ترامب يهدد بمحاولة استعادة قناة بنما    هيئة المعلومات المالية تحقق في شبهات تبييض أموال بعقارات شمال المغرب    المغرب يخطط لإطلاق منتجات غذائية مبتكرة تحتوي على مستخلصات القنب الهندي: الشوكولاتة والدقيق والقهوة قريبًا في الأسواق    تشييع جثمان الفنان محمد الخلفي بمقبرة الشهداء بالدار البيضاء    فريق الجيش يفوز على حسنية أكادير    شرطة بني مكادة توقف مروج مخدرات بحوزته 308 أقراص مهلوسة وكوكايين    دياز يساهم في تخطي الريال لإشبيلية    فرنسا تسحب التمور الجزائرية من أسواقها بسبب احتوائها على مواد كيميائية مسرطنة    المغرب يوجه رسالة حاسمة لأطرف ليبية موالية للعالم الآخر.. موقفنا صارم ضد المشاريع الإقليمية المشبوهة    المغرب يحقق قفزة نوعية في تصنيف جودة الطرق.. ويرتقي للمرتبة 16 عالميًا    حفيظ عبد الصادق: لاعبو الرجاء غاضبين بسبب سوء النتائج – فيديو-    وزارة الثقافة والتواصل والشباب تكشف عن حصيلة المعرض الدولي لكتاب الطفل    فاس.. تتويج الفيلم القصير "الأيام الرمادية" بالجائزة الكبرى لمهرجان أيام فاس للتواصل السينمائي    التقدم والاشتراكية يطالب الحكومة بالكشف عن مَبالغُ الدعم المباشر لتفادي انتظاراتٍ تنتهي بخيْباتِ الأمل    مسلمون ومسيحيون ويهود يلتئمون بالدر البيضاء للاحتفاء بقيم السلام والتعايش المشترك    الرجاء يطوي صفحة سابينتو والعامري يقفز من سفينة المغرب التطواني    العداء سفيان ‬البقالي ينافس في إسبانيا    جلالة الملك يستقبل الرئيس الموريتاني محمد ولد الشيخ الغزواني    بلينكن يشيد أمام مجلس الأمن بالشراكة مع المغرب في مجال الذكاء الاصطناعي    وقفة أمام البرلمان تحذر من تغلغل الصهاينة في المنظومة الصحية وتطالب بإسقاط التطبيع    الولايات المتحدة تعزز شراكتها العسكرية مع المغرب في صفقة بقيمة 170 مليون دولار!    الجزائر تسعى إلى عرقلة المصالحة الليبية بعد نجاح مشاورات بوزنيقة    انخفاض طفيف في أسعار الغازوال واستقرار البنزين بالمغرب    رسالة تهنئة من الملك محمد السادس إلى رئيس المجلس الرئاسي الليبي بمناسبة يوم الاستقلال: تأكيد على عمق العلاقات الأخوية بين المغرب وليبيا    مباراة نهضة الزمامرة والوداد بدون حضور جماهيري    رحيل الفنان محمد الخلفي بعد حياة فنية حافلة بالعطاء والغبن    لقاء مع القاص محمد اكويندي بكلية الآداب بن مسيك    لقاء بطنجة يستضيف الكاتب والناقد المسرحي رضوان احدادو    بسبب فيروسات خطيرة.. السلطات الروسية تمنع دخول شحنة طماطم مغربية    غزة تباد: استشهاد 45259 فلسطينيا في حرب الإبادة الإسرائيلية على غزة منذ 7 أكتوبر 2023    مقاييس الأمطار المسجلة بالمغرب خلال ال24 ساعة الماضية    ندوة علمية بالرباط تناقش حلولا مبتكرة للتكيف مع التغيرات المناخية بمشاركة خبراء دوليين    الرباط.. مؤتمر الأممية الاشتراكية يناقش موضوع التغيرات المناخية وخطورتها على البشرية    البنك الدولي يولي اهتماما بالغا للقطاع الفلاحي بالمغرب    ألمانيا: دوافع منفذ عملية الدهس بمدينة ماجدبورغ لازالت ضبابية.    