لا يسعني إلا أن أُقِرَّ بأن التهليل الذي لاقاه انتصار الفيلسوف رافاييل إنثوفن على برنامج الدردشة الذكي "شات جي-بي-تي" هو مجرد انفعال وجداني وحَسْب، وانتشاءٌ مكبوتٌ انْفَرَجَ وصَدَر عن "أنا فلسفية مجروحة"؛ هذه الفلسفة "المسكينة" التي تأخرت كثيراً عن ركب سادة العلوم المعاصرة (خصوصاً المعلوميات والرياضيات والتكنولوجيات الرقمية والإلكترونية). في هذا السياق، أَجِدُ من الحصيف طرح التساؤل الآتي: كيف يُمْكِنُ لفيلسوف اليوم أن يُحَلِّلَ ويُنَاقِش ويفكك "إنتاجات التكنولوجيا والمعلوميات المعاصرة"؟ علما بأن هذا العقل العلمي والمُنْجَزَ التقني يسير بسرعة تطورية هائلة؟ لابُد في معرض تحليلنا أن نقف على ما يفعله الفلاسفة اليوم، ففي كتاباتهم الرصينة، وفي تدويناتهم على وسائل التواصل الاجتماعي، بل وفي خرجاتهم الإعلامية التي لا تخلو من بيان وخطابة، نجدهم يتحدثون بثقة عن سلبيات التقدم التكنولوجي ومخاطره الأخلاقية؛ مع ذلك، يبدو كلامهم في كثيرٍ منه من البديهيات التي يَعْلَمُها أي شخص عامي بسيط، اللهم أن كلام هؤلاء الفلاسفة مُزَيَّن باستشهادات فلسفية واقتباسات بديعة لمقولات مسكوكة، فهَا هُم يستشهدون بكانط تارة وديكارت تارة أخرى، وبسبينوزا تارة وبأرسطو تارة أخرى. إن كلامهم جميل وبديع فعلا، وهذا الجمال اللغوي رُبَّمَا نَجِد له مبررا مقبولا، خاصة أن العديدين من هؤلاء الفلاسفة هُم من الحاصلين على شهادة التخرج في شعب الآداب والعلوم الإنسانية أيام الدراسة الثانوية، لذلك لن نستغرب امتلاكهم لزاد جيد في البيان وعلم الكلام؛ إلا أنهم في المقابل يجدون صعوبات جمة عندما يفكرون في الاقتراب من الأبحاث العلمية في مجالات المعلوميات والتكنولوجيا؛ أتحدث هنا عن باحث-فيلسوف يخجل ويتحرج من طَرْقِ المقالات العلمية الراهنة، تلك التي تحتوي على ما جد واستجد في عالم التقنية، إذ كيف يُمْكِن لفيلسوف أن يستوعب جديد هذه الأبحاث العلمية، وهو الذي يفتح فمه فاغراً عند النظر إلى محتواها، كشخص مددتَ له مخطوطا يحتوي طلاميساً سحرية غامضة (لاحتواء هذه المقالات على الرموز الرياضياتية والبناءات الجبرية والهندسية المعقدة). مما لا شك فيه، سينبري الكثيرون للدفاع عن الفلسفة والدفاع عن أهميتها النقدية والتساؤلية، لكنهم مع ذلك يعلمون في قرارة أنفسهم بأن هناك من الفلاسفة الكبار اليوم من يَشْهَدُون بقصور الفلسفة وتأخرها، بل وموتها أيضا! بالعودة إلى الحدث الذي كُتِب المقال لأجله، وأعني تهليل جمهور الفلسفة بعد فوز مُمَثلِها على على شات جي-بي-تي؛ أجد نفسي أقف في صف أولئك الذي يُرْجِعُونَ فرحة العاملين بالفلسفة إلى انفعال وجداني لا إلى قراءة عقلانية سليمة. إن الذكاء الاصطناعي لا طالما هَزَمَ منذ التسعينيات أبطالنا البشريين في تخصصاتهم التي يبرعون فيها، بدءاً بالانتصار المَهِيب الذي حققه الحاسوب (ديب بلو) على نابغة الشطرنج وأعظم روادها التاريخيين "غاري كاسباروف" في سنة 1997. منذ ذلك الحين، استطاع المبرمجون أن يصنعوا "آلات ذكية" تفوقت على البشر في