بالعودة إلى التراث الطبي المحفوظ بالمكتبات والخزانات المغربية، وخاصة على مستوى الخزانة الحسنية والمكتبة الوطنية للمملكة المغربية؛ تواجه المهتم العديد من التساؤلات التي تتعلق ببنية التصنيف والفهرسة التي وُضع عليها هذا التراث الطبي، حيث يلاحظ أن الطريق الأوحد لبلوغه والاستفادة منه هو اتباع المنهج الكلاسيكي في الحصول على المعلومات والتعرف على طبيعة المصنفات. وهذا يزداد التعقيد على مستوى فعل نقل ذلك التراث الطبي والتعريف به عبر "آلية الترجمة" بشتى أشكالها، حيث تبرز إشكالية أكثر تعقيدا تتفاعل عبر المستويين التاريخي واللغوي في آن واحد. تلك الإشكالية التي تبنى في عمقها الفكري والمنهجي والإجرائي انطلاقا من التساؤل عن مدى تطور الحقل الطبي ولغته مشرقا ومغربا، في نوع من التداخل بين معطيات الألسن التي تتبلور ضمن دينامية المجتمعات. فكيف يمكن للترجمة من بعدها التاريخي إلى مجال الزمن الراهن أن تحقق مطلب نقل المعرفة الطبية مع الحفاظ على الخصوصية التاريخية للمصطلحات الطبية ودلالاتها في زمن نشأتها، سواء كان ضمن الحقبة القديمة أو الوسيطية أو الحديثة؟ بل كيف يمكن تطويع المصطلح الطبي التاريخي ليتوافق مع تطور العلم والألسن في الزمن الراهن؟ هل هو فعل مقتصر على دور "الطبيب المؤرخ" الذي قلما يجد له مكانا في الحقول المعرفية؟ أم هو أمر لصيق فعل التطبيب المستقل عن سياق الزمن التاريخي؟ تلك أهم القضايا التي تناقشها الورقة عبر مستويات فكرية متشعبة تطمح إلى فتح نقاش متكامل بين الحقول حول الترجمة والتاريخ والطب، عبر ثلاث محاور تتمثل في: المحور الأول: الترجمة الطبية وعقدة التأريخ للعلم؛ المحور الثاني: النص الطبي من نهج المترجمين القدامى إلى عقدة والمصطلح والألسن؛ المحور الثالث: التراث الطبي والترجمة بين إشكالية التصنيف وفرص التيكنولوجيا. المحور الأول: الترجمة الطبية وعقدة التأريخ للعلم من المعلوم أن الحديث عن الترجمة الطبية ليست وليدة اليوم، كما يعلم الجميع؛ لكن السؤال الذي يضع نفسه موضع الدراسة في زمننا الراهن هو تلك العلاقة القائمة بين الترجمات القديمة وبين الترجمات الحديثة، شكلا ومضمونا. فهل يحق لنا اليوم الركون في المجال الطبي المعاصر إلى الترجمات القديمة؟ أم أنه أصبح من الواجب العمل على بلورة أنموذج نوعي في الترجمة الطبية يواكب روح العصر ويأخذ بعين الاعتبار للبعد التأريخي للعلم؟ فالمؤكد أن العديد من الدراسات قد وضعت مناهج خاصة ضمن بلورة ترجمة العلوم إلى لغات تفرض نفسها في المجال العلمي والبحثي؛ غير أن هذا الجانب يضعنا اليوم أمام معضلة السبق الحضاري، حيث يتأسس عبر الأسبقية البحثية منطق التقدم أو التأخر العلمي، وخاصة على مستوى الحقول الأكثر ارتباطا بسلامة الأبدان والعقول على حد سواء. فقد يبادر البعض، وكما هو متواتر في العديد من الدراسات، إلى الحديث عن منهاج الترجمة الطبية على مستوى الطريقة اللفظية، أو الطريقة المعنوية، أو الترجمة بالتصرف؛ غير أن هذه المستويات المنهجية الثلاثة لا تحقق في نظرنا