يبدو أن السؤال الذي يفرض طرحه بإلحاح اليوم، بعد مضي ما يناهز تسع سنوات ونصف على إصدار القانون التنظيمي المتعلق بالجهات، هو: ما هي أهم المعيقات التي تحول دون تحقيق المستوى المنتظر من لدن المجتمع المغربي في التنمية الجهوية وذلك بجل جهات المملكة؟ بداية، لا يمكن إنكار الدور الكبير الذي قامت وتقوم به الدولة المغربية من أجل أن تصبح التنمية الجهوية واقعا معاشا من لدن الساكنة الترابية لكل جهة من الجهات ال 12 للمملكة. ولا يحتاج الأمر إلى إبراز هذا الدور ودور الجهات والعمالات والأقاليم والجماعات والفاعلين الترابيين وغيرهم من خارج تراب كل جهة لأن الدستور يتضمّن المقتضيات القانونية السامية التي تبرز ذلك. ولأن القانون التنظيمي المتعلق بالجهات، وتنفيذا لهذه المقتضيات الدستورية ينص على العديد من المقتضيات القانونية والتدابير والإجراءات والآليات والمساطر والكيفيات التي من المفروض، إذا تم تطبيقها بشكل سليم، أن تمكّن كل جهة من تحقيق التنمية الجهوية وجعلها واقعا ملموسا لدى أبسط الناس الذين يقطنون بترابها. لكن ذلك لا يعني أن القانون التنظيمي المتعلق بالجهات (رقم 111.14) والقانونين التنظيميين المتعلقين بالعمالات والأقاليم والجماعات الصادرين في يوليوز 2015 ليسوا في حاجة إلى مراجعات وتعديلات جوهرية تمكّن في المستقبل القريب من تجاوز المعيقات القانونية الموجودة فعلا وتفتح المجال لتجاوز المعيقات الأخرى التي لا تقل أهمية عنها. وبالنتيجة، تمكّن هذه المراجعات والتعديلات من تحقيق التنمية الجهوية داخل الدائرة الترابية لكل جهة، وتمكّن من رفع التحديات الجسيمة التي تنتظر الجهات المعنية علاقة بالاستعدادات لتنظيم بلدنا لكأس القارة الإفريقية في السنة الموالية وكأس العالم في 2030. فما هي أهم المعيقات التي تحول دون تحقيق التنمية الجهوية بالمستوى الذي تنتظره ساكنة جل الجهات بتراب المملكة؟ المعيق الأول: ضعف الاستقلال المالي والإداري مازال الاستقلال المالي والإداري المنصوص عليه صراحة في المادة الثالثة من القانون التنظيمي (رقم 111.14) المتعلق بالجهات والتي تقول "الجهة جماعة ترابية خاضعة للقانون العام، تتمتع بالشخصية الاعتبارية والاستقلال الإداري والمالي، وتشكل أحد مستويات التنظيم الترابي للمملكة، باعتباره تنظيما لا مركزيا يقوم على الجهوية المتقدمة"، (مازال) ضعيفا. وليس هذا الحكم حكم قيمة، فإنه يكاد يكون إقرارا لجل المجالس الجهوية بالمملكة واستنتاجا لجل الباحثين الأكاديميين والإعلاميين بناء على دراسات وتحقيقات ميدانية وفق معايير موضوعية. وبالنتيجة، لا يمكن للجهة أن تقوم بكل المهام المنوطة بها في مجال التنمية الجهوية التي هي اختصاص ذاتي وحصري موكول لها قانونيا مع وجود محدودية الاستقلال المالي والإداري. إن الاستنجاد بالدولة في المجال المالي يترتب عنه التبعية لها. والتبعية لأية مؤسسة كانت داخلية أو خارجية، تحد من فاعلية وقرارات المقترض أو الذي تسلّم المنحة أو المنح المالية. وبالتالي، تحد من حريته. المعيق الثاني: التطبيق "الناقص" لمبدأ التدبير الحر بداية يفيد مبدأ التدبير الحر في معناه العام، شكلا من الحرية والاستقلالية في تدبير الجهات لشؤونها الاقتصادية والاجتماعية والثقافية (...). وبناء على ذلك، فإنه مبدأ يمكن من خلاله لهذه الوحدات الترابية تدبير شؤونها بنفسها، وتحديد وبلورة اختياراتها وبرامجها التنموية بكيفية مستقلة وديمقراطية. ولا يسمح بتدخل ممثلي السلطة المركزية في أنشطتها ومهامها إلا في الحدود التي ينص عليها القانون. وفي حالة بلدنا، يجد مبدأ التدبير الحر في التنظيم الترابي الوطني أصوله في مستويين من المرجعيات: في المستوى الأول: المرجعية الدستورية من خلال مقتضيات الفصل 136 من دستور 2011 الذي ينص صراحة على ما يلي: "يرتكز التنظيم الجهوي والترابي على مبادئ التدبير الحر، وعلى التعاون والتضامن (...)". وهو ما يعطي قيمة دستورية لهذا المبدأ ويجعل منه أحد