كثير من المجالات والقطاعات، والفلسفة لن تكون بأي الأحوال استثناءً، ما دامت هي الأخرى نمطا معرفيا من خلق البشر، لا من خلق آلهة كاملة أو من خلق كائنات كونية قادمة من كوكب آخر! كَفَاكُم نرجسية يا معشر الراكبين في قطار الفلسفة البطيء، كفاكم استعلاءً وزهواَ، أَحْسَبُكم أشبه بالدونكيشوت الذي تأخر به زمانه، وظل يلوح بسيفه يمينا وشمالا يُصَارِعُ الريح بجسده، مُستكينا مُستلذا بالماضي المجيد القابع في مخيلته. للأمانة، لم يَدَّعِ القائمون على شات جي-بي-تي يوماُ بأنهم صَمَّمُوا برمجية تستهدف هزيمة الفلاسفة، ولا ادعوا بأنهم يستهدفون هزيمة صنف آخر من العلوم، وكل ما هنالك ضجة إعلامية وتسويق ل"شو Show" إذاعي وتلفزي، الهدف منه تقديم الفرجة واجتذاب الجمهور لمشاهدة هذه "المبارزة السينمائية" بين الفيلسوف والذكاء الاصطناعي الذي تم التسويق له "بهتانا" على أنه بارع في الفلسفة! كل ما أَقَرّ به صُّنَّاع شات-جي-بي-تي هو التأكيد على أن "منصة الدردشة الذكية" هي مجرد نظام شبيه بمحرك البحث غوغل، يكتفي بإجراء تنقيبات واسعة في قواعد البيانات الضخمة على الانترنت، قبل أن ينتقي ما هو مطلوب منه ليعيد صياغته وتركيبه بأسلوبه الخاص. في ذات السياق، كثيراً ما قَدَّمَ شات جي-بي-تي معلومات خاطئة ومغلوطة، وأغلب الذين جَرَّبُوهُ يَعْلَمُون ذلك علم اليقين، فمواقع الويب التي يستعين بها مليئة بالغث والسمين؛ ضِف إلى ذلك أن شات جي-بي-تي عبارة عن برمجية غير متخصصة، أي أنها برمجية "شديدة العمومية" لم تُصْنَع لكي تكون بارعة بشكل "خاص وحصري" في أي مجال ما بعينه. لو أرادت شركة ما تكنولوجية أن تُطَوِّرُ ذكاءً اصطناعياً مبهراً في "الكتابة الفلسفية"، ستستطيع ذلك دون أدنى شك، يكفي أن يُخَزِّنَ المبرمجون في هذا الذكاء الاصطناعي حصادا هائلا من مؤلفات الفلاسفة، وأساليبا ثرية ومتنوعة في أنماط التحرير والصياغة اللغوية البديعة والمنهجية، وبعدها فليتبارى المتبارون، ووقتها سينهزم الفيلسوف وسيزداد جرح النرجسيين أكثر وأكثر. هذه البرمجية التي أفترض أن بوسعها هزيمة الفيلسوف البشري هي برمجية لا يُمْكِنُ أن تكون في ملكية العامة كما هو حال شات جي-بي-تي، إذْ كيف يُعْقَلُ يا معشر العقلانيين أن يتم طرح ذكاء اصطناعي متخصص وبارع في قطاع التعليم لأغراض الغش بشكل مجاني أو بمبلغ زهيد كما هو حال شات جي-بي-تي؟! إن برمجية الدردشة هذه أشبه بمُثَقَّفٍ "عام" قَرَأَ في كل المجالات، لكنه رغم موسوعيته لا يستطيع مضاهاة طبيب متخصص في جراحة الدماغ، عندما يكون موضوع النقاش يدور حصرا حول جراحة الدماغ! في الختام، أعتقدُ بأن هذا التهليل والانتشاء بالفوز، لا يُعَدُ أن يكون سوى دليلٍ على الجرج العميق الذي يكتنف صدر المشتغلين بالفلسفة، والذين يؤلمهم اتساع البون الشاسع بين قطارها البطيء وقطار التكنولوجيا والعلوم السريع؛ دون التغاضي عن ذلك الخوف القاسي الذي يستكين في وجدان محبي الفلسفة وعشاقها، وأنا واحد منهم، وهو الخوف من هلاكها! (*) أستاذ الفلسفة وباحث في السوسيولوجيا