مرة ثانية.. لماذا نصر على العيش خارج التاريخ؟ يعد القرن 21 مرحلة حاسمة في التاريخ البشري، فرغم ما حققه الإنسان من تقدم على جميع الأصعدة مازال هناك المزيد من التقدم الهائل، إلى درجة أصبح تطور الإنسان تهديدا صريحا لاستمرارية الحياة الإنسانية المتزنة على سطح الأرض. وفي أزمة التلوث وهيمنة الرقمنة ودعوة المثلية دلالات عميقة حول المخاطر المحدقة بالجنس البشري. ربما غيرنا لا يعتبرها مخاطر إنما هي مجرد سعي دولي لهندسة عالم وإنسان جديدين. وسط هذه التحولات الثورية العميقة، يظهر الإنسان المسلم مثقلا بأحمال التاريخ والحاضر وبأسئلة المستقبل، فمهما أسرع في خطاه ليلحق بموكب كتُاب التاريخ، يجد نفسه مازال بعيدا بسنوات ضوئية كأنه يلاحق سراب صحراء، في عبثية تراجيدية يسير خلف الأمم المتقدمة بإرادة فولاذية تتحمل عبء كل تفاصيل ذاكرته وموروثه، كيف يتخلى عن الماضي وهو يراه كله انتصارات ومنجزات، إنه الماضي المقدس تماما كالمدينة الفاضلة التي ناقشها الفلاسفة... هكذا نجد التراث الديني يحضر في كل تفاصيل الحياة اليومية، بدءا بكيفية ركوب السيارة، مرورا بكيفية دخول المرحاض واختيار اللباس وانتهاء بآداب الجماع "الممارسة الجنسية"؛ إرث ثقيل يبقي الإنسان المسلم خلف قافلة التطور المسرعة، وبذلك يظل خارج التاريخ. قبل الانطلاق في رصد مفصل لسياق أسلمة اللباس وتناقضاته، لا بد من الإشارة إلى أن هذا النص يشكل الرسالة الثانية، التي تحاول رصد بعض أنماط تديننا، وهو اللباس ومرجعيته الإسلامية التي تبدو منافية لروح الدين، كما أنها تشكل نقطة خلافية فقهية وإنسانية عميقة، تسائل النص الديني والتدين. ولذلك فقراءة هذا النص تتطلب أولا الرجوع إلى النص الأول "رسالة في النص الديني والتدين" الذي يشكل منطلق وأساس هذه الفرضية "اللباس عادة ليس عبادة". كما تجب الإشارة مرة ثانية إلى أن مضامين هذا النص لا تلائم كل إنسان يفضل منطقة الراحة "عدم التفكير"، لا تلائم كل مؤمن بوجاهة التقليد والنقل بدل التجديد واستعمال العقل، لأنه بكل بساطة سيقرأ ما يزعجه ويحرج أوهامه المقدسة، لذلك أنصح كل قارئ لم يطلع على النص الأول "النص الديني والتدين" أو ينتمي للفئات المؤمنة بوجاهة النقل بالتوقف هنا احتراما لاختياره "قداسة النقل وتغييب العقل". لباس المرأة.. رؤية أنثروبولوجية- جغرافية يتجلى منطق النقل والتحريم بشكل فادح في لباس المرأة المسلمة، ولأننا مجتمع ذكوري هناك إجماع فقهي ومجتمعي على ضرورة الحفاظ على النقاب أو الحجاب على أقل تقدير، فلا مجال للحديث عن الحرية هنا ولا مجال أيضا لاحترام الاختلاف، لأن الاختلاف يتخذ ثنائية الحلال والحرام أو العفة والإباحية. تتجاهل الأغلبية العظمى السلوكيات النسائية، بينما تُجمع على أن اللباس يشكل المقياس الأول لأخلاق نسائنا ومعيار تصنيفهن وتحديد منطق التعامل مع كل فئة منهن، "فالسافرات" يمكن اعتبارهن صالحات لعلاقة رضائية عابرة فقط، أما "المحجبات" فهن قوام مشروع الزواج وتأسيس نواة كل أسرة. هذا هو إذن التمثل الذكوري للمرأة في مجتمعاتنا الإسلامية، وهو مستمد بلا شك من الثنائية التاريخية للمرأة في المجتمعات العربية قبل الإسلام وبعده أيضا، "ثنائية الحرائر والإماء"، فالحرة