اليوم وبعد أن وضعت أزمة التعليم أوزارها، بعودة المحتجين من ساحات النضال، إلى الفصول الدراسية مثنى وثلاث ورباع... كنا نأمل أن تكون العودة، عودة ميمونة تليق بالفاتحين والمنتصرين، لكن حولها النضال الأعمى والاندفاع الفاقد للبوصلة، إلى عودة بنكهة الخيبات وطعم التراجع والاخفاق. اعترفنا في أكثر من مقال، أن النضال كان بهيا في أسابيعه الأولى، وما تحقق من تنازلات ومكاسب، ما كان له أن يتحقق لولا قوة النضال ومشروعيته، ولولا اصطفاف المجتمع ومختلف قواه الحية، وخاصة أمهات وآباء وأولياء التلاميذ، إلى جانب الشغيلة التعليمية، في معركتها غير المسبوقة بحثا عن الكرامة الضائعة، بعد أن تقوى الإحساس الفردي والجماعي، بما وصلت إليه مهنة التدريس، من بؤس و"حكرة" وحيف وإقصاء، وما بات عليه واقع حال المدرسة العمومية، من تراجع ورتابة وتواضع. وكنا نأمل أن تدار مباراة النضال، بحكمة وتعقل وتبصر، بعيدا عن طقوس العدمية والاندفاعية، وحذرنا في أكثر من مقال، من التمادي في الضغط على الزناد والاستمرار في معركة العناد، وقبل هذا وذاك، كنا نأمل أيضا، أن يتم تغيير الخطة والتكتيك، بالجنوح الاضطراري إلى "وقفة تأمل" أو "استراحة محارب" على الأقل، خاصة بعد أن نزلت الحكومة من البرج وجنحت نحو السلم والحوار، بعد إقرار زيادات غير مسبوقة، والتحرك في اتجاه تعطيل مقتضيات المرسوم المثير للجدل، في أفق إعادة صياغة مرسوم جديد، يؤسس لنظام أساسي، يقطع مع صور "التحكم" ومشاهد "الحكرة" التي فجرت بؤرة الاحتقان. تغير مواقف الحكومة، كان يقتضي استعجال العودة إلى الفصول الدراسية من باب إبداء حسن النية، والحرص على المصلحة العليا للوطن، وزاوية إنقاذ الموسم الدراسي الذي بات على المحك، ومراعاة للمصلحة الفضلى لما يزيد عن سبعة ملايين تلميذ/ة من أبناء البسطاء والفقراء والمعوزين، الذين لا حضن لهم، إلا المدرسة العمومية بكل ما تحمله من أمراض وعلل ما ظهر منها وما وبطن، وقبل هذا وذاك، حتى لا يتم المجازفة والمغامرة بما تم كسبه من تعاطف وتضامن مجتمعي واسع النطاق. لكن ظل الاندفاع سيد الموقف، وبات العبث وما ارتبط به من عدمية وتبخيس، العنوان البارز لنضال "الكل فيه يغني على ليلاه"، في غياب المطالب "المشتركة" أو "الجماعية" التي أضحى جليدها يذوب تحت أشعة "مطالب فئوية" انتصرت لغريزة الأنانية المفرطة والمصلحة العمياء، ولموجة كاسحة من التصرفات المسؤولة ما لم نقل الجبانة، الصادرة عمن افتض بكرة النضال البطولي أمام الملأ، تارة بتوزيع صكوك التخوين والتجريم في حق الزملاء الذين احتكموا إلى عين العقل وصوت الحكمة، وأخرى بالإصرار على جلد المدرسة العمومية، والارتماء البئيس في أحضان المدارس الخصوصية في إطار الساعات المؤدى عنها. ولأن الاندفاع المتهور يبدو كمن يقود السيارة بسرعة جنونية في المنعرجات الأخيرة، أو من يأكل العشب دون النظر إلى الحافة، كان من الضروري ومن المتوقع، أن تنتهي المغامرة النضالية على إيقاع الخيبات، بعد أن أشهرت الكثير من المديريات الإقليمية ورقة