بنعبد الله: نرفض أي مساومة أو تهاون في الدفاع عن وحدة المغرب الترابية    تفاصيل المؤتمر الوطني السادس للعصبة المغربية للتربية الأساسية ومحاربة الأمية    أكادير: لقاء تحسيسي حول ترشيد استهلاك المياه لفائدة التلاميذ    استمرار الاجواء الباردة بمنطقة الريف    خبير أمريكي يحذر من خطورة سماع دقات القلب أثناء وضع الأذن على الوسادة    حملة توقف 40 شخصا بجهة الشرق    "اليونيسكو" تستفسر عن تأخر مشروع "جاهزية التسونامي" في الجديدة    ندوة تسائل تطورات واتجاهات الرواية والنقد الأدبي المعاصر    استيراد اللحوم الحمراء سبب زيارة وفد الاتحاد العام للمقاولات والمهن لإسبانيا    ارتفاع حصيلة ضحايا الحرب في قطاع غزة إلى 45259 قتيلا    القافلة الوطنية رياضة بدون منشطات تحط الرحال بسيدي قاسم    سمية زيوزيو جميلة عارضات الأزياء تشارك ببلجيكا في تنظيم أكبر الحفلات وفي حفل كعارضة أزياء    لأول مرة بالناظور والجهة.. مركز الدكتور وعليت يحدث ثورة علاجية في أورام الغدة الدرقية وأمراض الغدد    وفاة الممثل محمد الخلفي عن 87 عاما    دواء مضاد للوزن الزائد يعالج انقطاع التنفس أثناء النوم    المديرية العامة للضرائب تنشر مذكرة تلخيصية بشأن التدابير الجبائية لقانون المالية 2025    أخطاء كنجهلوها..سلامة الأطفال والرضع أثناء نومهم في مقاعد السيارات (فيديو)    "بوحمرون" يخطف طفلة جديدة بشفشاون    للطغيان وجه واحد بين الدولة و المدينة و الإدارة …فهل من معتبر …؟!!! (الجزء الأول)    حماية الحياة في الإسلام تحريم الوأد والإجهاض والقتل بجميع أشكاله    عبادي: المغرب ليس بمنأى عن الكوارث التي تعصف بالأمة    توفيق بوعشرين يكتب.. "رواية جديدة لأحمد التوفيق: المغرب بلد علماني"    توفيق بوعشرين يكتب: "رواية" جديدة لأحمد التوفيق.. المغرب بلد علماني    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



العولمة والتحولات الجيوسياسية
نشر في هسبريس يوم 01 - 03 - 2024

درج أغلب المتحدثون في العلاقات الدولية على اعتبار الوطن العربي منطقة تنتمي إلى دول العالم الثالث، أو الدول المتخلفة، الهامشية التي تعيش واقعا مفروضا عليها، خصائصه هي التوترات والنزاعات والمشاكل والهجرة القروية والدولية. الأمر الذي يجعل هؤلاء يعتبرون الوطن العربي خارج الحسابات الجيوسياسية، يتحمل أعباء موازين القوى بين الدول العظمى في منظومة العلاقات الدولية الجارية.
هذه الرؤية القدرية التي ترى العالم العربي يعيش حتمية علاقات القوة، لم تعد قادرة على فهم التطورات التي تعرفها الشعوب العربية بتفاعلها مع المحيط الدولي، وتطور إمكانياتها العلمية والثقافية والبشرية. إنها رؤية استعمارية بائدة، واستاتيكية للعلاقات الدولية، تنطلق من القوة العسكرية والمالية للدول العظمى، لتفهم باقي الدول، ومنها الدول العربية، على أنها تابعة وخاضعة وفق خطاطة تحليلية تبسيطية.
وتزداد هذه الرؤية بعدا عن الواقع الحي للوطن العربي، كلما استحضرنا نتائج وتأثيرات وتناقضات العولمة المتصاعدة باستمرار في كل أرجاء المعمور. باعتبارها السياق التاريخي المحدد لنشأة وتطور وفهم قضايانا المعاصرة وعلى رأسها العلاقات الدولية.
صحيح أن البشرية قذ عرفت دائما درجة معينة من التواصل وربط العلاقات بين مكوناتها في مختلف بقاع العالم. إلا أن اليوم، وبفضل التقدم العلمي والتقني وثورة وسائل الاتصال والتواصل ووفرة الإنتاج والخدمات، فإن هذه الدرجة قد وصلت إلى مستوياتها القصوى لتترابط الشعوب والدول أكثر من ذي قبل وفي كل المجالات. لذلك كثر الحديث منذ أكثر من ثلاثة عقود عن ظاهرة العولمة كخلفية أساسية ومركزية تؤطر مرحلتنا التاريخية الراهنة بكل قضاياها المعقدة وعلى رأسها العلاقات الدولية.
