كلّما اندَلَقَ حراك اجتماعي شعبي احتجاجي وخرج من الوجود بالقوة إلى الوجود بالفعل -بالتعبير الأرسطي- في سياق من السياقات الاجتماعية العربية أو المغاربية، إلا ونجد أنفسنا أمام أسئلة معرفية حارقة مفصلية قديمة – جديدة تُحاصرنا، وتلحّ نفسها علينا في السؤال، ولذلك سنتخذ من هذا الحراك التعليمي الاحتجاجي الذي عرفه المشهد التعليمي المغربي أفقا للتأمل في هذه المناولة. لقد عرف السياق التعليمي المغربي انتفاضة أستاذية تكاد تقترب الآن من الشهر الثالث، انطلقت مع اليوم العالمي للمدرس (يوم 5 أكتوبر)، خاضت معه الشغيلة التعليمية في المغرب إضرابات ووقفات في محطات كثيرة؛ مركزية ومحلية حضرها الآلاف من الحشود الغفيرة من الذوات الأستاذية المنتفضة، وقد جاءت على أرضية إصدار الحكومة المغربية ممثلة في وزارة التعليم التي يترأسها وزير "تيكنوقراط" شكيب بنموسى لنظام أساسيّ تكبيليّ مجحف كما أجمع على ذلك الكثير من المتتبعين للشأن التعليمي والمعنيين بشكل مباشر بهذا المرسوم وهم رجال ونساء التعليم، يكثّف استغلال الأجراء دون تحفيز يذكر، ويخصص صفحة ونصف لباب العقوبات بمنطق زجري نكوصي، وهو ما يتعارض بالكلية مع مشروع "النموذج التنموي" الذي ترأسه نفس الوزير الذي يراهن على الأطر البشرية في التعليم كرافعة حقيقية للتنمية، ومن حسنات هذا النظام التكبيلي أنه أجمع ووحد رجال التعليم ونساءه بشكل غير مسبوق، لن أفصل في هذا الحراك ومطالبه ومكوناته التنسيقية الفسيفسائية المختلفة التي انخرطت في هذه الاحتجاجات التعليمية، وما تحقق من مكاسب؛ سواء تلك التي تحققت داخل المحاضر الوزارية التي وقعت عليها النقابات، أم تلك التي تحققت خارج هذه المحاضر، وأهمها تكسير حاجز الخوف، واللحمة التاريخية التي خرجت بها هذه الهبة الأستاذية، لكن آثرنا أن نقف مع هذا الحراك التعليمي في المغرب من مقترب آخر، ومن زاوية نقدية أخرى. ففي تقديرنا لا زالت مثل هذه الحراكات الاجتماعية العفوية تطرح علينا أسئلة ضرورية كما تقدم معنا، وتبقى الحاجة ملحة لفتح هذه الأسئلة وتعميق النقاش فيها بكل حيادية وعلمية، بعيدا عن الذاتية والانطباعية. دور المثقف وعلاقته بالحراك التعليمي: لعل من أولى الأسئلة التي تطرح نفسها بشكل راهني ملح على هامش هذه التأملات، هو حضور المثقف اليوم، فأين المثقف التنويري من هذا الحراك التعليمي الذي وصل صداه للآفاق؟ لماذا يغيب المثقف عندنا وقل إن شئت هو الغائب الأول الذي يتغيّب وكأنه غير معني البتة ؟ لماذا لا يشارك المثقف عندنا في نقاشاتنا التعليمية التربوية لخطورتها وأهميتها، ولعله من نافلة القول أن نشير هنا أن النسق التعليمي في الحضارة الإنسانية الذكية اليوم التي تستثمر في الإنسان- كقيمة- هو عصب الأمر كلّه، والطريق نحو سُلّمية الحضارة وإمكان البناء ؟ أم أننا لا نملك نخبا بالأساس تستطيع أن تؤثر في ما يحدث. إن الحقيقة المرة أننا لا نملك نخبا طليعية عضوية مثقفة -بالتعبير الكراميشي- تشارك في قضايا المجتمع، وتستمع لنبض الشارع، وتهتم لهمومه المحمومة، وتعبر بلسان حاله. وقد جرت مياه كثيرة تحت جسر هذه النخب عندنا ولم تعد تواكب التحولات الاجتماعية ولا الانخراط فيها من موقع الفاعل. إن المثقف عندنا غارق في أوهامه، ومنعزل في قصره الشائخ النخبوي العاجي، متردد وكأنه غير معني بكل هذا الضجيج الذي يحدث في المجتمع وفي دنيا الناس باسم "الحياد الابيستيمولوجي" وترك "المسافة الابيستمولوجية" بينه وبين الظواهر المدروسة !! حتى يدرس هذه الظواهر "الساخنة" بمنهجه "البارد". إن هذه المسافة هي التي جعلت من المثقف العربي مهرجا وكائنا متعاليا مؤسَّسِيًّا غارقا في تأملاته الخشبية التي لا تتجاوز دفاف المراجع. بعدما صار كائنا هامشيا مكتظا بكم معرفي يردد محفوظاته، ولم يعد ذلك الفاعل المشارك الحيوي التنويري في الدينامية الاجتماعية وفي صناعة الحدث وفي رسم المصائر وعقلنة اللامعقول، يطرح البدائل والمفاهيم والأدوات الجديدة، ويفكر جنبا إلى جنب طبقات شعبنا المنكودة، ليخرجها من الحرج الاجتماعي الذي تتخبط فيه.لكن المثقف العربي بعامة قد ألف المتعاليات الهشة ووجد في "الحذر الابيستيمولوجي" العزاء والمسوغ للهروب لكوخه الأفلاطوني. فهل بهذا الغياب المطبق الذي سجلناه عن غياب المثقف في هذا الحراك التعليمي وغيره من الحراكات الاجتماعية بتنا نعيش حقا ما أسماه الناقد اللبناني علي حرب بنهاية المثقف، وأن المثقف صار أعجز عن تنوير غيره من الناس وفشل في قيادة المجتمع لعالم أكثر عدلا وتقدما وأقل استلابا ؟؟ السؤال التنظيمي: إن ما برز في هذا الحراك التعليمي من تهافت وارتجالية و"فتوة" في الممارسة والفعل يعيد "السؤال التنظيمي" إلى الواجهة بصورة أكثر حدة. إن من لا تنظيم له لا قوة له، ومن لا قوة له لا صوت له، ومن لا قوة ولا صوت له لا حق له، فلماذا لم نحقق ذلك "التراكم التنظيمي" الذي بمقدرته نستطيع الخروج من هذه المآزق التنظيمية، وهذه المفارقات المرتبطة بالوعي التنظيمي التأطيري الذي لا زلنا نتخبط فيه لدرجة الاستعداء الأفقي المجاني، ولم نستفد من التجارب الاحتجاجية المتوالية المتعددة المتراكمة، سواء تلك التي اكتست الطابع الاقتصادي أو حتى ما يرتبط بالحركات الحقوقية الثقافية واللغوية وإن كانت أغلب الحركات الاحتجاجية في العالم الثالث لا زالت في عمقها اقتصادية من أجل الخبز. في ظل هذا التشرذم الحاصل في التنسيقيات التعليمية في المغرب، وتناسلها المجهري بشكل يثير القلق، الأمر الذي يجعل المستوى التنظيمي وإعادة تأطير الشغيلة في نقابات كفاحية نظيفة وتقويتها من الداخل أمرا ملحا كذلك، فالإطارات النقابية مهما قيل عنها وأطلق النار عليها، تظل إطارات على الشغيلة أن تناضل من أجل استعادتها لأنها مسروقة منها، صحيح أن هذه التنسيقيات تظل فرزا موضوعيا وإجابة علمية صريحة عن البيروقراطية النقابية المنخورة التي أصبحت تميل إلى الباطرونا، وتستخدم الشغيلة بدل خدمتها والدفاع عنها، لكن السؤال هل التنسيقيات التي تتناسل اليوم هي البديل النضالي المنتظر؟ وهل هي الأفق الممكن إزاء هذا الوضع اللاسوي ؟؟. أم يتعين على الشغيلة التعليمية أن تناضل من أجل استعادة نقابتها وتقويتها من الداخل، بترسيخ قيم التشبيب، وتكريس الديموقراطية الداخلية، وفرض الرقابة، وتوحيد الشغيلة برؤية نضالية وحدوية شمولية بدل تكريس المزيد من التفرقة التي وصلت لحد فردنة المطلب في ممكناته القصوى. إن سلبية القاعدة العمالية التي تجلس كطابور سلبي متفرج بمنطق الكرسي الفارغ، وعدم قدرتها على جعل النقابة منظمة عمالية نشطة، وتخليها عن سلطة المراقبة والتقرير والتسيير عبر الجموعات العامة كاملة السيادة، هو ما يساعد على خلق أرضية تشكل قيادة بيروقراطية "مُبَرجَزَة" مطلقة الصلاحيات، تنصب نفسها محل عموم الشغيلة، وتكبح بأساليب غير ديمقراطية كل محاولات إخراج الشغيلة من وضع الخمول.وهذا الوضع هو الذي يفسح المجال للقشر الانتهازية الوصولية للتسلق الطبقي داخل النقابات، فحاجة العمال لنقابات مكافحة قوية صادقة ممانعة ستظل هي الأخرى حاجة تنظيمية ملحة بدل التشرذم على إطارات لحظية أفرزتها أزمة لحظية فضلا عن كونها تتلاشى وتتفكك بتحقيق المطالب الآنية. سؤال التراكم النظري: في كل حراك اجتماعي جديد يتفتق ويتبلور ليعبر عن النسق المختل اللاّسوي اللامتوازن المتوعك؛ الحقوقي والسياسي والاقتصادي، نجد أنفسنا مرة أخرى أمام المأزق النظري، فبالرغم من كل الزخم الاحتجاجي الطويل المطرد في تاريخ المغرب الحديث، وما عرفته الساحة الاجتماعية من مظاهرات وحراكات متعددة ومتنوعة لم نستطع أن نراكم "تجارب نظرية نوعية" يمكن أن نستند إليها لتفادي الكثير من المآزق العملية في الممارسة. فمعظم احتجاجاتنا لا زالت اندلاقات عفوية حماسية للشارع من غير أساس نظري، وبلا أفق سياسي ولا مرجعي دون أن تحسن قراءة أفق المعركة الذي يكون مفتوحا عن كل الاحتمالات. إن هذا الفراغ النظري النوعي يجعلنا للأسف نعيد نفس الأخطاء القاتلة دون أن نستفيد من التجارب السابقة في الممارسة النضالية البانية المعقولة الواقعية التي تحقق المكاسب وتراكم النتائج في ظل نسق سياسي ثابت لا يقبل التنازلات. يُكيِّفَ ولا يتكيف، يغير كل شيء من أجل ألا يتغير شيء على نحو ما قال واتربوري وهو يحلل الوضع السوسيوسياسي في المغرب. وهذا الانكسار بين التنظير والممارسة عندنا في فعلنا الاحتجاجي التعليمي هذه المرة يحيلنا إلى "الفجوة التنظيرية" بيننا وبين السياق الغربي الأروبي، فالفرق بيننا بيٍّنٌ شاسع. إن الغرب استفاد من التاريخ، وراكم أساسا نظريا مرجعيا مهما، وكان المثقف الأروبي العضوي في صميم هذه الاحتجاجات وصيرورتها التاريخية، ففي السياق الذي كانت تصدح فيه الحناجر من المعامل والمصانع الرأسمالية الأروبية تطالب بتحسين ظروف العمل بعد الثورة الصناعية، بعدما فقد الإنسان فردانيته وكرامته وكينونته الإنسانية بما هي ذات حرة مريدة مستقلة، وفي السياق الذي كانت الأنظمة الرأسمالية المتحالفة مع الإقطاع تريق دماء المحتجين من العمال الذين خرجوا للتعبير عن سخطهم في الشوارع كان المثقف الأروبي فاعلا رئيسا؛ ممثلا في السوسيولوجي والفيلسوف والمؤرخ ..