نعيش في العصر الرقمي بما له من فرص ومخاطر. ومن ضرورات هذا العصر اعتماد الرقميات لرفع مجموعة من التحديات الجسيمة، الاقتصادية والمالية والتجارية والإدارية، في زمن يتسم بسرعة التحولات التكنولوجية التي تزيد بشكل غير محدود في سرعة العولمة بكل أبعادها. وفي حالة المغرب، يعتبر النموذج التنموي الجديد الرقميات رافعة للتنمية والتغيير. واليوم، ونحن في بدايات تنزيل هذا النموذج بعد الخروج النسبي من "كورونا" التي لن تنتهي تداعياتها الاقتصادية والاجتماعية في القريب المنظور وقد انضافت إليها تداعيات الحرب الروسية – الأوكرانية، يبدو أنه لا ضير في إعادة النظر في دور الرقميات في ضوء هذا النموذج، والآليات التي ستمكن من تجسيدها على أرض الواقع، والتحديات الرئيسية التي حددها التقرير العام المتعلق بهذا النموذج، وتسجيل الملاحظات والتساؤلات التي تفرضها القراءة في هذا التقرير العام. وسنحاول استنتاج ما يمكن استنتاجه في هذه المرحلة، دون ادعاء بامتلاك الحقيقة. وهدفنا من كل هذا المشاركة في النقاش العمومي المستمر حول هذا الموضوع بالغ الأهمية لإعلام المواطن العادي والقارئ العام؛ لأنه من حقهما أن يعلما ما يحيط بهما وما يعنيهما من قرارات اقتصادية واجتماعية وسياسية. في دور الرقميات وآليات تجسيدها في ضوء النموذج التنموي الجديد الرقميات رافعة من الرافعات الخمس التي حددها النموذج التنموي الجديد لإحداث التحولات الهيكلية المنشودة في المغرب، وهي تمثل رافعة حقيقية للتنمية والتغيير. ولأنها كذلك، أو هكذا ينبغي أن تكون في منظور هذا النموذج، يجب إيلاؤها اهتماما على أعلى المستويات في هرم الدولة باعتبارها محفزا للتحولات المهيكلة ذات الأثر القوي. وتتمثل التحولات الخمس المهيكلة المشار إليها أعلاه في: خلق اقتصاد منتج ومتنوع يخلق القيمة المضافة ومناصب الشغل ذات الجودة، ورأسمال بشري أقوى وأحسن استعدادا للمستقبل، وإدماج لجميع المواطنين وتعزيز الرابط الاجتماعي، وخلق مجالات ترابية مستدامة وقادرة على التكيف وأخيرا إحداث فضاءات لترسيخ التنمية. وتمكن الرقميات من رفع مستوى الثقة بين المواطن والإدارة والمقاولات والدولة. ويتأتى ذلك من خلال مساهمتها (مساهمة الثقة) في جعل العلاقة بين الدولة الممثلة بإداراتها والمواطن، وبين الدولة والمقاولة، أكثر شفافية وإنسانية. والسؤال هو: ما هي الآليات والوسائل التي ستمكن من تجسيد ذلك على أرض الواقع حتى يصبح ملموسا لدى الخاص والعام؟ يتمثل جواب النموذج التنموي الجديد في ضرورة اعتماد الدولة على مساطر وإجراءات مبسطة وواضحة وتقديم خدمات بجودة عالية. ويتطلب ذلك بنية تحتية ذات جودة على مستوى كل التراب الوطني. وهنا نستحضر مع القارئ، على سبيل المثال لا الحصر، الاختصاص الموكول قانونيا للجماعات من خلال القانون المنظم لشؤونها (رقم 113.14)؛ وهو تقديم خدمات القرب لساكنة تراب كل جماعة على حدة في المملكة المغربية. وفي هذا السياق، والقصد تمكين الرقميات من الرفع من مستوى الثقة بين المواطن والدولة والجماعات الترابية والمقاولات (...) هناك آلية أخرى في منظور النموذج التنموي الجديد؛ وهي تتمثل في المنصات الرقمية التي توفر قنوات جديدة لتقديم الخدمات وتسهل ولوج المواطنات والمواطنين