المبتغى العلمي المطلوب اليوم، لاعتبارات عديدة. أول المستويات الثلاثة إشكالية التأريخ القائمة في مجال العلوم بشكل عام، وضمن المجال الطبي بشكل خاص؛ فالعملية التأريخية للحقل الطبي أو للإنتاج العلمي الطبي يعوقها الأخذ بناصية النتائج العلمية المباشرة وتطورها، بل تجدها تركن إلى التأريخ لبيئة العالم الطبيب أكثر منه نحو التأريخ لتطور العلم، ومن ثم يتبلور عبرها إشكال آخر، وهو مدى توفر النص التراثي الطبي المترجم على ناصية العملية التأريخية، أي توفره على الشروط التي تتيح للمترجم العالم والمؤرخ الطبيب الإحاطة بحيثيات المصطلحات وشروط نشأتها في بيئتها العلمية وظروف تبلورها ضمن البعد التجريبي المؤسس للمعرفة الطبية. وبناء عليه، يصبح الجهد المبذول على مستوى ترجمة النص خارج بيئته العلمية التي أفرزته، وحددت شروط نجاح دلالاتها المعرفية المحققة لغاية التطبيب والتأريخ معا. أما المستوى الثاني المعيق لعميلة الترجمة، فيكمن في الاقتصار على تحديد ماهية النص ضمن مجال فعله الإجرائي المباشر، والذي قد يكون حاملا ضمن بنيته اللغوية لمضمون علمي أوسع وأعم بل وأعقد في غالب الأحيان. وبهذا، تصبح ترجمة النص التراثي الطبي بعيدة كل البعد بنيتها الفكرية والعلمية التي كان ينشدها الطبيب صاحب النص التراثي الطبي المعني بالترجمة، حيث يُسقط المترجم شخصية الطبيب عن النص، فيعزل بنية أفكاره عن "مزاج" المترجم، وبالخصوص عندما تصبح المعرفة الطبية للمترجم هي الموجه الأول له، وهي المحدد لتصريف المصطلح وتلوينه بلغة العصر تحت تأثير مخرجات بحثية مُسبقة قد تكون مغفلة لدى صاحب النص التراثي الأصلي. فهل كان المترجمون القدامى أكثر حظا من مترجمي الزمن الراهن؟ أم أن فعل اللغة وآليتها أصبحا يفتح المجال لتحقيق نص طبي مترجم في أحسن صفة علمية ممكنة؟ المحور الثاني: النص الطبي من نهج المترجمين القدامى إلى عقدة والمصطلح والألسن إذا كان المترجمون القدامى، على اختلاف مستوياتهم، قد باشروا فعل الترجمة الطبية عبر مداخل متعددة؛ فأنتجوا نصوصا تتباين من حيث الأهمية العلمية، فإن ذلك لا يمنع من الآخذ بناصية بعض الطرق المعتمدة قديما على مستوى فعل الترجمة، فمنها على سبيل المثال ترجمة كتاب الحشائش لديقوريدوس الإغريقي في عهد الخليفة المتوكل من اليونانية إلى العربية، حيث يلاحظ أن المترجم قد حاول قدر الإمكان أن يباشر علم النباتات ويزاوج بين المعرفة النباتية وبين المعرفة الطبية إن صح القول. بمعنى أوضح إن فعل الترجمة هنا قائم على الانغماس والانصهار في النص لغة ومعرفة؛ بل إن المترجم بعد أن استعصت عليه بعض المصطلحات لم يبادر أو يجازف بنقلها إلى العربية، تفاديا لفقدانها لمضمونها العلمي، فتركت على حالها تحقيقا لما يمكن الحديث عنه اليوم بالأمانة العلمية. والواقع أن الحديث عن تاريخ الترجمات الطبية من العصر القديم إلى العصر الحديث يقتضي بدوره مجالا أوسع، إذ يتطلب في بادئ الأمر رسم بنية دقيقة لفعل الترجمة، البعيدة عن الأحكام المسبقة أو الجاهزة، والتي يكون