الخ حاضرا إلى جانب هذه الاحتجاجات في قلب هذه الثورات المجتمعية؛ مدعِّما ومشاركا وموجها وفاعلا ومؤطرا كما حدث في الثورة الطلابية الماركوزية عام 1968 في فرنسا، الثورة التي غيرت أرجاء أروبا كما قال عنها مؤرخو الأفكار، وتأثيرها السياسي البالغ في السياق الغربي، فقد كان لها ما بعدها. ففي هذه الثورة لم يكن المثقف غائبا ولا غارقا في أنساقه الفلسفية المتعالية، بل كان عقلا عمليا منظرا حاضرا كبقية الأفراد، لقد كان ميشل فوكو حاضرا يوزع "ايتيكات" الدعوة للاحتجاج عام 1968 وبير بورديو واقفا على أبواب المصانع والمعامل يدعو عموم الناس ويحثهم على التظاهر والاحتجاج وهو الذي قال عن نفسه بأنه "هجر الفلسفة وفخامتها الخادعة"، ليناضل إلى جانب الجماهير الكادحة، وهو الذي كان يدعو إلى ضرورة تحيّز الباحث المستقل للحِراكات الاجتماعية، وكيف لا وهو الذي قال: إن السوسيولوجي هو الذي ينبغي أن تأتي الفضيحة عن طريقه بالضرورة، وكان ماركوز (وهو من الماركسيين الجدد) قد راكم بناء ونسقا نظريا متكاملا من خلال كتبه، "الثورة والعقل" والثورة الجديدة"، وكان بحق منظرا لهذه الثورة التي نسبت له، وحينما أوحي لرئيس فرنسا أن يعتقل بير بورديو قال لهم: هل تريدون أن اعتقل فرنسا بأكملها. ففي خضمّ هذه الاحتجاجات التي كانت تخرج من المعامل كان الفلاسفة يبلورون المفاهيم الفلسفية الكبرى ويواكبون هذه الثورات العمالية وإضراباتهم عن العمل بالتنظير والتوجيه والنقد والتأسيس، لقد كانت الثورات الغربية بأساس نظري فلسفي وبجذور فكرية شكلت "باراديكمات" منهجية وتصورات مرجعية للإطارات المناضلة اللاحقة مما في ذلك المنظمات النقابية والإطارات الحقوقية المدنية،وكذا والحركات النسائية التي استفادت من المرجعيات الفلسفية، وفلسفة جاك ديريدا وفلسفات ما بعد الحداثية بخاصة في نضالها النسوي الذي كان بروح فلسفي. ولذلك استطاعت هذه الثورات التي تشكلت في السياق الغربي أن تراكم المكاسب والمنجزات السياسية والحقوقية بينما الحراكات العفوية الشبابية عندنا لا زالت بكل أسف تراوح مكانها وتراكم الإخفاقات وتدور في نفس المتاهات الهرمسية. قد يتحمس الواحد منا لنظرية المؤامرة، ويقول: إن هذه الحراكات عندنا لا يراد لها أن تنجح، لكن لا بد أن نقف وقفة تقييم مع هذه الحراكات، ونعمل على تشريحها وتشريح أفقها التنظيمي والسياسي لنقف عند شروط إخفاقاتها الواقعية الموضوعية التي تعود بالأساس -في تقديري- إلى هذا القصور الذاتي في التنظيم والعمل والتنظير الذي تتحمل فيه الذات الكثير من المسؤولية الأخلاقية، فبدل أن نكتفي بإلقاء اللوم على الآخرين دائما وتخوين الأغيار، يجب أن نجلس مع الذات جلسة مكاشفة ومصارحة موضوعية للوقوف مع هذه الأعطاب وطرح سؤال البناء من جديد لتجاوز مآزق الماضي بكل مطباته وأخطائه وعثراته في الممارسة الميدانية من أجل بناء وطن بأفق مواطناتي يتسع للجميع.