سحب التراخيص ذات الصلة بالساعات المؤدى عنها في المدارس الخصوصية في وجه المضربين، وخاصة بعد اللجوء "المأسوف عليه" إلى سلاح توقيف بعض المحتجين، في محاولة مكشوفة لكسر شوكة النضال وتذويب جليد العزائم. وهذه الأسلحة المربكة، التي غابت عن أذهان "المندفعين" و"المتهورين"، كانت كافية لتعبيد طريق العودة إلى الفصول الدراسية، وطرح أسلحة النضال "السيزيفي"، ليس من باب الاقتناع بتغيير "التكتيك" ولا من زاوية "إنقاذ ما تبقى من الموسم الدراسي الذي بات على كف عفريت"، ولكن للأسف، من مدخل "الخضوع" و"الانصياع" ونافذة "العودة" التي باتت كالبرتقالة المرة، تحسبا لحرمان مرتقب من مكسب الساعات المؤدى عنها بمدارس التعليم الخصوصي، وخوفا من أي "توقيف" وشيك عن العمل، وفي هذا الإطار، لا أبلغ من صورة "عودة جماعية اضطرارية" إلى الفصول الدراسية، دون النظر إلى الزملاء الذين نفذ في حقهم إجراء "التوقيف المؤقت" عن العمل، في لحظة نضالية جمعية، كان يفترض أن تتحرك فيها مشاعر "التعاضد" و"التضامن" و"التماسك"، مراعاة للكرامة، التي فجرت بؤر الاحتقان من تحت أقدام الشغيلة التعليمية برمتها. اليوم، وإذا تركنا الحديث جانبا، عن الظروف العامة والخاصة التي عجلت بعودة الأساتذة المحتجين إلى الفصول الد راسية، فالأهم أن طبول الاحتجاجات لم يعد لها صدى يذكر، والمدرسة العمومية التي عاشت طقوسا من الشلل والارتباك، أخذت تسترجع عافيتها واستقراراها، والمطلوب في هذا السياق التربوي الاستثنائي، العمل على طي الصفحة بما لها وما عليها، والمضي قدما نحو فتح صفحة جديدة، لا بد أن تكتب بمداد "المصالحة" و"المصداقية" و"المسؤولية" و"المكاشفة" و"الوضوح" و"حسن النية"، من أجل مدرسة عمومية لم يعد بيتها يسر الناظرين والزائرين والعابرين. الزملاء الأساتذة ومهما عاتبناهم على التمادي في الاحتجاجات الاندفاعية والانخراط "اللامسؤول" في إشهار أسلحة "التخوين" و"الإدانة" و"الاتهام" في حق زملائهم، ومهما انتقدنا طريقة تدبيرهم لمباراة النضال، نأمل أن يقطعوا مع ثقافة "الأنانية المفرطة" و"المصلحة العمياء" والجنوح الذي لا محيد عنه نحو التعبئة ووحدة الصف، من أجل الإسهام الفردي والجمعي في تحصين المهنة والرفع من مستوى جاذبيتها، والإسهام في إطار الممكن، في الارتقاء بمكانة المدرسة العمومية وتلميع صورتها المجتمعية، أخذا بعين الاعتبار، أن الكرامة المبحوث عنها، لا تختزل فقط في النظام الأساسي أو الرفع من الأجور، ولا حتى في حل الملفات الفئوية الأكثر تشابكا وتعقيدا. أما الوزارة الوصية على القطاع وما يرتبط بها من أكاديميات جهوية ومديريات إقليمية، فلا بد لها أن تثمن عودة الأساتذة المحتجين إلى الفصول الدراسية، وتنوه بقرار تعليقهم لكافة الأشكال النضالية، وأن توفر ما تحتاجه هذه الظرفية الاستثنائية، من شروط الهدنة والسلم والأمن والاستقرار والطمأنينة، بعيدا عن أي خطاب جانح نحو "كسر العظام" أو "الانتقام"، من شأنه إحياء جمر الاحتقان مرة أخرى، ولا بد لها أن تدرك تمام الإدراك، أن