عكس الجدل الذي بدأت تظهر معالمه بين الفرقاء السياسيين حول طبيعة الإصلاحات التي ينبغي أن تهم مدونة الأسرة، يبدو أن الرسالة التي وجهها الملك محمد السادس إلى عزيز أخنوش، رئيس الحكومة، حددت الإطار العام للأمور التي ينبغي إعادة النظر فيه في مدونة الأسرة بهدف تجاوز بعض العيوب والاختلالات التي ظهرت عند تطبيقها القضائي. وجاء في الرسالة الملكية، التي اطلعت جريدة هسبريس الإلكترونية على نسخة منها، أنه "مر على صدور مدونة الأسرة ما يقارب عقدين من الزمن. هذه المدونة التي كانت محل ترحيب مجمع عليه، اعتبارا لما حققته من مكاسب على مستوى النهوض بحقوق المرأة، وصون حقوق الأطفال، والحفاظ على كرامة الإنسان، ودعم دولة الحق والقانون، وبناء المجتمع الديمقراطي، وذلك في احترام تام لشريعتنا الإسلامية الغراء، ومراعاة للتطور الذي عرفه المجتمع المغربي". وأضاف العاهل المغربي، في رسالته إلى رئيس الحكومة، أنه رغم ما جسدته من مميزات، وما أفرزته من دينامية تغيير إيجابي، من خلال منظورها للمساواة والتوازن الأسري، وما أتاحته من تقدم اجتماعي كبير، فإن مدونة الأسرة أضحت اليوم "في حاجة إلى إعادة النظر بهدف تجاوز بعض العيوب والاختلالات، التي ظهرت عند تطبيقها القضائي، ومواءمة مقتضياتها مع تطور المجتمع المغربي ومتطلبات التنمية المستدامة، وتأمين انسجامها مع التقدم الحاصل في تشريعنا الوطني". وتابعت الرسالة الملكية: "ما نطمح إليه من تأهيل للمدونة يجب أن يستند على المبادئ الأساسية والتوجهات الرئيسية التي أطرت إعدادها، والتي حددنا مبادئها في خطاب جلالتنا المؤرخ في 10 أكتوبر 2003 أمام البرلمان، وجددنا التأكيد عليها في خطاب العرش الموجه إلى شعبنا العزيز في 30 يوليوز 2022". مقاصد الشريعة والاجتهاد المنفتح كما أكدت الرسالة الملكية حرص الملك محمد السادس على أن يتم ذلك في إطار "مقاصد الشريعة الإسلامية، وخصوصيات المجتمع المغربي، وأن يتم الاعتماد على فضائل الاعتدال، والاجتهاد المنفتح، والتشاور والحوار، وإشراك جميع المؤسسات والفعاليات المعنية". وزاد الملك محمد السادس موضحا أن التأهيل المنشود يجب أن يقتصر على إصلاح "الاختلالات التي أظهرها تطبيقها القضائي على مدى حوالي عشرين سنة، وعلى تعديل المقتضيات التي أصبحت متجاوزة بفعل تطور المجتمع المغربي والقوانين الوطنية". ومن هذا المنطلق، شددت الرسالة على أن المرجعيات والمرتكزات تظل "دون تغيير. ويتعلق الأمر بالمبادئ العدل والمساواة والتضامن والانسجام، النابعة من ديننا الإسلامي الحنيف، وكذا القيم الكونية المنبثقة من الاتفاقيات الدولية التي صادق عليها المغرب". وزاد العاهل المغربي مبينا في رسالته: "إننا واثقون بأن إعمال فضيلة الاجتهاد البناء هو السبيل الواجب سلوكه لتحقيق الملاءمة بين المرجعية الإسلامية ومقاصدها المثلى، وبين المستجدات الحقوقية المتفق عليها عالميا"، مجددا التذكير "كما أكدنا أكثر من مرة، فإننا، بصفتنا أمير المؤمنين، لا يمكننا أن نحل ما حرم الله ولا أن نحرم ما أحله جل وعلا". وأشارت الرسالة إلى أن الحكومة، طبقا لأحكام الفصل 78 من الدستور، "مخولة لاتخاذ المبادرة التشريعية، في هذا الشأن، وهي التي يعود إليها أمر القيام بهذه المهمة". وأردفت أنه اعتبارا لمركزية الأبعاد القانونية والقضائية لهذا الموضوع، "ارتأينا أن نسند قيادة عملية التعديل، بشكل جماعي ومشترك، لكل من وزارة العدل، والمجلس الأعلى للسلطة القضائية، ورئاسة النيابة العامة". مقاربة تشاركية واسعة ودعا الملك محمد السادس المؤسسات المذكورة إلى أن "تشرك بشكل وثيق في هذه العملية الهيئات الأخرى المعنية بهذا الموضوع بصفة مباشرة؛ وفي مقدمتها المجلس العلمي الأعلى، والمجلس الوطني لحقوق الإنسان، والسلطة الحكومية المكلفة بالتضامن والإدماج الاجتماعي والأسرة". واعتبارا للطبيعة الخاصة لقانون الأسرة، الذي يهم جميع المواطنات والمواطنين، وبالنظر إلى أهمية ما ينطوي عليه الأمر من رهانات، فإنه "ينبغي الانفتاح أيضا على هيئات وفعاليات المجتمع المدني، من خلال اعتماد مقاربة تشاركية واسعة". وعلى هذا الأساس، فإن ما سيتم اقتراحه من تغييرات وتعديلات، أوضحت الرسالة الملكية، "يجب أن يأخذ بعين الاعتبار خلاصات الاستشارات الواسعة، وجلسات الاستماع المحكمة التي ستنظم على الخصوص مع النسيج الجمعوي المعني بحقوق الإنسان وحقوق المرأة والطفل، وكذا مع القضاة والباحثين الأكاديميين، وباقي الممارسين في ميدان قانون الأسرة". وختمت الرسالة الملكية بتحديد سقف لبلورة نتائج هذه اللقاءات، في شكل "مقترحات تعديلات، يتم رفعها إلى نظرنا السامي، بصفتنا أمير المؤمنين، والضامن لحقوق وحريات المواطنين، في أجل أقصاه ستة أشهر، وذلك قبل إعداد الصيغة النهائية التي سيتم عرضها على مصادقة البرلمان". يذكر أن المؤسسات التي أسند إليها الملك محمد السادس مهمة التعديل شرعت، خلال الأسبوع الماضي، في عقد لقاءاتها الأولية. ينتظر أن تواصل، خلال هذا الأسبوع والأسابيع المقبلة، العمل في أفق إعداد النص المطلوب في الآجال المحددة له.