دافعها الأساس الفعل الإيديولوجي أكثر منه نحو البعد العلمي الدقيق، الذي يبنى على دراسة العينات بشكل مفصل ورسم معالم منظومة ترجمة التراث الطبي العربي أو اليوناني أو الصيني وغيرها من النصوص التي وضعت في المجال الطبي. كما أن العودة إلى النصوص الطبية القديم تقتضي تصنيفا مميزا ومواكبا لتصنيف الحقل الطبي بفروعه ومجالاته المختلفة والمتشعبة أحيانا. انطلاقا من التوصيف الرشدي للتاريخ في الإقرار بالحتمية التاريخية القائمة، وبخاصة أفعال الإنسان في التاريخ، فهي مرتبطة بعضها ببعض ارتباطا محكما، فإذا كانت الأشياء على حالة ما في لحظة معينة من الزمان، لم يكن لها في اللحظات السابقة أو اللاحقة إلا حالة واحدة تلائم حالتها في تلك اللحظة العينية، وهي الحتمية التي تقوم على تصور العلة والمعلول (شحن محمد زيد التميمي، فلسفة التاريخ عند ابن رشد، صفحات للدراسة والنشر، سوريا، 2010، ص. 88). وبهذا المعنى الفلسفي الرشدي للتاريخ تظهر الحاجة الماسة إلى ضرورة الحفاظ أثناء القيام بالفعل الواعي للترجمة على حتمية النص التراثي الطبي في البيئة التي أنتج فيها، وهي البيئة التي ينتجها فعل التأريخ لعلم الطب قبل النقل والترجمة، فهما آليتان للفعل الفكري غير منطبقين في الزمن التأريخي ومتكاملان على مستوى الزمن العلمي الذي أوجب عملية إعادة الإنتاج الفكري للنص التراثي الطبي المعني بالتأريخ والترجمة معا. فهل تسعف الترجمات القديمة في إدراك معاني النص التراثي الطبي وتحقيق المبتغى العلمي؟ وهل تم اليوم حصر ودراسة النصوص المترجمة وفق شروط المعرفة الطبية؟ وما هي آفاق الاستفادة من فعل الترجمة في بلوغ بنية علمية معاصرة تحدد قيمة وأهمية الإنتاج الطبي العربي والإسلامي مقابل الإنتاج الطبي الغربي بالمعنى الواسع وفق ما يمكن التعبير عنه في الزمن الراهن بالبراءة العلمية للنتائج الطبية المحصل عليها؟ المحور الثالث: التراث الطبي والترجمة بين إشكالية التصنيف وفرص التكنولوجيا ونتيجة لهذا التعقيد المنهجي على مستوى ترجمة النصوص التراثية الطبية، والاستفادة منها بمفهوم تدوروف للأنا والآخر، أي تحقيق المعرفة الطبية التي تخدم الإنسانية، يصبح التساؤل مشروعا اليوم عن قيمة ما تُرجم من النصوص سواء إلى اللغة العربية أو إلى اللغات الأخرى التي تحمل البعد العلمي، حيث يلاحظ أن هذا التراث الطبي الإنساني لم يتم إلى حدود اليوم تصنيفه بالشكل المطلوب؛ بل تم الاعتماد على المنهج الجزئي إن صح القول في الاستفاذة من هذا التراث، أي اعتماد نصوص طبية عربية وإسلامية من لدن الأوروبيين في حقب مختلفة من الزمان، والأمر ذاته بالنسبة للمسلمين في الآخذ بناصية النصوص القديمة، بل والحديثة في الزمن الراهن. بالعودة إلى تلك الترجمات، ويمكن الأخذ على سبيل المثال: كتاب الطب الجديد الكيميائي لبراكلسوس The B. Pracelsus المتوفى عام 1541م، والذي نقله إلى العربية الطبيب الموصلي محمد حلبي المتوفى في سنة 1846م، كما جاء في فهرس المخطوطات العربية في مكتبة الأوقاف العامة ببغداد تحت رقم 