخيلها تقتطع من ميزانية التسيير لوزارة التربية الوطنية. رساميلها ليست مستمدة من الأرباح ولا من البيع والشراء والسمسرة التي تضر بصورة رجال التعليم. إذا كانت عملية تقويم أداء المنظومة التربوية ككل رهين بهيأة وطنية للتقويم، فان عملية تقويم وإصلاح ودمج الأعمال الاجتماعية لوزارة التربية الوطنية هو الآخر رهين بخلق هيأة وطنية للأعمال الاجتماعية لرجال التعليم موحدة ومندمجة ضمن نصوص تشريعية هي الأخرى موحدة ومندمجة. كفى المغاربة مزايدات وتحايل على مستقبلهم النظيف، للتذكير فقط اليابان التي هي الأخرى ملكية برلمانية ينظمها دستور صودق عليه يوم 3نونبر1946لكي تصل إلى ما وصلت إليه حاليا-ستون جامعة مملوكة من طرف الدولة، سبعة عشرة قناة تلفزية، ستون مليون من الصحف...- قررت أن تسير ضد تاريخها، فقامت بتفكيك الجماعات المالية المعروفة بZaibatsuوهي جماعات احتكارية لم تكن تساهم في الوعاء الضريبي للدولة، مثلها مثل بعض الجماعات الاحتكارية بداخل الاقتصاد الوطني، بل لم تكن تسمح حتى للدولة بتوسيع وعاءها الضريبي. التقدم نحو المستقبل وضمن الحضارة البشرية الحالية يستدعي السير ضد مبدأ التاريخ لأن هدا الأخير غالبا ما يستعين بتجار اقتصاد الريع.