على الدوام كانت سيدة البيت وأم الأولاد، أما الأمة فعلى الدوام كانت للمتعة العابرة فقط، يمكن تبديلها كما تبدل الجوارب. وفي هذا السياق تجب الإشارة إلى أن هناك من الفقهاء من ذهب إلى اعتبار المرأة غير المحجبة مجرد فاجرة، سواء هي أو أهلها. موقف يتخذ وصما اجتماعيا قاسيا، يتجلى في عبارة "ديوثي" التي تُطلق على كل رجل لا يرى عيبا في تحرر زوجته أو ابنته أو حتى أمه من الهندسة الإسلامية للباس. تُستعمل هذه العبارة بشكل لافت من طرف الكثير من الفقهاء ومن يتبعهم من المتأثرين بآرائهم، وبالتالي فقد ظل غطاء الرأس على الدوام المعيار الأساسي لتصنيف النساء أخلاقيا وتحديد مكانتهن اجتماعيا. لماذا لا نتفحص فكرة "تغطية الرأس" ونتساءل هل هي عادة أم عبادة؟ طبعا الجواب من داخل النص الديني والثقافة العربية ليس سهلا البتة، ومما لا شك فيه أن الأمر يتطلب الرجوع إلى النصوص الدينية وموضعتها في سياقها الجغرافي والاجتماعي والاقتصادي، وكذلك العودة إلى تاريخ اللباس لدى العرب وغيرهم من المسلمين. ننطلق بداية من التاريخ باعتباره أساس تشكل الحاضر، وهنا يمكننا أن نستحضر آراء أبرز الباحثين في اللباس الإسلامي، وهما المستشرقان، الهولندي DozyReinhart والأمريكي StillmanNorman ، اللذان أكدا في أبحاثهم العلمية أن نساء شبه الجزيرة العربية قبل ظهور الإسلام كن يرتدين النقابات السوداء ويلتحفن الإزار، خصوصا بالبادية الصحراوية. وفي العهد النبوي لم يتبدل هذا اللباس الوظيفي البسيط، بل تمت المحافظة عليه. ولابد من الإشارة إلى أن ألبسة النساء تنوعت حسب الموروث الحضاري، وحسب البيئة الجغرافية، ووفق نمط الحياة البدوية أو الحضرية، وحسب الطبقة الاجتماعية، وتبعا للمكانة الاقتصادية أيضا. كما يجب التأكيد أن لباس نساء العرب ارتبط بشكل لافت بجغرافية بلاد العرب، فالارتفاع الشديد للحرارة التي تفوق أحيانا كثيرة 50 درجة كان عاملا حاسما في تشكل اللباس، دون أن ننسى الثقافة الذكورية القديمة وما فرضته من نظرة جنسية خالصة للمرأة، استجوبت هذا النوع من اللباس؛ إلى جانب أهمية العامل الخارجي وتأثير الحضارات القديمة والمجاورة، خصوصا الفارسية والرومانية، حيث كان غطاء الرأس عادة مألوفة ومستحبة ومفروضة أحيانا. إذا تأملنا تاريخ اللباس بالمغرب لا شك أننا سنُبهر بجمالية فسيفساء اللباس النسائي إن صح التعبير، ولعل الألبسة التقليدية المغربية أصدق برهان على غنى وجمالية هذا الموروث، الذي شكل استمرارا مبتكرا للباس الأندلسي والأمازيغي. وتجب الإشارة إلى أن فترة الموحدين شكلت مرحلة فارقة في تاريخ اللباس المغربي، الذي تأثر بشكل واضح بتعاليم المشروع الديني الصارم والمتشدد للمهدي بن تومرت بعد رجوعه من المشرق، ومما ورد في الوثائق التاريخية أنه رأى أخت الأمير المرابطي علي بن يوسف بن تاشفين وجواريها سافرات الوجه، عاريات الرأس، فخاطبهن بعنف، وأمر أصحابه فضربوا دوابهن، حتى سقطت أخت الأمير عن بغلتها، وذهبت وهي تبكي شاكية لأخيها حاكم الدولة. وقد شكلت هذه الواقعة بداية محاولات التغيير الثقافي الذي شمل لباس المرأة المغربية بتأثير من الخارج. إلا أن سياق التشدد هذا سينزاح عن مساره، نتيجة قيام الدولة المرينية التي لم تأتِ بمشروع ديني صريح كما حدث مع المرابطين والموحدين، ولهذا السبب انتعشت المذاهب الصوفية وازدهرت الحياة الثقافية. وقد أكدت بعض الوثائق أن اللباس المغربي خلال العهد المريني شهد تطورا وتنوعا هائلين، حيث ظهرت ألبسة مطرزة، منها ما هو ضيق وقصير، والذي كان مبرزا لقوام المرأة. وطبعا هذا اللباس لم يرُق بتاتا للفقهاء المغاربة الذين دعوا إلى ضرورة ستر العورة وعدم التبرج. وفي هذا السياق لا بد من الإشارة إلى أن هذه التحولات العميقة مست بالخصوص كبريات المدن المغربية، كمدينتي فاس ومراكش وغيرهما، بينما ظلت البوادي وإلى حدود اللحظة طبعا، وخاصة بالمناطق الهامشية، تحافظ على اللباس الوظيفي البسيط، حيث لا يلبس الحجاب بمعناه الفقهي الصريح، وإنما يؤخذ شكل اللباس كعادة موروثة فقط. ويرجع هذا من جهة إلى طبيعة التدين السائد، وهو ما يعرف بالإسلام المغربي الموروث والمعتدل تاريخيا، ومن جهة ثانية إلى الأدوار الاقتصادية للنساء وما يفرضه النشاط المنزلي والفلاحي اليومي، حيث يتطلب مثلا التنقل عبر مسالك جبلية وعرة، لباسا يسهل الحركة لا يعيقها. وإذا تأملنا حاليا في واقع أكثر المجالات هامشية بالمغرب تتضح بلا شك هذه الحقيقة، فعلى الدوام ظل الهامش مرآة الحقائق التاريخية. تجب الإشارة إلى أن غطاء الرأس كان ضرورة ملحة للإنسان، سواء للرجال أو النساء، إذ لم يكن للإنسان مفر من العمل والسفر تحت أشعة الشمس الحارقة. ويكفينا الرجوع للتاريخ مرة ثانية، ومقارنة لباس المرابطين المنتمين للصحراء والذين عرفوا في بدايتهم خصوصا بالملثمين، ولباس الأندلسيين المنتمين لمنطقة متوسطية معتدلة، حيث خص غطاء الرأس بالأندلس الفقهاء والقضاة والأمراء فقط. بل حتى في أيامنا هذه كلنا نحرص على تجنب أشعة الشمس أو البرودة الشديدة بغطاء ما. ويتضح المنطق الجغرافي في اللباس إذا قارنا اللباس التقليدي بالبلدان الخليجية حاليا، وحرص الأفراد هناك على ارتداء غطاء الرأس على عكسنا نحن المغاربيون، حيث إن أغلب الرجال يرتدون لباسا تقليديا دون غطاء رأس. والأكثر من ذلك أن لباسنا التقليدي يرتبط فقط بالمناسبات الدينية. تمكن المقارنة هنا بين لباس الرجل ولباس المرأة من إبراز الاختلاف الجغرافي من جهة، وكذلك التحول الاجتماعي الذي مس اللباس أيضا؛ لهذا فاختلاف لباس الرجل جغرافيا وزمنيا يقابله بالضرورة اختلاف لباس المرأة، فلا يمكن تقبل التحول في جانب ورفضه في الجانب الآخر. وبالتالي يمكن أن نستنتج حقيقة أولى مفادها أن غطاء الرأس كان عادة مألوفة فرضها نوع المناخ الحار والعادات القديمة ما قبل وما بعد الإسلام. وعلى سبيل المثال نستحضر عادة نسائية مألوفة حاليا بالجنوب الشرقي المغربي، حيث يسجل اختلاف في لباس المرأة بين العازبة والمتزوجة، فالأولى غير مطالبة بتغطية وجهها بينما الثانية ونقصد المتزوجة مطالبة بذلك ولو بشكل بسيط، خصوصا أثناء مرورها أمام الرجال. الآيات القرآنية بين الأزلية والسياقية يبدو واضحا أن اللباس كان في الأصل عادة وليس عبادة، ومرة أخرى يمكن القول إن أفرادا كُثرا من مجتمعنا اختاروا عدم التفكير والتأمل في الآيات القرآنية وفي آيات الأنفس والآفاق، وفضلوا الخضوع لمنطق التحريم الموروث والعيش بأفكار ابن تيمية أو