ويحدث أن أتوقف بغتة أمام واجهة بناية، فأتأمّل النوافذ والشبابيك والشرفات، والناسُ من حولي، والمارة حائرون، يفكرون، يتساءلون -وأنا معهم- "ماذا دهاني؟!".. وإني لا أجد لهذا الهوس تفسيرا سوى أنه خصيصة نفسية.. وإني، قبل أسبوع، مررت من هناك حيث ينتهي العمران جهة البطحاء، ونظرت محاسن المبنى باستغراق أثار حفيظة الرفيق حتى كاد ليمسك بناصيتي وينهرني أمام عيون الأشهاد لولا خبز أمي وشاي أمي، وقهوة وبغرير أمي.. وقبلها.. طفت بالديار، سلكت المسالك، وشممت رائحة بوخرارب الزكية حتى كاد يغمى عليّ من النشوة، وروائح الجلد، والمنسوجات، والجلاليب، والقفاطين، والقنادير، والزليج، والمنمنمات، والعطور، ورائحة السياح؛ أنقليزَ وفرنسيين وجرمانَ وصينيين وهنودا وأتراكَ وخليجيينَ وأمريكان وأمريكانو لاتينيين وكنديين، والخليعَ، والشباكيةَ، والشواءَ، والهرقمةَ، والثريدَ، والملاوي، والمعقودة، والحريرة، والبيبوشَ، وشلوانَ، والنعناع، والعصيدة... إلى أن داهمني خارجا من طلل قيد الترميم بنّاء يحمل فوق كتفيه الكريمتين أكياسا تنبعث منها رائحة مميزة بأخلاط متجانسة؛ غبار كثيف متصاعد، آهات وأوجاع، وصيحات استغاثة أيقظت في قرار مكين من ذاكرتي رائحة موت سحيق فجائي بنيرانَ صديقةٍ أساءت تقدير الإحداثيات والهندسيات لحظات قبل الانهيار... وإني بروح المقيم العارف وباستغراق فيلسوف راسخ لأتأمّل المتحرك أيضا قدرَ تأمّلي الجامدَ الساكنَ.. وإن لها لأثر السحر الأسود تلك السحنات المتعاقبة لا يأبه لمرورها أحد غيري.. وإن من بينها قسمات رجل عبوس، ثابت على مبدإ العبوس مذ عرفته لا يرتضي عنه بديلا.. وإني لأعتقد يقينا إلى اليوم أنه (المسيح) الذي يحمل عنا كل أعباء وهموم وكبائر وخطايا الدنى منذ الخليقة الأولى إلى يوم الناس هذا وإلا لكان صنفنا البشري انقرض قبل قرون سحيقة.. وأذكر أنني حينما أتممت قراءة كتاب عن التصوف ازددت تقربا إلى شيخ ثمانيني أسمرَ، شامخٌ سامقٌ قوي البنيان لا يرتدي سوى عمائمَ وسراويلَ ودرابيلَ، ممسك -مذ رأيته- بتلابيب سبحة لا يفارقها، لا يفتر لسانه عن ترديد أورادَ أحيانا يتلوها من كتاب قضمته الأرضة وظهره إلى الجدار آخِرَ مسجد الرنجة، هنالك حيث يجتمع خرير الماء، بشجر النرند، بالحصير، بالبلاط، بالزليج، بزقزقة العصافير.. وكنت أمسك براحته وهامتي إلى الأسفل قليلا فيحررها بلطف من قبضتي، فنقبل سويا أطراف أناملنا، هو بتواضع الشيخ العارف بالله وأنا بطمع التلميذ المريد.. وكنت أحبه في الله لورعه ونقاء سريرته وتطابق ظاهره مع الباطن، وكنت أعتقد جازما أن له حظوة عند السماء، وأن مائدة تتنزّل عليه كل مساء.. ولكم وددت أن أتوسل له: "يا شيخ اذكرني عند ربك"... لولا خشيتي من ردة فعل صادمة لا تتطابق وكل هذه التصورات المثالية الربانية. وإني بقدر تأملي الأخيارَ وتشوفي إليهم، نظرت الأشرار بذات اللهفة والتشوف والرهبة والإعجاب، وكانت لالة زينب (هذا اسمها إن لم تخني الذاكرة)، بوشاحها الأخضر غالبا، وحليها المخيفة، وخواتمها، وتمائمها، وأسمالها وخرقها البالية المزركشة وتلك الحياة البوهيمية التي عاشتها، مثالا حيا عن أولئك الأشرار أو لعلّه كان تمثلا قاصرا فحسب.. وكانت تنبت في ساحة "بجق عينو" العامرة بغتة من عدم، تماما كشجرة الزقوم التي تخرج في أصل الجحيم، وطلعها كرؤوس الشياطين، تتكئ على عصاها الغليظة، تشير أو تلوح بها حسب الحال والمقام، وكانت لها كاريزما لافتة وشخصية قيادية قوية وبروفايلُ الساحرة لا تعوزها عدا المكنسة وعين المخرج اللاقطة لموهبتها... وعلى ذات الحال الذي تركته عليه قبل عقود سحيقة في هوامش المدينة القديمة لفاس، ألفيته قبل أشهر في أحد الأحياء الراقية، قلقا، هائما شريدا يلمّ المتلاشيات، يفتّش الحاويات، ينبش خشاش الأرض، ويتناول سقط المتاع.. مع فارق جوهري، ألا أحد بات يطارده اليوم بعد أن كبر ومالت ملامحه نحو القناعة والرضا والنضج والاعتدال. وإني لأعتقد جازما أنه كان ولا يزال وسيبقى إلى أن ينزع الله روحه من الجسد أحد المعذبين في الأرض وما أكثرهم. وكنت أعشق النظر إليه وهو يمر من الزقاق؛ محدودب الظهر، حافي القدمين، واثق الخطوة يمشي مَلكا، كمن يسير فوق سحاب، حكيم المجانين عراب.. وكنت لا أشك في أن صمته الأزلي ينطوي على سرّ رهيب، وأن فكرة فلسفية عميقة شجت وعيه وأجهزت بالكامل على منطقته الرمادية.. ولطالما راقبت من بعيد ذا الشعر الكثيف الأشعث الملولب والندبة الغائرة على وجهه، عاكفا على قطعة حشيش يلفها بمهارة، أو يبيعها بشموخ الكبار، وعيناه تغمزان بعفوية سحلية، وترصدان الأرجاء كرادار متوجستين من مداهمة تزج به في غيابات السجن.. وإني أتحقق وأتعمّق وأتعملق وأستغرق وأتماهى كلما جلت وحيدا لا يكدر صفوي رفيق مزعج ينظر إلى ساعة يده شزرا يحاول أن يقيس زمن المدينة القديمة لفاس بمعيار فاسد، بينما فاس لم تبرح بعد أزمنتها السحيقة.