مرتكزات التنظيم الترابي الجهوي، وأحد الآليات القوية التي إن تم تفعيلها بشكل كامل تمكّن من تحقيق التنمية الجهوية ببلدنا. وفي المستوى الثاني: يجد هذا المبدأ الدستوري أهم مقتضياته في القانون المنظم لشؤون الجهات (رقم 111.14). والمقصود هنا، مقتضيات المادة الرابعة من هذا القانون التنظيمي التي تنص على أن تدبير الجهة لشؤونها يرتكز على مبدأ التدبير الحر الذي يخول بمقتضاه لكل جهة، في حدود اختصاصاتها المنصوص عليها في هذا القانون التنظيمي: سلطة التداول بكيفية ديمقراطية وسلطة تنفيذ مداولاتها ومقرراتها، طبقا لأحكام هذا القانون التنظيمي والنصوص التشريعية والتنظيمية المتخذة لتطبيقه. وتجدر الإشارة هنا إلى أن الرئيس ينفذ مقررات المجلس الجهوي بعد استيفائها للشروط القانونية، وفي ذلك تنفيذ للمشاريع والبرامج والأنشطة التنموية التي يتم تدارسها وتداولها في دورات المجلس الجهوي العادية والاستثنائية. وهي المؤشر الحقيقي عن مدى استجابة هذا المجلس أو ذاك لحاجيات ومطالب الساكنة الترابية للجهة المعنية. وتترجم دسترة مبدأ التدبير الحر والتنصيص عليه في القوانين التنظيمية الثلاثة للجماعات الترابية إرادة المشرع المغربي جعل الجماعات الترابية ومنها الجهات التي تتبوّأ مكانة الصدارة بالنسبة لباقي الجماعات الترابية والصدارة لا تعني الوصاية على أية جماعة ترابية، (جعلها) مؤسسات حقيقية لا مركزية، حرة ومستقلة مقارنة بالمؤسسات الأخرى التابعة للدولة. ويتعلق الأمر هنا إذن بضمانة دستورية لحرية الجهات وباقي الجماعات الترابية الأخرى. باختصار، التدبير الحر هو حرية عامة وحق أساسي للجهات يهدف إلى ضمان استقلالية وحرية تصرفها وتدخلها من أجل إشباع الحاجات العامة في إطار الشروط المحددة من قبل المشرع. وقد حدد المشرع المغربي قواعد الحكامة المتعلقة بحسن تطبيق مبدأ التدبير الحر، نكتفي بذكر عناوينها استنادا إلى القانون التنظيمي للجهات وهي: المساواة بين المواطنين في الولوج إلى المرافق العمومية التابعة للجهة؛ الاستمرارية في أداء الخدمات من قبل الجهة وضمان جودتها؛ تكريس قيم الديمقراطية والشفافية والمحاسبة والمسؤولية؛ ترسيخ سيادة القانون؛ التشارك والفعالية والنزاهة. لكن على الرغم من التنصيص القانوني على كل ما تقدم، فإن واقع الحال يفيد بأن النتائج على الأرض هي دون طموحات المشرع. وبرأي العديد من الباحثين والممارسين على المستوى الجهوي، لا تتوفر لحد الآن الشروط اللازمة للتطبيق الذي يسمو إلى مستوى ما ينص عليه الدستور باعتباره أسمى قانون في البلاد وما ينص عليه القانون المنظم لشؤون الجهات (رقم 111.14). ومن أهم هذه الشروط: – الاستقلالية المالية للجهات التي تمكّن من تحقيق أمرين: أولهما، توفر كل رئيس جهة على سلطة القرار في ما يتعلق بتدبير مداخيل ونفقات جهته. وثانيهما، التوفر على الموارد المالية الكافية لتفادي تبعية كل جهة للدولة. – وتملّك رؤساء الجهات والمنتخبين لطرق التدبير الجديدة المنصوص عليها في القانون التنظيمي للجهات. وهي طرق تتطلب كما جاء في "رأي المجلس الاقتصادي والاجتماعي والبيئي" فهما حقيقيا لأدوار ومسؤوليات كل فاعل متدخل بالجهات. المعيق الثالث: قلة الموارد البشرية تعاني الجهات من قلة الموارد البشرية وهو ما يشكّل عائقا حقيقيا للتنمية الجهوية. والحديث هنا عن أهمية العنصر البشري الذي ينتمي فعلا لإدارة الجهة لأنه مهما بلغت درجة كفاءة مكونات "الوكالة الجهوية لتنفيذ المشاريع" التي تحدثها كل جهة لتمكين مجلسها من تدبير شؤونه، فلا يمكن أن تحل محل الموارد البشرية التي تنتمي فعلا لإدارة الجهة إذ لكل عنصر بشري الدور المنوط به. وأراهن على أن العديد من خريجي الجامعات والمدارس العليا ومعاهد التكوين المهني، يحتاجون فقط، إلى تكوين ميداني تحت إشراف أطر وكفاءات نزيهة. وهناك عامل آخر أعتبره أحد معيقات التنمية الجهوية في بعض الجهات بل في جل الجماعات الترابية وهو: ضعف التواصل الداخلي. المعيق