الشافعي الذي قيل إنه قال "رأيي صَوابٌ يَحتَمِلُ الخَطأ، ورأيُ غَيري خَطأ يَحتَمِلُ الصَّوابَ". وبذلك اختاروا الزمن الجامد على الزمن المتحرك والمتحول، اختاروا العيش خارج التاريخ. وبطبيعة الحال القول بالعبادة أو العادة في اللباس ينبغي أن يُراعى فيه مقصد الشرع والمصلحة الدينية المتوخاة، وكذلك فهم النص في سياقه الخاص والعام. وبالتالي يتطلب القول بالعادة بدل العبادة استدلالا دينيا قرآنيا واضحا، كفيلا بإقناع كل المؤمنين بإمكانية التفكير الحر في تلك الحقائق الواردة بالكتاب والمنسجمة مع العصر، ولذلك سنحاول استحضار النصوص الدينية التي ناقشت لباس المرأة. تتجلى الإشارة القرآنية الأولى في قوله تعالى في سورة الأحزاب: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيءِ إِلَّا أَن يُوذَنَ لَكُمُ إِلَىٰ طَعَامٍ غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ، ولكِنِ إذَا دُعِيتُم فادْخُلوا فَإذَا طَعِمْتم فانتَشِرُوا، ولا مُستَانِسِينَ لِحَديث إنَّ ذَلِكُمْ كانَ يُوذِي النَّبيءَ فَيسْتحْيي منكُم، واللَّهُ لاَ يسْتَحْيِي منَ الحَقِّ، وَإذَا سَألْتُمُوهُنَّ مَتَاعاً فَاسْأَلُوهُنَّ منْ وَرَاءِ حِجَابٍ، ذَلِكُمُ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ، وَمَا كَانَ لكُمُ أنْ تُوذُوا رَسُولَ اللهَّ ولاَ أن تنْكِحُوا أَزوَاجَهُ من بعْدِهِ أبَداً إنَّ ذلكُمْ كَانَ عندَ اللهِ عَظِيماً﴾. (الأحزاب 53). نزلت هذه الآية في السنة الخامسة بعد الهجرة، في سياق تنبيه زوار النبي (ص) من أصحابه بمناسبة زواجه بزينب، حيث تباطأ بعضهم في المغادرة بعد حفل الزواج، وبالتالي الهدف من هذا التنبيه هو حفظ خصوصية البيت النبوي واحترامه. وقد جاء في الآية "السؤال من وراء حجاب"، ويعني ذلك السؤال من وراء ستار أو سِتر، إلا أن أغلب المفسرين كان لهم رأي آخر، ووظفوا الآية في الاستدلال على وجوب لباس المرأة للحجاب أو النقاب. وفي المقابل وللإنصاف طبعا هناك بعض المفسرين الذين فهِموا الحجاب الوارد في الآية على أنه الحاجز الذي يستر ويقسم الفضاء المنزلي إلى قسمين. ومما لا شك فيه أن الآية تنسجم مع واقعنا الاجتماعي سواء في الماضي أو الحاضر، فجميعنا كمغاربة نُدرك جيدا أهمية آداب دخول منازل غيرنا، وإذا عدنا لهندسة منازل القرى المغربية سنجد اجتهادا مبتكرا في ترجمة الآية على أرض الواقع، من خلال عزل غرفة استقبال الضيوف التي لها بابان، الأولى باب خارجية والثانية داخلية تنفتح على المنزل، وهذا بالضبط ما يلاحظه المتجول بجبال تازة مثلا. بل يمكن أن نذهب إلى أبعد من ذلك.. من منا لا يختار بكل عناية زاوية الجلوس الحاجبة للرؤية حينما يزور قريبا أو صديقا، احتراما لخصوصية منزله وفسح المجال لحرية الحركة بالنسبة للنساء. وبالتالي فهذه الآية سواء استندنا لمنطوقها أو لمفهومها فالغاية واضحة جدا، إذا لا تخرج عن توضيح آداب الزيارة ومدتها. نمر للآية الثانية حيث قال تعالى: ﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلنَّبِىُّ قُل لِّأَزْوَٰجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَآءِ ٱلْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلَٰابِيبِهِنَّ، ذَٰلِكَ أَدْنَىٰٓ أَن يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ ۗ وَكَانَ ٱللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا﴾. (الأحزاب 59). يبدو أن منطوق الآية واضح جدا ولا يقبل أي تأويل، فهي تختزل أمرا إلهيا لأزواج وبنات ونساء المؤمنين بضرورة سدل أو إرخاء الجلابيب، لكن علينا أن نستحضر سياق نزولها، الذي ارتبط بما تعرضت له النساء من مضايقات وتحرش أثناء مرورهن أمام تجمعات الرجال، الذين كانوا يحسبونهن من الإماء وليس الحرائر، نظرا لتشابه اللباس. لذلك نزلت هذه الآية تطالب بضرورة عدم كشفهن عورتهن أمام الأجانب من الرجال، وبذلك يُعرفن أنهنّ حرائر ولسن إماء؛ وبالتالي لا يتعرض لهنّ أحدٌ بالإيذاء كما يتعرض به للإماء. وتجب الإشارة إلى أن عورة الإماء حسب الفقهاء لا تتجاوز ما بين السُّرَّة والرُّكبة، بل ذهب بعض الفقهاء ومنهم العثيمين إلى أن "الأَمَةُ لو صلت مكشوفة البدن ما عدا ما بين السُّرَّة والرُّكبة، فصلاتها صحيحة، لأنَّها سترت ما يجب عليها سَتْرُه في الصَّلاة". وأضاف ابن تيمية: "وأما الإماء التركيَّات الحِسَان الوجوه فهذا لا يمكن أبداً أن يَكُنَّ كالإماء في عهد الرسول (ص)، ويجب عليهن أن يسترن كلَّ بدنهن عن النَّظر"، وبالتالي هنا يتضح منطق التحريم، وهو إثارة الشهوة، شهوة من؟ شهوة الرجل طبعا! فما ذنب المرأة أن تُحمل مسؤولية الحالة السيكولوجية والغرائزية للرجل منذ 14 قرنا !! وبمنطق القياس، حينما يغيب السبب تغيب النتيجة أيضا، والسبب هنا التعرض والتحرش للإماء، ولأننا نعيش في القرن 21، زمن لا وجود فيه للإماء، والأكثر من ذلك هو أن الجسد الأنثوي "الاستهلاكي" طبعا أصبح متاحا سواء واقعيا أو إلكترونيا، وبالتالي فالنتيجة أو لنقل فكرة الإثارة التي كانت أساس هندسة اللباس الإسلامي تاريخيا أصبح مشكوكا في صحتها ووجاهتها؛ فهل يُعقل أن نحافظ على الفهم الاختزالي نفسه لكلام الله، الذي علم ويعلم بما في الصدور، ولذلك أنزل حينها آية أخرى وهي الثالثة، التي تؤكد أن غرائز الرجل وشهوانيته مسؤوليته هو أولا. يقول الله تعالى: ﴿ قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ۚ ذَٰلِكَ أَزْكَىٰ لَهُمْ ۗ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ (30) وَقُل لِّلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَىٰ جُيُوبِهِنَّ ۖ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ نِسَائِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَىٰ عَوْرَاتِ النِّسَاءِ ۖ وَلَا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِن زِينَتِهِنَّ ۚ وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (31)﴾ (سورة النور). تُعد هذه الآية أكثر الآيات تفصيلا وتوضيحا لقضية المرأة وفق المنظور القرآني، وتبدأ بضرورة غض البصر. والمفارقة هنا أن الله تعالى خاطب المؤمنون أولا، وهذا ما ينسجم مع منطق الغريزة البشرية وحتى الحيوانية، فعلى الدوام تأتي المبادرة الجنسية من الذكور وليس من الإناث، إلا في حالات استثنائية، والاستثناء ليس قاعدة للقياس. في هذا الصدد يمكن أن نستحضر تلك الفكرة المضحكة التي يتداولها الكثير من المدافعين عن اللباس الإسلامي – حسب فهمهم طبعا، حيث تُشبه المرأة بالحلوى، ويقولون إن الحلوى العارية تجمع الذباب على عكس المغلفة، في تجاهل صارخ لمنطق غض البصر القرآني أو لنقل لمنطق تجاهل الحلوى حسب مثالهم الشهير. والأكثر من ذلك أن الذباب من عاداته حب المناطق العفنة أيضا كمطارح النفايات، وبالتالي فهذا تمثيل يخص ثقافة الذباب نفسه أكثر من شكل الحلوى!! فضلا عن ذلك فإن هذا القول يضرب في أخلاق المرأة وفي قيمتها ويجعلها مجرد "جسد أنثوي" خلق للمتعة فقط وينفي بشكل مطلق أي دور لهذا الجنس غير ممارسة الجنس. وتجب الإشارة إلى أن تغليف جسد المرأة أو تعريته يدخلان ضمن منطق التفكير نفسه، فالأول يعتبرها جسدا مستباحا والثاني يعتبرها جسدا تجاريا، إنما الأصح هو اعتباره جسد إنسان حر. والمرأة الحرة طبعا هي التي تمارس حياتها الاعتيادية مثل الرجل تماما وترتدي اللباس النسائي المألوف اجتماعيا، بل وتبتعد كل البعد عن هوس الغطاء الشامل أو العري الشامل أيضا. نعود للآية التي أشارت أيضا إلى ضرورة إبداء ما ظهر من الزينة، وهنا نقطة خلافية عميقة، فهناك من المفسرين من يؤكد أن المقصود هو ما ظهر من الثياب وهو قول ابن مسعود، ومنهم من يقول الوجه والكف وهو قول الأعمش عن ابن العباس، لكن إذا نظرنا إلى مفهوم الآية وليس منطوقها فقط فقول "إلا ما ظهر" فيه اجتهاد، لأنه لم يحدد بشكل مطلق، وعدم التحديد هذا هو في جوهره يعكس المعرفة الربانية بأحوال الناس، لماذا؟ لأن الله يعلم طبعا أن ما ظهر من الزينة يختلف زمنيا من عصر إلى آخر، وجغرافيا من منطقة إلى أخرى، حسب المناخ وحسب العادات أيضا، فعلى سبيل المثال إذا ذهبنا إلى إفريقيا الاستوائية، التي تسجل حرارة مفرطة على مدار السنة، فما ظهر هناك ليس هو ما ظهر في سيبيريا حيث تُسجل حرارة منخفضة جدا على مدار السنة تقريبا، ولأن الله أعلم بكونه وخلقه، ترك الأمر مفتوحا لينسجم مع الظروف المختلفة حسب الأمكنة والعادات المتحولة حسب الأزمنة. أما بالنسبة لقوله تعالى "ولْيضربن بخمُرِهن على جيوبهن"، فيعتبر أساس وجوب النقاب حسب ما يزعمه المدافعين عن هذا الرأي. ومن المعلوم أن المقصود بالجيب هو جزء من الصدر، وبالضبط هو ما بين الثديين، فكما يقال جيب الأرض أي مدخلها ويراد أيضا بالجيب لغويا الفج أو الشق أو التجويف، وبهذا فمعنى الجيب واضح والمنطقة المشار إليها معلومة، وهذا ما أجمع عليه معظم الفقهاء، ومن بينهم سعيد بن جبير الذي قال (وليضربن: وليشددن "بخمرهن على جيوبهن" يعني: على النحر والصدر، فلا يرى منه شيء) ويقصد بالنحر أعلى الصدر. لنذهب إذن إلى معنى الخمار، وهو كل ما ستر، ويقصد به العمامة، وقد قال بلال عن النبي (ص): "مَسَحَ رَسُولُ اللَّهِ عَلَى الْخُفَّيْنِ وَالْخِمَارِ"، ومعنى هذا أن الخمار كان لباسا شائعا بين الرجال والنساء، غايته حماية الرأس من أشعة الشمس، وبالتالي فالخمار لا يتعلق فقط بالنساء بل بالرجال أيضا، وخمار الرجل لم يكن لغيطي بالضرورة كل خصلة من شعره، كما هو الحال بالنسبة للنساء، فمنطوق الآية هنا أشار لمنطقة معينة كانت محل إثارة، أما مفهومها فيمكن استنتاجه من الآية نفسها، حيث ورد بعد ذلك حديث عن الزينة "ولا يبدينَ زينتهنَّ"، وهذا يؤكد وفق منطق اتساق الكلام