أمام قاعة ممتلئة بالكامل بأكاديمية المملكة المغربية نعت الأكاديمية، اليوم الخميس بالرباط، علَم الموسيقى الغرناطية أحمد بيرو، وناقشت تأسيسه فن "السماع الغرناطي"، ومسيرته الفنية الحافلة طيلة سبعة عقود، قبل رحيله شهر ماي الماضي من 2024 الجارية في سنته الثانية بعد التسعين. كما قدّمت أكاديمية المملكة، بمشاركة شخصيات أكاديمية وفنية بارزة، أحدث كتب أحمد بيرو، التي أصدرتها بعنوان: "الإضافة: لشذرات من الأمداح النبوية الشريفة لمجموع الإحاطة في أنغام غرناطة بالرواية الرباطية". علم التراث الغرناطي الأصيل عبد الجليل لحجمري، أمين السر الدائم لأكاديمية المملكة المغربية، قال إن أحمد بيرو "علم من أعلام الفن والتراث الغرناطي الأصيل"، ويأتي هذا اليوم "اعترافا بجليل أعماله؛ فهو الموسيقي والباحث الذي تخصص في الطرب الغرناطي، متتلمذا على يد كبار الموسيقيين المغاربة، من أمثال: أحمد بناني، الحسين بلمكي الحجام، الفقيه السّبيّع، المصطفى المعروفي، وعبد السلام بنيوسف، وغيرهم". وتابع لحجمري: "خلّف أحمد بيرو مؤلفا مرجعيا عن أساليب وإيقاعات الموسيقى الغرناطية، عنوانه: 'الإحاطة في أنغام غرناطة: أشعار النوبة الغرناطية بالرواية الرباطية'، أصدره سنة 2013، بعدما قضى في تأليفه ما يناهز الثلاثين سنة، جمعا وبحثا وتدقيقا وتصنيفا". واستحضر أمين السر الدائم للأكاديمية "بصمات مضيئة" تركها الفقيد، وتعكس في جوهرها "مدرسة مغربية أصيلة في النظم والإنشاد"، هي جزء من معالم "موروث ثقافي وموسيقي يُعتبر أحد أوجه التاريخ المشترك الذي ربط المغرب بالأندلس، وهي الأوجه التي مازالت حاضرة إلى اليوم ونلحظها في فنون العمارة، والطبخ، واللباس، وأسماء العائلات، وما سواها". وذكر المتحدث ذاته أن الاحتفاء بذكرى وذاكرة بيرو يأتي في سياق نهج الأكاديمية الذي يروم تنمية الإبداع الفني عن طريق الاعتناء بالفنون والتراث المغربي بمختلف روافده وتعبيراته، وهو ما أُنشئ لتحقيقه "المعهد الأكاديمي للفنون"، الذي عُهدت إليه مهمة تنمية الإبداع والاعتناء بالفنون والتراث الفني المغربي بكل أشكاله، وتنوع مكوناته، حفْظا وتثمينا وتعريفا. ومع استحضار المواضيع المتعددة لقصائد الطرب الغرناطي، المثرية للمشهد الغنائي والمجسّدة ل"أصالة الثقافة الأندلسية"؛ من غزل، رثاء، حكمة، زهد، ووصف للطبيعة، استدرك عبد الجليل لحجمري بأن الطابع الغالب على هذا الطرب "مسحة واضحة من نغمات الحزن، في تعبيرها عن مشاعر الفقد، والأسى، واستعادة ذكريات جميلة من الماضي، تشعل مشاعر الشوق والحنين إلى أشخاص وأماكن في جوهرها اشتياق لغرناطة وسحرها الفاتن"، وشدّد على أن جمع وتحقيق وتدوين التراث الموسيقي الغرناطي "مهمة ثقافية هامة"؛ لحفظه الغني للأجيال القادمة، علما أنه "بُذلت جهود كبيرة عبر السنين لجمع القطع الموسيقية الغرناطية وتدوينها وتحقيقها من المتخصصين". ونادى أمين سر أكاديمية المملكة ب"تشجيع البحث والدراسة في هذا التراث"؛ لأن ذلك "ضرورة ملحة" لحفظه، مع تسجيله انخراطَ الأكاديمية، عبر المعهد الأكاديمي للفنون و"كرسي الأندلس" في "بحث ما بين المغرب وإسبانيا من إرث حضاري مشترك؛ لأنه لا يمكن الحديث عن حوار الحضارات من دون ذكرى ما نسجاه من صرح طلائعي في السياسة والثقافة". كما نبّه المتحدث إلى ضرورة التربية الفنية للأجيال الصاعدة من أجل "غرس حب هذا التراث" في نفوسهم، وحفظه من الاندثار، ودعم صناعة الآلات الموسيقية الأندلسية، وورش عمل تطوير مهارات الموسيقيين الشباب في الفن الغرناطي، والفن الأندلسي بشكل عام، ما يتطلب تضافر جهود مؤسسات ثقافية، وفنانين، ومثقفين، والجمهور، كما تقع مسؤوليته أيضا على الأجيال القادمة للتعرف على هذا الفن الأصيل والمساهمة في الحفاظ عليه. واستحضر لحجمري عمل الأكاديمية، عبر المعهد الأكاديمي للفنون، لإصدار "الإضافة"، آخر كتب أحمد بيرو، والعمل على "إخراجه في أبهى حلة للباحثين والدارسين"، لما يوفره من "مادة خصبة" نظرا لما تمثله قصائده من "عبقرية شعراء الأندلس، وروعة إبداعاتهم"، فضلا عن التزامها ب"الوزن والقافية، ما يضفي عليها نغمة موسيقية ساحرة، وتناغما لفظيا يزيد من جمالها وروعتها". ثم ختم أمين سر أكاديمية المملكة المغربية كلمته، داعيا إلى العمل الجماعي من أجل "مواصلة الاعتناء بهذا الفن الأصيل، ضمانا لاستمراره للأجيال الآتية، بما هو فنّ نشأ بالأندلس خلال العصور الوسطى، وتطوّر على مرّ القرون ليظلّ حاملا نبرة مغربية مميّزة وخالدة". مؤسسة أحمد بيرو للطرب الغرناطي في كلمة أسرة الفقيد أحمد بيرو شكر نجله محمد بيرو الملك محمدا السادس على "التفاتته النبيلة ببرقية تعزية"؛ كان لها "أثر طيب في قلوبنا جميعا، خففت الحزن وأحسسنا بأننا لسنا وحيدين أمام المصاب الجلل"، كما شكر أكاديمية المملكة المغربية، على رسالة المواساة والتعازي التي أرسلها أمين سرها الدائم، ومبادرة تنظيم الحفل التأبيني اعترافا بمجهودات الفقيد، و"مساهمته القيمة للحفاظ على الطرب الغرناطي بالمملكة وتطويره". وأكبر محمد بيرو اطّلاع أبيه على نسخة آخر كتبه التي طبعتها أكاديمية المملكة (الإضافة) قبل وفاته، وتصحيحه، إذ كان ذلك "فسحة سرور وابتهاج واعتزاز في خضم معاناته مع المرض". وأعلن المتحدث "إنشاء مؤسسة أحمد بيرو للطرب الغرناطي"؛ "للحفاظ على مدرسته في الطرب الغرناطي بالرواية الرباطية، وإنشاء مدرسة مخصصة للطرب الغرناطي بطريقة أكاديمية، وإنشاء فرقة موسيقية تحمل اسمه، وتجميع كل تسجيلات الطرب الغرناطي بالرواية الرباطية، وتسجيلات جديدة لها"، وحثّ المؤسسات الثقافية والفنية المسؤولة والمدنية، وعلى رأسها وزارة الثقافة، على دعم هذه المؤسسة من أجل "تخليد المدرسة الغرناطية للرباط والحفاظ عليها". ثم قال المتحدث ذاته: "الراحل كان رجلا استثنائيا مسالما، يجمع ولا يفرّق، يعشق بلده وقيمه الكريمة، متخذا عالم الطرب الغرناطي مطية لذلك (...) أب تميز بشخصية العطف والرقة والحنان والحزم والمسؤولية (...) معلم ومرب حريص على التربية السليمة الأصيلة المنسجمة مع المجتمع المغربي بقيمه الأصيلة، أساسها التواضع، واحترام العائلة والبيئة التي نعيش فيها، والبساطة"، وزاد: "في جانب التجارة تميز بتواصل إيجابي، وكان متجَرُه مدرسة للحياة الواقعية، بفن للتواصل مع الناس بكل احترام، وتقديم خدمة ممتازة بغض النظر عن القيمة الاجتماعية للزبون، والاستشارة الصادقة كذلك، واتقاء الله". أما جانب الفن في شخصيته فقد كرّس له جلّ حياته، و"عشقَه وخاض في بحوره، وصار بالنسبة له نهج حياة". وواصل الشاهد: "كم كنا محظوظين للاستماع لصوته المتفرد، وهو يصدح بما حفظته ذاكرته الحادة من الأشعار الأندلسية، بصنائع رباطية منسقة، وكان عاشقا كبيرا للموسيقى الكلاسيكية، بارعا في أغاني عبد الوهاب وأم كلثوم وغيرهما، وبدأ مساره بحفظ القرآن والتفسير على يد شيخه عثمان جوريو، بزاوية سيدي قاسم بالرباط، وظلّ حريصا على تلاوة القرآن إلى آخر حياته؛ وكان جوريو من اكتشف صوته، ثم تتلمذ وحفظ الصنايع على يد أحمد بناني، والحسين حجام، والمرحوم وحميدو الشافعي، وأخذ بعدهم على عاتقه أمانة الحفاظ على هذا التراث". ثم أردف المتحدث: "سعى منذ ستينيات القرن العشرين إلى تسجيل الموروث الشفهي الذي أخذه بصيغته وقواعده الأصيلة من شيوخه، وقام بالتدوين والنشر حسب ما تيسر له، في ثلاثة مؤلفات أخذت منه سنوات طوالا من الحياة، أصدرتها على التوالي جمعية رباط الفتح، ووكالة المغرب العربي للأنباء، وأكاديمية المملكة المغربية". وحمل بيرو، وفق الشاهد؛ "جسامة الحفاظ على هذا التراث والوقوف ضد كل محاولات تحريفه عن قصد أو إهمال؛ وبذل قصارى الجهد في البحث والتدريس، بشكل لا مشروط، وطوال مسيرته الفنية ظل يعترف بفضل أساتذته وشيوخه، وبقي بيته مفتوحا على مصراعيه كزاوية لكل من أراد تعلم الطرب الغرناطي، بعطاء دون انتظار مقابل، كان تنفيذا لنصيحة والده (...) مع تغلب على صعوبات وتحديات كثُرت، بصمت وشجاعة وكياسة، حيث ظل يعمل بصمت في إخلاص وكل تفان (...) ما جعله نموذجا يحتدى في تحقيق الأحلام مهما صعبت، إذا آمنا بها".