إن لغة العصر هي القوة والاستكبار الذي حاولت الأطراف المعنية طمس حقيقتها من خلال التلاعب بالذاكرة والتاريخ الجماعي. غير أن الإعلام الرقمي كشف الستار عن حقيقة هذا العالم المتكاذب في أخلاقه وقيمه وأهدافه التنويرية والكشوفات العلمية التي تخفي خلفها كل أشكال الهيمنة والسيطرة والتزوير التاريخي. نحن هنا لسنا بصدد إدانة الغرب بقدر إدانة أنفسنا إذ لا يقل تاريخنا سوءا عن الاستعلاء الغربي والمركزية الغربية. إن إخفاقات العرب والمسلمين لا تقل شأنا في حروبهم على السلطة وتقاسم النفوذ ونشر الخلافة القومية والدينية باسم الإسلام والعرب وهذا ما عبرت عنه المعارضة في ما عرفت آنذاك بموجة الربيع العربي، وانتشار الحركات المتطرفة وتكفير الآخرين على اعتبارهم من جماعة الكفار كما يفعل اليوم نتنياهو عبر توصيف العرب بالحيوانات البشرية وكل التوصيفات الدونية الأخرى. ولا ننسى تجربة وسيطرة الخلفاء الراشدين والفترة الأموية والفاطمية في مصر، إضافة الى مرحلة العروبة والقومية العربية التي كان أحد أسباب فشلها إعلاء قيمة الإسلام على باقي الثقافات والهويات المتواجدة في المنطقة. فنزعة الإمبراطورية تقاسمتها جميع الأمم والشعوب. لكن، ما يهمني أن أشير إليه في هذه المقالة، الاختلافات والتباينات التاريخية والثقافية بين الحضارتين العربية الإسلامية والغربية. لا شك، أن ما قام به الطرفان مدان إنسانيا وأخلاقيا لأن مسألة القتل والعنف هي مسألة يمكن تجاوزها في المفاوضات والحلول الدبلوماسية والسياسية لكن الإشكالية في الصراع الفلسطيني – الإسرائيلي، هو أن صبر المفاوضات والتنازلات قد نفذ بفعل عدم اعتراف الطرف الإسرائيلي بالشراكة الفلسطينية وهذا بطبيعة الحال مشروع قديم جديد يعاد إحياؤه في المنطقة وفق مخططات جديدة أكثر استحكاما وتدميرا من ذي قبل. إن مأساة القرن اليوم هي في أنك فقدت ثقتك بإمكانية تحقيق العدالة وأن من يمسك بها غير قادر على تطبيقها لأنه مدان بفضائح جفري ابستين التي ظهرت لتهدد جميع من يعترض على مشيئة إسرائيل ومقرراتها. وهذا واضح في طريقة تعامل نتنياهو مع الرئيس الأمريكي جو بايدن والأوامر التي يتلقفها يوميا بشأن مطالبته بتكثيف الدعم العسكري ومشاركة الولاياتالمتحدة في حرب أوسع في المنطقة. وهذا تفسره طبيعة الصراع اليوم في البحر الأحمر وعمليات القرصنة والتصعيد المتبادل بين إسرائيل والحوثيين وتعريض الملاحة الدولية للخطر ونقل الصراع بشكل أوسع إلى أربيل وباكستان، في محاولة لاستنزاف إيران في عمقها الجغرافي وتبادل الرسائل الإقليمية ردا على حادثة كرمان الأخيرة في إيران. ربما من يراقب المشهدية من بعيد تتضح له الصورة بشكل أدق وأوضح، أن الصراع بريء من شبهة المعيار الأخلاقي والإنساني والوطني، بل إنها حرب مصالح ونفوذ وإمبراطوريات تاريخية تحاول استرجاع حقها المغتصب تاريخيا، غير أن السؤال الكبير اليوم العرب ماذا هم فاعلون من أجل استرجاع كبريائهم المغتصب والمستباح؟ وهل تكفي موسم الرياض للتأكيد وتفعيل الرسالة التي مفادها نحن بخير طالما نحن مطبعون وبالرعاية الصينية؟ فقط تخيل ذلك لبضع ثوان، إذا لم تلتزم إيران بتعهداتها واستمرت تل أبيب باستفزازها في عمقها الجغرافي أو عبر جماعات إرهابية مثل البلوش وغيرهم بهدف استنزافها واحتوائها أمنيا وسياسيا؟ وماذا سوف يحصل إن لم ينجح مشروع إكسبو 2030 وبخاصة أن الغرب لن يسمح باستقرار هذه المنطقة والتجارب التاريخية غير دليل عدم التزام بريطانيا تجاه شريف حسين، ووعدها له بشأن الدولة العربي والتصدي للاحتلال العثماني آنذاك والتتريك، فضلا على خلفيات مؤامرة سايكس بيكو وغيرها والوعود التي قدمتها إسرائيل لمصر بعد اتفاقية كامب دايفد ماذا تحقق من ذلك؟ أين مصر اليوم من عمقها الاستراتيجي في القرن الإفريقي؟ أين السودان اليوم بعد التطبيع مع إسرائيل والربيع السوداني؟ أين لبنان بعد ثورة 17 تشرين؟ أين سوريا بعد حرب دامت أكثر من 11 عاما؟ واقعيا، نحن شاهدون على العصر وحقيقة أنه منذ 7 أكتوبر (ولعقود قبل ذلك التاريخ)، لم يشهد حلفاء تل أبيب الغربيون والمستعربون، ما فعلته إسرائيل بالشعب الفلسطيني فحسب، بل زودوها أيضًا بالمعدات العسكرية والقنابل، والذخائر والتغطية الدبلوماسية، والمبررات التاريخية والأخلاقية في المقابل قدمت وسائل الإعلام الأمريكية مبررات أيديولوجية لذبح الفلسطينيين والإبادة الجماعية لهم عبر توصيف إسرائيل بالضحية، وإعادة استئناف الهولوكوست اليهودي وتوظيفه إعلاميا لتبرير جرائم الحرب والتلاعب بالذاكرة الجماعية وتزوير السردية المعرفية للتاريخ. لماذا دائما يتم التعاطف مع الإبادة اليهودية أكثر من الإبادة الأخرى، التي لا تقل سوءا مثل رواندا إبادة الإيغور الأرمن الأكراد الهنود الحمر الموريكسيين الأوكرانيين والمسلمين السنة في دارفور البوسنة ولا ننسى أمريكا اللاتينية المكسيك البيرو وإفريقيا الجنوبية وبنغلادش والعراق ونيجريا وو.. ومع وجود البلطجة العسكرية التي تمارسها الولاياتالمتحدة وأوروبا وأستراليا وكندا خلف إسرائيل بالكامل، فإننا نحن شعوب العالم العاجزة، مثل الفلسطينيين، لا نهتم. وهذا ليس مجرد واقع سياسي؛ كما أنها وثيقة الصلة بالعالم الخيالي الأخلاقي والفلسفي للانوار والنهضة والتي يطلق على نفسه اسم العالم الحر والديمقراطي والانساني وحقوق الانسان هم الحلقة الاكثر تعرضا للتداعيات والأثار ما بعد حرب غزة بفعل التغيرات الديمغرافية وانظمة الحكم الجديدة فهل الغرب اليوم قادر على الابداع وابتكار خدع جديدة يوهم بها العالم بحجة نشر العدالة والديمقراطية وحقوق الإنسان. فلو نظرنا إلى فلاسفة الغرب اليوم، وبعض المستشرقين أمثال إيمانويل كانط وجورج فيلهلم فريدريش هيغل، واستمرارا مع إيمانويل ليفيناس وسلافوي جيجيك، نحن شذوذات وأشياء وأشياء معروفة كلف المستشرقون بفك رموزها. وعلى هذا فإن مقتل عشرات الآلاف منا على يد إسرائيل، أو الولاياتالمتحدة وحلفائها الأوروبيين، لا يثير أدنى توقف في أذهان الفلاسفة الأوروبيين لأننا مجرد تجارب بشرية الهدف منه تحقيق التفوق والتمركز الغربي والهيمنة على كافة مصادر الثروات والمعرفة في العالم من أجل تأبيد الاستكبار الغربي واستعلاء العرق الأبيض وتسيده على باقي الشعوب، وهذه مشكلة ينبغي معالجتها عقائديا أكثر منه سياسيا لأن عدم استقرار منطقة الشرق الأوسط بشكل خاص هو بفعل هذا الصراع الديني -القبلي- العرقي الذي يجد مصوغاته وفق نصوص دينية تبرر أعماله وأفكاره العنصرية. وإذا كان العالَم يطرحُ أسئلة مماثلة حول فيلسوف ألماني كبير آخر، وهو مارتن هايدجر، في ضوء انتماءاته الخبيثة إلى النازية. في رأيي، يجب علينا الآن أن نطرح مثل هذه الأسئلة حول صهيونية هابرماس العنيفة والعواقب المهمة على ما يمكن أن نفكر به في مشروعه الفلسفي بأكمله؟ إذا لم يكن لدى هابرماس ذرة من المساحة في مخيلته الأخلاقية لأشخاص مثل الفلسطينيين، فهل لدينا أي سبب لاعتبار مشروعه الفلسفي بأكمله مرتبطًا بأي شكل من الأشكال ببقية البشرية، بما يتجاوز جمهوره الأوروبي القبلي المباشر؟ وفي رسالة مفتوحة إلى هابرماس، قال عالم الاجتماع الإيراني البارز آصف بيات إنه "يناقض أفكاره" عندما يتعلق الأمر بالوضع في غزة. مع كامل احترامي يقول: "أرجو أن أختلف، أعتقد أن تجاهل هابرماس لحياة الفلسطينيين يتوافق تمامًا مع صهيونيته. وهو ينسجم تماما مع النظرة العالمية التي ترى أن غير الأوروبيين ليسوا بشرا بالكامل، أو أنهم "حيوانات بشرية"، كما أعلن وزير الدفاع الإسرائيلي يوآف جالانت علنا.. إن هذا التجاهل المطلق للفلسطينيين متجذر بعمق في الخيال الفلسفي الألماني والأوروبي. الحكمة السائدة هي أن الألمان، بسبب ذنب المحرقة، طوروا التزاما قويا تجاه إسرائيل وهذه فاجعة القرن لجهة كيفية تحسين مسار هذا الاستكبار، في حين لم تجر مصالحة ذاتية والاعتراف بجريمته والاعتذار عنها وهذا ينطبق أيضا على واقع فرنسا مع الجزائر ومستعمراتها في إفريقيا، فجميع الأمم تعتذر وتتصافح إلا النزعة الأوروبية لا تزال تكابر وترفض الاعتذار. ولكن بالنسبة لبقية العالم، كما يتضح الآن من الوثيقة الرائعة التي قدمتها جنوب إفريقيا إلى محكمة العدل الدولية، هناك اتساق تام بين ما فعلته ألمانيا خلال حقبتها النازية وما تفعله الآن خلال حقبتها الصهيونية. أعتقد أن موقف هابرماس يتماشى مع سياسة الدولة الألمانية المتمثلة في المشاركة في المذبحة الصهيونية للفلسطينيين. وهو يتماشى أيضًا مع ما يُنظر إليه على أنه "اليسار الألماني"، مع كراهيته العنصرية وكراهية الإسلام والأجانب للعرب والمسلمين، ودعمهم الشامل لأعمال الإبادة الجماعية التي ترتكبها المستعمرة الاستيطانية الإسرائيلية.. ويتعين علينا أن نغفر إذا تصورنا أن ما تعانيه ألمانيا اليوم لم يكن ذنب المحرقة، بل الحنين إلى الإبادة الجماعية، كما انغمست بشكل غير مباشر في المذابح التي ارتكبتها إسرائيل ضد الفلسطينيين على مدى القرن الماضي (وليس فقط في المائة يوم الماضية). وهذا الانحطاط الأخلاقي ليس مجرد زلة سياسية أو نقطة أيديولوجية عمياء. وهو مكتوب بعمق في مخيلتهم الفلسفية، التي ظلت قبلية بشكل لا يمكن علاجه. وهنا، يجب أن نلخص عبارة الشاعر المارتينيكي المجيد إيمي سيزار: "نعم، سيكون من المفيد أن ندرس سريريًا، بالتفصيل، الخطوات التي اتخذها هتلر والهتلرية وأن نكشف للبرجوازية المسيحية المتميزة جدًا والإنسانية جدًا القرن العشرين، دون أن يدرك ذلك، لديه هتلر بداخله، وأن هتلر يسكنه، وأن هتلر هو شيطانه، وأنه إذا انتقده، فهو غير متسق، وهذا، في جوهره، ما لا يمكنه أن يغفره هتلر ليس جريمة في حد ذاته، جريمة ضد الإنسان، وليس إذلال الإنسان في حد ذاته، بل هو الجريمة في حق الرجل الأبيض، إذلال الرجل الأبيض، وحقيقة أنه طبق على أوروبا الإجراءات الاستعمارية التي حتى ذلك الحين كانت مخصصة حصريًا للشعوب العربية والهندية والإفريقية. بالختام، فلسطين هي اليوم امتداد للفظائع الاستعمارية التي يستشهد بها سيزار في هذا المقطع. ويبدو أن هابرماس يجهل أن تأييده لذبح الفلسطينيين يتوافق تمامًا مع ما فعله أسلافه في ناميبيا خلال الإبادة الجماعية هيريرو وناماكوا في إفريقيا، معتقدين أن العالم لا يراهم على حقيقتهم.. في النهاية، من وجهة نظري، لم يقل هابرماس أو يفعل أي شيء مفاجئ أو متناقض؛ بل على العكس تماما. لقد كان متسقًا تمامًا مع القبلية غير القابلة للشفاء في نسبه الفلسفي، والتي اتخذت بشكل خاطئ موقفًا عالميًا. لقد تحرر العالم الآن من هذا الشعور الزائف بالعالمية وبدأ يبحث عن كينونته وكرامته وفق خطاب مقاوم وسردية جديدة يخاطب بها المستعمر بلغة اليوم. إن الفلاسفة مثل في واي موديمبي في جمهورية الكونغو الديمقراطية، أو والتر ميجنولو أو إنريكي دوسيل في الأرجنتين، أو كوجين كاراتاني في اليابان لديهم مطالبات أكثر شرعية بكثير بالعالمية من أي وقت مضى لدى هابرماس وأمثاله. في رأيي، يمثل الإفلاس الأخلاقي لتصريح هابرماس بشأن فلسطين نقطة تحول في العلاقة الاستعمارية بين الفلسفة الأوروبية وبقية العالم. لقد استيقظ العالم من سبات الفلسفة العرقية الأوروبية الزائف. واليوم، نحن مدينون بهذا التحرير للمعاناة العالمية لشعوب مثل الفلسطينيين، الذين أدت بطولاتهم وتضحياتهم التاريخية الطويلة إلى تفكيك الهمجية السافرة التي كانت تقوم عليها الحضارة الغربية.