1- إذا كان من الصعب إيجاد اتفاق واضح على طبيعة ومقومات ظاهرة العولمة، فإننا نستطيع أن نتفق على الأعراض التي تمثلها وتؤشر على تأثيرها كعامل محدد للعلاقات الدولية، وللإرادة التي تنشط في مختلف الدول العربية لكي تفرض نفسها على الساحة الدولية. ويمكن أن نحدد ثلاثة أعراض أساسية تعبر عن خصوصية ظاهرة العولمة وهي كالتالي:
– الإدماج والتضمين: inclusion
– الترابط والتفاعل: interdépendance
– الحركية: mobilité
– الإدماج والتضمين (L'inclusion) يعني في الإجمال أن كل الشعوب في قارب واحد. في السابق كانت شعوب العالم تتجاوز وتتقارب بهذا الشكل أو ذاك. اليوم هي موحدة ومندمجة، أي أنها تعيش في منظومة من العلاقات الدولية توحد اقتصادات مختلفة ومتفاوتة في نموها بشكل كبير. الأمر الذي قاد العديد من الاقتصاديين إلى القول إن التضمين والإدماج الذي جاءت به العولمة عمق بشكل مهول اللامساواة بين الدول والشعوب، مما جعل هذه اللامساواة في الدخل والنمو الاقتصادي تصبح إحدى الرهانات الكبرى للعلاقات الدولية بدل كل الرهانات الاستراتيجية التقليدية.
– الترابط والتفاعل(Interdépendance) تشير إلى أن الكل تابع للكل. دولة عظمى عسكريا، تحتاج لدولة صغيرة أمام التفاعلات المعقدة علميا واقتصاديا وبيئيا، أصبحت الدول في العالم اليوم تخضع لإكراهات منظومة العلاقات أكثر مما تخضع لأهدافهم الخاصة. فدولة صغيرة مثل تايوان لها أهمية كبيرة في مجال الثورة الرقمية التي يعيشها العالم. فما يسمى بصناعة الرقائق الإلكترونية لها أهمية استراتيجية أكبر في نسيج الصناعة الأمريكية. الأمر نفسه يمكن أن يلاحظ في ملفات الغذاء، والبيئة، والطاقة......
– الحركية (mobilité)وهي ظاهرة نقلت العالم من صورة العالم الثابت إلى عالم متحرك. فالثورة التي أحدثت في مجال التواصل والاتصال جعلت الحدود بين الدول والشعوب.
2- تسطر في الخرائط الورقية أكثر مما هي واقع فعلي. فهجرة اليد العاملة، الأدمغة، الأفكار والتقنيات والمعدات، صارت واقعا يوميا في عالمنا اليوم.
أمام هذه العوامل الثلاث المشكلة للعولمة فإن العلاقات الدولية لم تعد بالوضوح الذي كانت عليه في السابق. إذ عرفت عدة تحولات كان الوطن العربي مسرحا لها، وأحد المناطق المعبرة عنها.
ولفهم واقع الوطن العربي في العلاقات الدولية القائمة، لا بد لنا من العودة ولو باختصار لتاريخ العلاقات الدولية التي عاشتها هذه المنطقة. إذ باستحضار معالم هذا التاريخ سنفهم بشكل أفضل اللحظة الراهنة التي يمر منها وطننا العربي.
يتفق كل الدارسين على أن الوطن العربي، مثله مثل باقي الدول المسمات اليوم دول الجنوب، مر من ثلاث مراحل كبرى أساسية في تاريخه الحديث. وهي المراحل التالية:
– المرحلة الأولى هي مرحلة التحرر الوطني وتحقيق الاستقلال.
– المرحلة الثانية هي مرحلة الحرب الباردة وسياسة الأقطاب.
– المرحلة الثالثة هي مرحلة العولمة.