معركة اليوم، لا تكمن فقط، في الإفراج عن النظام الأساسي الجديد وما يرتبط به من مراسيم وقرارات تنظيمية، والالتزام بالتعهدات في ضوء مخرجات الحوار مع النقابات التعليمية الأكثر تمثيلية، بل تكمن أيضا، في "أنسنة ظروف العمل"، عبر العناية ببنيات الاستقبال وتجهيز الفصول الدراسية بالوسائل الديداكتيكية اللازمة، وتقليص ساعات العمل، والقطع مع "معضلة الاكتظاظ" التي باتت جحيما لا يطاق، يستنزف كل طاقات وقدرات الأساتذة، واستعجال مراجعة شاملة للمناهج والبرامج وطرائق التدريس والتقويم، فضلا عن الإسراع الفوري بالإفراج عن الترقيات المجمدة، مع استحضار كل المتغيرات المرتبطة بالثورة الرقمية الهائلة ومتغيرات الذكاء الاصطناعي، وتداعياتها على مستقبل المدرسة العمومية. دون إغفال الحرص على بناء علاقات جديدة مع نساء ورجال التعليم، مبنية على "الاحترام" و"التقدير" و"المسؤولية" و"التحفيز" و"الاعتبار"، لأنهم ليسوا فقط "شركاء في الإصلاح"، بل محركه وصمام أمانه، وبما أن المرحلة، تقتضي تخفيف الضغط والجنوح نحو السلم ومواصلة الإصلاح والتغيير، نأمل، أن يتم طي ملف الأساتذة الموقوفين لأن مكانهم الطبيعي هو الفصول الدراسية، فإذا كان صك اتهامهم هو "الاحتجاج" و"النضال"، فالاحتجاج والنضال كانا بصيغة الجمع، ومهما تمت معاتبتهم أو إدانتهم أو إدانة بعضهم، فالعزاء أن ترك الفصول الدراسية واجتياح الشوارع والساحات، كان بسبب مرسوم مثير للجدل، بدل أن يحمل "الكرامة" و"التقدير" و"الاعتبار"، أتى بطقوس "الحكرة" ما ظهر منها وما بطن، وإذا كانت الحكومة قد استجابت للمطالب المرفوعة أو الأقل البعض منها، فلأنها، اقتنعت فعلا أن "الحكرة" و"الإصلاح" مستقيمان متوازيان لا يتلاقيان... لذلك، فمن الخجل أو من العار، إدانة من خرج ذات يوم، للاحتجاج بحثا عن الكرامة في زمن التهميش والإقصاء والظلم والحيف.... وفي المجمل، ومن باب الاعتراف وحتى لا نبخس الناس أشياءها، نثمن ما تحقق من مكاسب غير مسبوقة، كما نثمن إرادة الوزارة في التنزيل الأمثل لمخرجات الحوار مع النقابات التعليمية التي أبلت البلاء الحسن في حدود الممكن، وننوه بالحكومة، التي يسجل لها، أنها نجحت بشكل أو بآخر في فك خيوط ما تعيشه المنظومة التعليمية العمومية من أزمات وتعقيدات، لم تتجرأ على مواجهتها الحكومات المتعاقبة، ونقف وقفة احترام وإجلال أمام الشغيلة التعليمية بكل ألوانها وأطيافها، التي كسبت رهان معركة الكرامة رغم الانزلاقات والانحرافات المسجلة. واليوم، فإذا كان من "رابح"، فهو الوطن، الذي لا يمكنه أن يرتقي، إلا بتعليم عادل ومنصف ومحفز وعصري...، ومن أجل الوطن، لا بد أن نتملك قيم المسؤولية والاحترام والتقدير والالتزام ونكران الذات، ونتحلى أفرادا وجماعات بثقافة التواصل والإصغاء والتحاور والتشارك، ففي زمن الأزمات غير المتوقعة، لا مكان للاندفاع ولا موضع قدم للتهور والعبث، إلا التعقل والحكمة والليونة وحسن النية والوضوح والمصداقية... عسى أن نستفيد جميعا، من درس عنوانه العريض: نظام المآسي.