4/175، حيث تم ترتيب الكتاب في مقدمة وست مقالات، يشرح فيها المؤلف حاجة الطب إلى الكيمياء والغرض منها، ثم يتناول في المقالات الست كلا من: الجانب النظري من الطب، أساس الطب الكيميائي، خواص الأشياء أي أشكالها وألوانها وطعومها وقواها وغلظها ودقتها ورائحتها، ثم كيفية تركيب الأدوية واستحضارها، وعمليات التقطير والأدهان. والملاحظ أن النسخة المحفوظة بالخزانة الملكية هي بخط مغربي متوسط بمداد أسود، مع أن اسم الناسخ غير مذكور. من خلال هذا التوصيف البسيط، يتضح أن النص المترجم ترجم بعد فارق زمني من إنشائه، وهو فارق زمني ليس بالبسيط، فالحديث هنا ما بين القرن السادس عشر، تاريخ تأليف الكتاب، والقرن التاسع عشر تاريخ ترجمته، ثم يرد النص المستنسخ في زمن خارج الزمنيين. بمعنى أوضح أن المعاني التي أوردها ابن رشد في حتمية التاريخ وبيئة النص غير واردة، وهو ما يفيد في ضرورة إعادة تمحيص النص المترجم وفق شروط علمية تراعي مفهوم البيئة المنتجة للنص. وهنا، تكمن صعوبة الترجمة بمعناها الدقيق للنص التراثي الطبي. يزداد التعقيد على مستوى ترجمة النص التراثي الطبي، من خلال الأخذ بمثال آخر، متمثل في كتاب مختصر الأطباء القدماء، وهي تعريب أيضا، بمعانٍ مغايرة، إذ يحمل نصوصا تراثية طبية مختلفة من حيث بيئة التأليف أو المنشأ إن صح القول، فتعريب المضامين الطبية وفق اجتهادات الفرد، بل وفق أسلوب العنعنة، عبر توالي الزمن التاريخي دون تدقيق أو تصحيف، وهو ما يزيد من تعقيد فعل الترجمة. وتزداد الإشكالات كلما كان هناك تحامل من المترجم على النص التراثي، كما هو الحال بالنسبة للعديد من النصوص التراثية العربية التي نقلت إلى العجمية، وأفقدوها براءتها العلمية، فلم يتم تدقيقها إلا نادرا في بعض الدراسات الدقيقة والإيجابية. الواضح أن هذه الإشكالات على مستوى ترجمة النصوص التراثية الطبية عبر مختلف الألسن تقتضي إعادة التصنيف والتفكيك، لإنصاف العديد منها على مستوى النتائج العلمية التي حققتها؛ بل العمل على الاستفادة من الجانب التكنولوجي والذكاء الاصطناعي، في وضع برمجيات قادرة على تفكيك الخطوط والصيغ ومقاربة المصطلحات الطبية القديمة بالمصطلحات الحديثة، مع الاستفادة بشكل أوسع من المعاجم الطبية التي تركن إلى النصوص التراثية بشكل دقيق قادر على تجاوز معضلات التصنيف والفهرسة الكلاسيكية التي لم تعد مجدية رغم ما أدته من خدمات للتراث الطبي بشكل عام. ففعل الترجمة لن يتجاوز الفعل الإنساني الذي لم يعد بدوره قادرا على أن يسقط دور الفعل التكنولوجي، الذي يتطور بشكل سريع في الزمن الحاضر. ورقة شارك بها الباحث في أشغال النسخة الثانية عشرة للمؤتمر الدولي لفاس حول تاريخ الطب تحت عنوان «التراث الطبي في رحاب الترجمة والتحصيل المعرفي»، المنظم تحت الرعاية الملكية السامية، أيام 22 و25 أكتوبر 2024 برحاب كلية الطب والصيدلة وطب الأسنان بفاس وأروقة المدينة العتيقة. (*) أستاذ التاريخ المعاصر عضو لجنة التراث، مختص في التراث المخطوط بالمكتبات والخزانات المغربية