المرحلة الأولى التي هي مرحلة التحرر الوطني وبناء الدولة المستقلة، شكلت اللحظة التاريخية الأولى في تاريخ الوطن العربي التي صعدت فيها شعوبه لمسرح السياسة الدولية، ورفعت على أكتافها زعامات سياسية وطنية تعبر عن مطالب الاستقلال والتحرر من سيطرة الأجنبي. لمجرد حصول أغلب الدول العربية على الاستقلال الوطني ابتدأت حركة مطلبية تقوم على الحق في السلم والاستقلال والتنمية. هكذا شاركت العديد من الدول العربية في لقاء آسيوي إفريقي سمي بلقاء باندونغ (إندونيسيا) سنة 1955 وشارك فيه المغرب رغم أنه لم يحصل بعد على استقلاله، ومثله، بأمر من جلالة المغفور له محمد الخامس، الزعيم علال الفاسي. بعد هذا اللقاء التاريخي سادت داخل الوطن العربي عقيدة سياسية تحدد العلاقات.
3- الدولية على أساس مبدأ عدم الانحياز، وصارت العلاقات الدولية وفق خطاطة ثلاثية، قطب رأسمالي غربي، قطب اشتراكي، ثم قطب دول عدم الانحياز التي تطمح لنموذج جديد في الاقتصاد. لذلك ظهرت في مؤتمر سنة 1975 في مؤتمر عدم الانحياز سنة 1975فكرة المطالبة بنظام اقتصادي جديد يتخلص من سيطرة الدول الأوروبية. خاصة وأن كل المقومات الاستراتيجية للاقتصاد الحديث موجودة بأراضي دول الجنوب (بترول، غاز، معادن نفيسة، يد عاملة شابة......).
المرحلة الثانية وهي التي ابتدأت مع نهاية الحرب العالمية الثانية، وطبعت أساسا بانقسام الوطن العربي بين دول تقف وراء القطب الاشتراكي، ودول تقف وراء القطب الرأسمالي. في مناخ الحرب الباردة بين الاتحاد السوفياتي سابقا، والولايات المتحدة الأمريكية. فكل مجهودات المرحلة الأولى الرامية لتكريس سياسة عدم الانحياز وخلق توازنات للسلم والاستقرار والتنمية من قبل دول الجنوب ومنها الدول العربية، لم تجد عند الدول العظمى في الشمال سوى الإهمال والتبخيس.
لقد سادت لدى الدول العظمى تصورات قبلية وأحكام مسبقة حول العالم العربي باعتباره عالم لا يستحق الاهتمام إلا من أجل ثرواته الطبيعية. إنه العالم الثالث، المتخلف، مصدر الهجرة والمشاكل....
وأقصى ما استطاعت الدول العربية الحصول عليه ومعها كل دول الجنوب، هو خلق منظمة الأمم المتحدة للتجارة والتنمية سنة 1964، التي حاولت التفاعل مع مطالب التنمية الاقتصادية ثم منظمة برنامج الأمم المتحدة للتنمية المعروفة ب PNUD سنة 1965.
ومع تصاعد حضور مطالب الدول العربية، ومعها كل دول الجنوب، على الساحة الاقتصادية الدولية لم يكن أمام الدول الغربية المتقدمة سوى خلق تحالفات مصغرة عبارة عن أندية ديبلوماسية اقتصادية مثل مجموعة السبع (G7) التي أنشأت سنة 1976 (1975 تأسست G6 واستدعيت كندا في ما بعد لتعرف منذ ذلك التاريخ ب G7) إنها أندية اقتصادية تضم دول تقدم نفسها على أنها الأكثر غنا وقوة وذكاء من باقي دول العالم.
4- أمام هذا التهميش الذي قوبلت به الدول العربية وهي تبحث لنفسها عن مكانة اقتصادية على الساحة الدولية، وأمام سيطرة مقتضيات الحرب الباردة وسياسة الردع النووي، توزعت الدول العربية بين من انحاز إلى القطب الاشتراكي، ومن انحاز للقطب الرأسمالي للبحث عن مساعدات مالية واقتصادية ولوجستيكية تمكن شعوبها من الإقلاع الاقتصادي.
المرحلة الثالثة هي التي ابتدأت عندما قال رئيس الاتحاد السوفياتي سابقا غورباتشوف سنة 1989 للرئيس الأمريكي بوش الأب، بأن الاتحاد السوفياتي لم يعد معني بالمنافسة النووية بين البلدين. لتجد الدول العربية نفسها، سواء تلك التي تدور في فلك الاشتراكية أو تلك التي تدور في فلك الرأسمالية. في وضعية تقف فيها أمام مستقبلها وحيدة دون حماية. وما سمي في هذه المرحلة بنهاية التاريخ، هو في الواقع نهاية حقبة من تاريخ العلاقات الدولية كانت فيها الدول العربية تضمن مسبقا المساعدة والحماية من هذا القطب أو ذلك.