الرابع: ضعف التواصل الداخلي مازالت مظاهر البيروقراطية وديكتاتورية بعض الأفراد تسود في بعض الجماعات الترابية بصفة عامة. مما يترتب عنه ضعف وفي بعض الأحيان انعدام الثقة بين الرئيس والمرؤوسين، وضعف المردودية، ونفور المستثمرين. ف "التواصل هو دم الحياة في المؤسسة" كما يقول "روجي إيفرت" (Roger Evert). والمقصود التواصل الناجح بين قيادات المؤسسة وأطرها وأتباعهم. إن نجاح عملية التواصل داخل الجهة وداخل باقي الجماعات الترابية لآن التنمية الجهوية عملية معقدة تحتاج إلى جهود كل الفاعلين الموجودين بتراب الجهة، يقوي روح الانتماء إليها. والقيادة المشبعة بروح التواصل، تبعث الاطمئنان في نفوس الموظفين والأطر والكفاءات المساعدة للرئيس/ للقائد/ في تسيير وتدبير شؤون الجماعة الترابية. وتكون النتيجة حتما، ترشيد وعقلنة استخدام الموارد البشرية والمادية والتجسيد الفعلي لمفهوم التدبير. وتتمكن الجهة وباقي الجماعات الترابية من جلب الاستثمار المنتج الذي من دونه لا يمكن الحديث عن نمو الاقتصاد الجهوي الذي يشكل الجانب المادي للتنمية الجهوية. المعيق الخامس: ضعف الالتقائية على الرغم من الجهود التي تبذلها المؤسسات الرسمية من أجل تحقيق الالتقائية بين كل المعنيين بعملية التنمية الجهوية فمازالت العقلية القطاعية تسيطر على أدهان العديد من الفاعلين، والقصد هنا أنه مازال كل قطاع يفكّر بمعزل عن القطاعات الأخرى في حين أن التنمية الجهوية والجهوية المتقدمة مقاربتان تفرضان العمل الجماعي والمندمج لتحقيق الالتقائية من خلال رصد التقاطعات بين المشاريع والبرامج التنموية على مستوى كل جهة وكل جماعة ترابية وحتى على المستوى الوطني. فما العمل حتى لا نقف عند ويل للمصلين؟ يبدو أننا اليوم في حاجة أكثر إلى لا مركزية حقيقية. وذلك تنفيذا لمقتضى الفصل الأول من دستور المملكة المغربية الذي ينص في فقرته الأخيرة على أن "التنظيم الترابي للمملكة تنظيم لا مركزي يقوم على الجهوية المتقدمة". والمنطق يقول، إنه لا يمكن أن يتحقق التنظيم اللامركزي المنصوص عليه دستوريا مع استمرار ضعف الاستقلالية المالية والإدارية وضعف مستوى التدبير الحر للجهات ولباقي الجماعات الترابية. من جانب آخر، يجب على كل جهة أن تعمل بشكل مستمر ومدروس لإنجاح تسويق ذاتها من خلال التسويق الناجح لمواردها وإمكانياتها الاقتصادية والطبيعية والتواصلية. وهي أمور تحتاج إلى استشارة الخبراء في مجالات الاقتصاد والتدبير والتواصل وعلوم الاجتماع والنفس والقانون والرقمنة التي تعد اليوم أحد التحديات التي نحتاج إلى رفعها في السياق الحالي للعولمة الاقتصادية والمالية. وفي تقديري، إن كل جهة في حاجة اليوم إلى إحداث خلية مختصة في مادة التسويق الترابي الجهوي يكون مقرها وعملها الدائمين بمقر إدارة الجهة. ولا شك أن بعض المجالس الجهوية وعت بأهمية الابتعاد عن الصراعات "السياسوية" الداخلية التي تكون سببا في هدر زمن التنمية الجهوية، فلا شيء يجب أن يعلو فوق مصلحة الوطن والأمة. وأخيرا، إن المشكلة الحقيقية ليست في النصوص القانونية وإن كانت بعض المقتضيات في حاجة إلى مراجعتها وتعديلها، ولا في عدد الجهات، إنها تكمن في محدودية تنزيل المقتضيات والإجراءات والتدابير والآليات والمساطر والكيفيات المنصوص عليها في الدستور والقانون التنظيمي للجهات وفي باقي القوانين المرتبطة بهما، وهو ما يعيق التنمية الجهوية ببلدنا لحد الآن. والتنزيل الفعلي يقتضي توفر شرطين: الاستقلالية المالية والإدارية للجهات (ولباقي الجماعات الترابية)؛ والتطبيق الحقيقي لمبدأ التدبير الحر. ويبقى القضاء هو السلطة الوحيدة المخوّل لها حق الفصل في كل ما يتعلق بالاختلالات وعدم احترام القانون. ولا شك أن جمع القوانين التنظيمية الثلاثة في "قانون الجماعات الترابية" ضرورة ملحة اليوم لأن أدوار الفاعلين الترابيين تكاملية في عملية التنمية الجهوية. والتنمية الجهوية هي المدخل الرئيسي للجهوية المتقدمة وهي غايتها.