وبناء الخطاب أن منطقة جيب الصدر تعد زينة أساسية، وعليها يكون القياس والفهم، فكيف يعقل أن يشير الخطاب القرآني إلى منطقة مثيرة فعلا، بينما يفهم بذلك الجسد كله، وبالتالي فالمراد من مفهوم الآية هو تغطية جيب الصدر بضرب الخمار، وليس إسداله أو إرخائه كما هو شأن بالنسبة للنقاب، وكما جاء في الآية السابقة "يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلَابِيبِهِنَّ". ومعنى الضرب يفهم من سياق الآية طبعا، لأن لفظة "ضرب" تتميز بتقلب دلالتها كما هو شأنها بثقافتنا المغربية. وقد قال تعالى في مواضع أخرى من القرآن "ضرَبَ اللَّهُ مَثَلًا" سورة التحريم الآية 10′′. وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ "سورة البقرة الآية 61، "وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ" سورة النساء الآية 101. ويعبر تعدد سياق توظيف "ضرب" بتعدد دلالتها وفهمها أيضا. ورد أيضا في الآية قوله تعالى: "وَلَا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِن زِينَتِهِنَّ"، وقد أجمع ابن عباس وغيره من الفقهاء الأوائل أن المقصود بضرب النساء لأرجلهن هو إسماع صوت قرعهن لخَلْخَال القدمين أمام الرجال إلى جانب تحريكهن لأرجلهن أثناء المشي بشكل يظهر زينتهن. من باب فهم عميق لشكل الخمار آنذاك، لماذا لا نستحضر بيتا من أبيات شاعر الرسول (ص) حسان بن ثابت، باعتبار الشعر كان يعكس الواقع الاجتماعي للمجتمعات العربية، ويقول البيت الشعري: "تظل جيادنا متمطرات* يلطمهن بالخمر النساء"، ويعني ذلك مسح النساء وجوه الخيل، ونفض الغبار عنها بخمرهن، وهذا يعطي انطباعا بأن الخمار لم يكن محيطا بكامل الرأس، إنما مجرد غطاء رأس يمكن استعمال أطرافه في مسح وجوه الخيل ونفض الغبار عنها، وبالتالي فالخمار كان عادة قبل نزول سورة النور المدنية، والتي وردت بها الآية السابقة، التي جاءت لتصحح لباس الخمار فقط، وتجنب تلك العادة بإظهار جيب الصدر المرفقة بوضع خمار الرأس في الوقت نفسه. يتضح انطلاقا مما سبق أن الخمار كان من العوائد الثقافية المألوفة التي فرضها المناخ والتثاقف أيضا مع سكان الحضارات المجاورة للعرب، وأن الآية جاءت فقط لتصحح جزءا سيئا من هذا اللباس، وهو فتحة جيب الصدر التي كانت عادة شائعة بين النساء في إظهار زينتهن "تجويف الصدر". وهذا أيضا لا يختلف طبعا عن واقعنا حاليا، فمثلا هناك شبه إجماع بين المغاربة على رفض السراويل الممزقة التي تظهر جزءا من الفخذ سواء بالنسبة للذكور أو الإناث، وهي عادة مستجدة طبعا، فما بالك بعادات العرب قديما؛ وبالتالي نحن أمام خطاب جغرافي – زمني يتعلق من حيث المنطوق بشبه الجزيرة العربية وبفترة النبي (ص)، أما من حيث المفهوم فنستنتج منه ضرورة ستر السوأة وعدم إظهار الزينة، والزينة هنا تختلف بين الشعوب، فإذا كان الشعر زينة لدى سكان شبه الجزيرة العربية لأنهم لم يتعودوا على رؤيته بالنسبة للرجال فما بالك بالنساء، فهو ليس بزينة تاريخية لدى سكان شمال أفريقيا أو أوروبا الغربية أو اليابان، فالاعتدال المناخي أفضى لاعتدال في اللباس رغم أن الأديان وخصوصا الإبراهيمية منها أجمعت على ضرورة تحجب المرأة، وهو فهم يُفسر بالنظرة الذكورية التي كانت سائدة، والتي اتخذت جدلية المدنس والمقدس في تمييز سافر بين الجسد الذكوري والجسد الأنثوي. فيكفي النظر في حياتنا اليومية وفي سلوكياتنا لتتضح الفكرة، وبالضبط لماذا أصحاب الحوانيت يلفون الفوطة الصحية التي تستعمل خلال الدورة الشهرية في أوراق ويضعونها في أكياس بلاستيكية كأنها مواد ممنوعة، أهي كوكايين مثلا؟ إنها نظرة قروسطية للإنسان، تتغافل عن الرجل وتطوق المرأة في الزاوية، فكأن الحيض من عمل الشيطان!! لكنه في حقيقة الأمر مجرد حدث بيولوجي طبيعي وجودي، ضمن ويضمن للجنس البشري الاستمرارية. لباس المرأة عادة ليس عبادة ما الحل إذن لتدين – للباس أكثر عقلانية وواقعية؟ الحل هو التمييز بين الآيات القرآنية الأزلية، وهي خطاب وجودي للإنسان، عابر للزمن والمكان، إذ يستحيل موضعة الآيات الوجودية في سياق جغرافي أو اجتماعي محددين، فهي خطاب أزلي عام كقوله تعالى ﴿ يَا بَنِي آَدَمَ قَدْ أَنزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآَتِكُمْ وَرِيشًا﴾)الأعراف: 25(. في المقابل نجد الكثير من الآيات الي نزلت في سياق جغرافي واجتماعي معين، كالآيات السابقة التي ناقشناها، وبالتالي فتغير السياق يفرض تغير الفهم والتفسير، وفق ما يتماشى مع العقل والواقع، وليس الإصرار على العيش خارج التاريخ بلباس يعود لما قبل الإسلام. وهنا أتحدث عن المغرب وشمال افريقيا عموما، أما بعض البلدان الإسلامية كاليمن أو أفغانستان أو غيرهما فعادات لباس النساء هناك غير عادات نسائنا بالمنطقة المغاربية عموما، التي تختلف أيضا عن عادات اللباس بالبلدان الأوروبية أيضا. وتجب الإشارة إلى أنه من باب الاندماج في المجتمع عدم الغلو والشذوذ، ويعني ذلك أن الأسلم هو لباس ما هو شائع بين أفراد كل مجتمع، لهذا يمكن أن تجد حتى بعض النساء الأمريكيات يلتحفن غطاء للرأس خلال زيارتهن إلى مكة مثلا، وهذا من صميم احترام عادات الآخر المختلف. وبالتالي لا يجب أن نحاكم لباس غيرنا بمنطقنا الاجتماعي والثقافي والجغرافي، إنما علينا النظر إلى واقعنا نحن فقط ومواجهة كل ثقافة طارئة أو موروثة تحاول تسليع أو تشييء المرأة، وخدش الإسلام المغربي بل والمغاربي عموما، المعروف تاريخيا بجمالياته وتسامحه واعتداله. يمكننا الافتراض استنادا إلى ما سبق أن اللباس عادة وليس عبادة، وعلى سبيل المثال لا الحصر، يمكن القول إنه لا ضرر حسب النص الديني طبعا من ترك غطاء الرأس بالنسبة للنساء المسلمات المقيمات بالمجتمعات الغربية، حيث يصبح غطاء الرأس بمثابة مانع أساسي من موانع الاندماج الشامل، وعلى وجه الخصوص النقاب الذي يتخذ في الغالب تغليفا شاملا للمرأة، ما يعد إلغاء سافرا لهويتها وحقها الوجودي في العيش الحر المشترك، والأكثر فداحة أن النقاب المتداول حاليا لا يخرج عن لون واحد في تناقض فادح مع منطق تعدد ألوان الحياة والطبيعة التي وهبنا الله إياها، حيث يبرز اللون الأسود فقط، لونٌ للباس نساء مخفيات الهوية ملغيات الوجود، موقف وسلوك يعكسان نوعية الأيديولوجية المتطرفة السائدة بين الكثير من المسلمين الذين اكتفوا بالاجتهاد الموروث وأفهام بعض الفقهاء وفضلوا منطقة الراحة الفكرية، وفضلوا أيضا كل الامتيازات التي تتيحها الهيمنة الذكورية تُجاه النساء المسلمات.