لقد شكلت نهاية الحرب الباردة واختفاء الاتحاد السوفياتي محطة دخول العلاقات الدولية في سياق جديد هو سياق العولمة المطبوع بعوامل متميزة كالإدماج في اقتصاد واحد والعيش في ترابطات معقدة ودائمة بين الدول والشعوب، وفي حركية قوية لرؤوس الأموال والبشر والتقنية والأفكار...
ولعل الحرب الروسية الأكرانية جاءت لتكثف التحول الدي عرفته العلاقات الدولية مند نهاية الحرب الباردة. فمع العولمة اتضح للدول التي خرجت منتصرة من مرحلة الحرب الباردة أنها رغم قوتها العسكرية والمالية والاقتصادية تحتاج لدول أضعف منها وأصغر منها، في الطاقة كما في التجارة وفي البيئة كما في السياسة الأمنية وضبط الهجرة والتعاون الدولي.
وعندما انطلقت أول شرارة للحرب الروسية الأكرانية رأت فيها دول العالم العربي حربا لا تعني سوى المصالح الأوروبية والغربية، وبالتالي فإنها ليست مجبرة على الاصطفاف وراء طرف ضد طرف آخر.
إن تجربة المرحلتين السابقتين اللتين عاشهما الوطن العربي، مرحلة التحرر والاستقلال، ومرحلة التهميش التي عانى منها إبان الحرب الباردة، علمتاه كيف يبني استراتيجية جديدة في صراع العلاقات الدولية. فمن سياسة عدم الانحياز إلى سياسية الانحياز لهذا القطب أو ذاك، نجد الدول العربية اليوم، مع كل التحولات العلمية والعسكرية والاقتصادية والإيديولوجية تنهج سياسة تعدد الانحياز وفق مصالح كل دولة، ووفق مقتضيات الرهانات الإقليمية والاستراتيجيات التنموية.
لقد فهم العالم العربي (باستثناء حكام جارتنا الشرقية) أن منطق العلاقات الدولية اليوم داخل سياق العولمة، لم يعد هو ذلك المنطق الدي ساد في نهاية القرن التاسع عشر حيث قال بسمارك عبارته الشهيرة (العلاقات الجيوسياسية أمر سهل، اثنان ضد والانحياز حد) بمعنى أن منطق التحالفات لم يعد بسيطا يعتمد الغلبة والقوة فقط. بل أصبحت العلاقات الدولية متشابكة ومعقدة مطبوعة بتعدد الانحياز والتحالفات.
ولعل هده المنظومة الجديدة للعلاقات الدولية هي التي ابتدأت تتشكل مند نهاية الحرب العالمية الثانية. إذ منذ هذا التاريخ والعالم لم يشهد انتصارا عسكريا لدولة عظمى وقوية على شعب ضعيف وفقير. وهي المنظومة التي أصبحت اليوم واضحة ومسيطرة، حيث القوة العسكرية لا تنعكس على طبيعة التحالفات الدولية والإقليمية. بل إن القوة في منظومة العلاقات الدولية الحالية لم تعد تقاس بالحديد والنار، بل بعوامل علمية وثقافية وإنسانية أصبحت لها أهمية في صياغة الاستراتيجيات الجيوسياسية. فالرقائق الإلكترونية كتقدم علمي صناعي بوأت التايوان مكانة جيوسياسية مهمة أمام تهديدات العملاق الصيني. الروابط الروحية والثقافة الوطنية الراسخة لدى المغاربة مكنت المغرب من كسر كل مناورات أعداء وحدته الترابية وأقنعت العديد من الدول بمشروعية مغربية صحرائه.
لقد فرضت التحولات التي عرفتها منظومة العلاقات الدولية مع العولمة، على الدول العربية أن تختار سياسات دولية دون دوغمائية إيديولوجية، وباستنارة من مصالحها الوطنية والإقليمية في التنمية والتقدم. إذ أن هذه التحولات جعلت العلاقات الدولية تستند على قوة الثقافة والروابط الاجتماعية والعمق الإنساني، في ارتباط وثيق بمطالب التنمية وردم هوة اللامساواة بين الدول.