وكل الفعاليات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية إلى المعلومة. ومن جانب آخر، فإن هذه المنصات الرقمية ستساهم في تحديد المسؤوليات وتحملها من قبل مختلف المتدخلين تجاه الرأي العام. وحسب هذا النموذج التنموي، فإن الرقميات تساهم في إحداث تحول جذري فيما يتعلق بجودة الخدمات العمومية وطرق الولوج إليها، وبصفة خاصة في المناطق النائية؛ الأمر الذي يجعل منها وسيلة للإدماج الاقتصادي والاجتماعي والترابي. وحسبه دائما، فإن، الأداء عن بُعد، من خلال تسهيل العمليات التجارية والخدمات يشكل فرصة للإدماج الاقتصادي والاجتماعي للساكنة في وضعية هشة والتي لا تتوفر في معظمها على حسابات بنكية. التحديات الخمسة الرئيسية بناء على ما جاء في التقرير العام المتعلق بالنموذج التنموي الجديد، يجب رفع خمسة تحديات رئيسية للتعبئة الكاملة للإمكانات التي تتيحها التكنولوجيات الرقمية فيما يتعلق بالأوراش التنموية بالمغرب، وهي بشكل أوضح: التحدي الأول: ضرورة اعتماد استراتيجية للتحول الرقمي يعهد بإدارتها إلى أعلى مستوى. ولتحقيق ذلك، يتعين أولا وقبل كل شيء إحداث فريق مكلف بالمهمة على شكل مندوبية وزارية للسكنى. والتحدي الثاني: تأهيل البنيات التحتية الرقمية للصبيب العالي والعالي جدا الثابت والمحمول. والتحدي الثالث: تطوير منصات رقمية بالنسبة لكل الخدمات المقدمة للمواطنين والمقاولات، وكذا منصات تسمح بالمشاركة على المستوى الوطني والترابي. ويبقى تسريع رقمنة الإدارة ضرورة مستعجلة من خلال إنشاء منصة رقمية موحدة تسمح للمواطن بالولوج إلى كل الخدمات الإدارية الضرورية لحياته اليومية. والتحدي الرابع: تكوين الكفاءات بأعداد رقمية تكون قادرة على إنجاز التحول الرقمي وتنفيذه على أرض الواقع. وقد جاء في هذه التوصية: "لا يتم حاليا سوى تكوين أعداد قليلة من هذه الكفاءات (...)". والتحدي الخامس: يجب استكمال الإطار القانوني الهادف إلى ضمان الثقة الرقمية للمستعملين والسيادة الرقمية للمملكة. ملاحظات وتساؤلات إن قراءة متمعنة في التقرير العام المتعلق بالنموذج التنموي الجديد باعتباره خارطة طريق بالنسبة للحكومة الحالية تمكن من تسجيل مجموعة من الملاحظات والتساؤلات التي يبدو أنها ستفيد في تقييم نتائج المرحلة الأولى من تنفيذ التوصيات والطروحات التي يقدمها هذا النموذج، ومنها ما يلي علاقة بالرقميات بشكل مباشر أو غير مباشر: مما جاء في بداية هذا التقرير العام: " (...) لقد أبان المغرب عن فهم عميق للأزمة الحالية، باعتبارها ليست مجرد أزمة عابرة، بل لكونها تؤشر على تحولات هيكلية عميقة لها انعكاسات على كافة المستويات الترابية ومجالات السيادة الوطنية على المستوى الاقتصادي، الغذائي، الطاقي والرقمي (...)". وبناء على هذه الملاحظة الأولى، فإن السؤال هو: إلى أي حد ستمكن (من التمكين) الرقميات من تسريع وتيرة الرفع من التحديات الجسيمة التي تنتظرنا للخروج من الأزمة الحالية والتي هي كما جاء في التقرير العام ليست عابرة؟ ونلاحظ أن مؤشراتها ما زالت حاضرة وقد ازدادت حدتها منذ بداية جائحة "كورونا" وتعمقت مع الأزمة الراهنة الناجمة عن الحرب الروسية/ الأوكرانية. وتتعلق الملاحظة الثانية بتمكين الرقميات من رفع مستوى ثقة المواطن تجاه الفعل العمومي ومدبري الشأن العام. والسؤال هو: ما هي مؤشرات بداية استرجاع هذه الثقة اعتمادا على الرقميات؟ لقد سجلت اللجنة الموقرة، خلال جلسات الإنصات، ملاحظة في غاية من الأهمية ومضمونها: ضرورة أداء الإدارة والقطاعات العمومية والمرافق العامة، وخاصة في مجالات التربية والتكوين والصحة للأدوار المنوطة بها اجتماعيا ودستوريا، حيث يرى العديد من المواطنين أن هذه المؤسسات لم تعد تؤدي وظيفتها باعتبارها آلية للإدماج. وهو ما ترتب عنه إحباطات عميقة ونظرة معادية للإدارة وتشكيكية في العمل العمومي بصفة عامة. إن هذه الملاحظة الأخيرة وما تقدم من ملاحظات وتساؤلات، وغيرها كثير المرتبطة بشكل مباشر أو غير مباشر بدور الرقميات، تثير طرح مجموعة من الأسئلة الاستقصائية التي يفرضها تصور النموذج التنموي الجديد للرقميات بأنها رافعة للتنمية والتغيير، ومنها: هل فعلا الرقميات رافعة للتنمية التي هي عملية معقدة تشمل كل الأبعاد: الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والثقافية والبيئية، أم أنها آلية وأداة ووسيلة تكنولوجية ستساهم في رفع التحديات السابق ذكرها لنسمي الأشياء بمسمياتها؟ – ما هي حدود تأثير الرقميات في إعادة الثقة للمواطنين في إدارتهم العمومية وفي تدبير الشأن العام في مجالات الصحة والتعليم والشغل؟. – أي دور لمنظومة التربية والتعليم في عملية التنمية؟ – ما هي مسؤوليات الأحزاب السياسية فيما يتعلق بضعف الثقة في الإدارة العمومية ومدبري الشأن العام؟ – ما هي مسؤوليات الجماعات الترابية في عملية التنمية؟ – ما المنتظر من المجتمع المدني لتحقيق التنمية؟ ولماذا هذه الأسئلة؟ انطلاقا من أن التنمية كل لا يتجزأ، نعتقد أننا (حكومات وجامعات ومثقفين وباحثين ومجتمع مدني وفاعلين اقتصاديين) مطالبون باستحضار المآخذ الكبرى التي كانت أكثر ردودا في المشاورات المواطنة التي أجرتها اللجنة المعدة للتقرير العام والتي تتمثل في ملاحظاتهم التالية: التهميش والإقصاء الذي يطال بعض المناطق، وإضعاف الطبقة الوسطى، والإحساس بركود الحركة الاجتماعية (...). (مطالبين) بالبحث عن سبل الخروج من الأزمة الحالية. إننا بصدد معيقات هيكلية للتنمية والتغيير، لا يمكن معالجتها إلا من خلال حلول هيكلية/ بنيوية؟ وقد سبق تسجيل الملاحظة التالية والتي مفادها أنه في تصور النموذج التنموي الجديد: "الأداء عن بعد، من خلال تسهيل العمليات التجارية والخدمات يشكل فرصة للإدماج الاقتصادي والاجتماعي للساكنة في وضعية هشة والتي لا تتوفر في معظمها على حسابات بنكية". وهنا نتساءل: هل ستفكر الشرائح الاجتماعية ذات الوضعية الهشة الموجودة في الجبال والصحارى والمناطق النائية، والتي تجد صعوبات في العيش اليومي وتعاني من قساوة الطبيعة، وجلها لم يتمكن من شراء هواتف محمولة لأبنائه وبناته من أجل مواكبة الدراسة عن بعد إبان أزمة "كورونا" (...)، (هل ستفكر) في التعامل مع المنصات الرقمية في حين أنها منشغلة بالبحث عن الماء الصالح للشرب، ومنشغلة بالبحث عن وسائل التنقل إلى المستشفى في حالة مرض ما أو عسر الولادة لدى زوجة صغيرة السن؟ بعض الاستنتاجات: 1- للرقميات دور كبير في تسريع الوتيرة لرفع التحديات التجارية والمالية، وفي مجالات السياحة والصناعة. كما أنها ضرورة ملحة لرفع مستوى المنافسة الاقتصادية في الأسواق، وخاصة منها الأسواق الإفريقية بالنسبة للاقتصاد المغربي. 2- بالنسبة للخدمات العمومية وخدمات القرب، فإن الرقميات تمكن من تجويدها وتسريع وتيرتها. وبالتالي، إشباع حاجيات المواطنين من الخدمات الإدارية والتزويد بالمعلومات الضرورية دون تنقلات أو متاعب، إذا توفرت الشروط الموضوعية لذلك؛ ومن أهمها: قدرة المواطن(ة) على التعامل مع آليات التكنولوجيا المتطورة. وهنا، مربط الفرس بالنسبة لمجتمع ما زالت فيه نسبة الأمية مرتفعة بالرغم من كل الجهود المحترمة التي تبذلها الدولة منذ بداية الاستقلال. 3- بتركيزنا على الجماعات باعتبارها المكلفة قانونيا بتقديم خدمات القرب للساكنة بترابها، فإن العديد منها وخاصة في الوسط القروي تفتقر إلى المداخل القارة، ولا تتمكن من تسديد النفقات الإجبارية إلا بصعوبة. وهي تلجأ إلى الاقتراض من صندوق التجهيز الجماعي (FEC) الذي هو مؤسسة عمومية تقدم للجماعات الترابية ومجموعاتها وللمؤسسات العمومية المحلية كل مساعدة تقنية أو مالية، خصوصا في شكل قروض أو سلفات من أجل تمويل الدراسات والأشغال المتعلقة بأعمال تجهيزها. وتعاني العديد من الجماعات من العجز المالي؛ مما يجعلها تسترشد بالدولة، وهو ما يترتب عنه التبعية المالية لها ويدفع إلى التساؤل عن مدى الاستقلالية المالية والإدارية لهذه الجماعات؟ ومدى تفعيل مبدأ التدبير الحر الذي ينص عليه قانونها التنظيمي؟ على سبيل الختم نعتقد أن الرافعة الحقيقية للتنمية والتغيير هي: التربية والتعليم. والقصد جودة التربية والتعليم، تعليم يعتمد على أجود المناهج والمقررات لمواكبة تطورات العصر ويربي الأجيال على قيم المواطنة والحس الأخلاقي والضمير المهني والنزاهة وحب الوطن؛ لأن خريجي المعاهد والمدارس العليا والجامعات والتكوين المهني هم من يعمل بالإدارات العمومية ويمتهن التدريس في القطاعين العام والخاص وهم من يدبر الشأن العام. ولا شك في أن المنطق يفرض تقييم التجارب السابقة والعمل على تقويم المخططات التربوية؛ لأن للمدرسة والجامعة المغربيتين تاريخهما العريق. إن أزمتنا أننا لم نخرج بعد من الدائرة المغلقة "الإصلاح، وإصلاح الإصلاح". أما الرقميات فهي ضرورة تفرضها التطورات التكنولوجية، ستساهم بقدر كبير في رفع التحديات سابقة الذكر الاقتصادية والمالية والتجارية إذا تم اعتماد الحلول الهيكلية للأزمة الحالية. وأخيرا، إن قطار العولمة الجارفة لن يتوقف بالرغم من بروز معالم القطبية الآتية. ونستفيد من دراسة التاريخ الاقتصادي والاجتماعي أن الرأسمالية تجدد نفسها باستمرار: فمن الثورة الفلاحية مع "بروديل" إلى الثورة الصناعية (في القرن الثامن عشر وبداية القرن التاسع عشر) إلى الثورة التقنية مع (شامبيتر في القرن التاسع عشر) إلى ثورة الاتصالات والإعلام (في القرن العشرين وهي مستمرة)، إلى الرقمنة والرقميات والذكاء الاصطناعي (اليوم)، وإلى شيء آخر غذا أكثر تطورا تكنولوجيا؛ وهي كلها تطورات تكنولوجية تشكل فرصا ومخاطر بالنسبة للإنسان والدول في الجنوب. ولا ننسى أنها تحمل في ثناياها ثقافات منتجيها التي تهدد ثقافاتنا الإفريقية والعربية. (*) إعلامي وباحث