6- والوطن العربي لم يعد تلك المنطقة المتخلفة، الثالثية، المهمشة في الحسابات الجيوسياسية.
إذ استطاعت الكثير من الدول تقوية مكانتها وتجويد مطالبها باعتماد على سياسة تعدد الأقطاب المبنية على تحالفات محلية وإقليمية. هكذا نلاحظ دولة كالمملكة العربية السعودية تنخرط في تنويع تحالفاتها سواء إقليميا بين الانتماء لمجلس التعاون الخليجي وفي الآن نفسه التحالف مع إيران، أو دوليا بالحفاظ على تحالفاتها التقليدية مع الولايات المتحدة الأمريكية، والانفتاح في الوقت نفسه على الانخراط في المجموعة الاقتصادية "البريكس" التي تتزعمها الصين وروسيا. الاستراتيجية نفسها نلاحظها عند دولة عربية أخرى لا تقل أهمية هي جمهورية مصر العربية، إذ نجدها في تحالف إقليمي مع الأردن والعراق في ما سمي ب "الشام الجديد" من جهة، وتحالف إقليمي مع الأردن والإمارات في ما سمي ب "الشراكة الصناعية" وفي الآن نفسه نجدها في تحالف مع روسيا وإيطاليا والإمارات في الملف الطاقي، إلى جانب علاقتها الوطيدة مع الولايات المتحدة الأمريكية منذ الفترة الرئاسية لأنور السادات. نفس الاستراتيجية المعتمدة على تعدد الأقطاب نجدها عند دولة قطر التي تعد البلد الذي يتمتع بعلاقات دولية جيدة مع روسيا والولايات المتحدة الأمريكية وتركيا إلى جانب حضورها القوي في التحالفات العربية الإقليمية والآسيوية. ولم يخرج المغرب عن هدا الأفق الاستراتيجي، إذ نجده هو الآخر ما فتئ ينوع في علاقته الدولية مع مختلف الدول الإفريقية والعربية والغربية. لقد نشط حضوره الإفريقي بين الدول الإفريقية ليس فقط باتفاقيات التعاون الاقتصادي والتنموي، بل كذلك بإشعاعه الروحي والثقافي. هذا إلى جانب أنه استطاع انتزاع اعتراف حليفته التقليدية الولايات المتحدة الأمريكية بمغربية صحرائه، وأن يطور علاقاته مع الجارة إسبانيا ويكون له حضور وازن في الحوار السياسي الوزاري العربي الياباني.
فبفضل ذكاء الديبلوماسية المغربية في تحصين كل مواردها السياسية والثقافية في اتجاه تنويع علاقاتها مع دول العالم. استطاع المغرب أن يطالب بعلاقات دولية تنبني على مشروعية مغربية صحرائه.
7- هكذا فعلى الرغم من الظروف الدولية المتأزمة في المرحلة الراهنة، وتداعياتها الكبيرة على كافة مناطق العالم، وفي القلب منها المنطقة العربية، تبدو وضعية العلاقات الدولية اليوم، فرصة مهمة للعرب في العديد من المسارات، تتمثل أولا في مسار بناء التعاون العربي – العربي لتجاوز الخلافات الراهنة، وثانيا في مسار بناء العلاقات الدولية في اتجاه تعزيز دور أكبر على المستوى العالمي. وهي مسارات مرتبطة ببعضها وإلى حد كبير.
حيث ينظر إلى العلاقات العربية العربية بمثابة مدخل أساس لتحقيق علاقات أقوى مع المحيط الدولي، خاصة في ظل عالم يتشكل من جديد، وتحالفات في طور البناء وشيوع حالة من الشك وعدم اليقين في السياسات الدولية للدول العظمى على خلفية الارتباك الكبير في العلاقات بين عناصره في السنوات الأخيرة. وهو الارتباك الدي تأجج أكثر مع اندلاع الأزمات الأخيرة وأكبرها الحرب الروسية على أكرانيا، والحرب الإسرائيلية على غزة.
ولقد تجلى تأقلم الدول العربية مع هدا الوضع الدولي المتقلب والمأزوم في تبني مختلف هده الدول لاستراتيجية دولية أسميناها تعدد الانحياز وهي التسمية التي اقتبسناها من تصريحات وزير خارجية الهند الحالي عشية انعقاد اجتماع وزراء خارجية مجموعة العشرين في مارس الماضي بالعاصمة الهندية.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.