هل كان إبراهيم الروداني ومحمد الزيراوي يحرضان الناس على عدم المشاركة في تشييع جنازة المقاوم لحسن الگلاوي؟ "" هل الأمر يتعلق بنية مبيتة للتحريف أم أعطاب في الذاكرة؟ مغرب بدايات الاستقلال... حقول الألغام: من المؤكد استحالة الإلمام بجميع وقائع تاريخنا الوطني دون حصول مقاربة متكاملة يسهم فيها الفاعلون ومعاصروهم والباحثون الساعون في بلوغ الحقيقة، بعيدا عن الحمولات الايديولوجية المغرضة، حتى تكون الخلاصات المتوصل إليها منسجمة بل متماهية مع الحقائق التاريخية، وهذا شرط أساسي لقبولها من لدن الجميع. مناسبة هذا الكلام إثارة مجلة "نيشان" في عددها رقم 190، 27 فبراير 5 مارس 2009 لموضوع الاغتيالات ومختلف عمليات الاضطهاد التي مرت انطلاقا من أواخر سنة 1955 بعد عودة السلطان محمد بن يوسف من منفاه، واستمرت طيلة 1956. ومن دون شك تنطوي مقاربة هذا الموضوع على كثير من مخاطر الانزلاق المنهجي والفكري، ولذلك يتعين توفر شرطين أساسيين أولهما الانصات لجميع الفاعلين في وقائع الفترة ومعاصريهم، وثانيهما النزاهة الفكرية والمقصود بها الابتعاد عن المرامي الايديولوجية المغرضة، لذا فإن السطحية التي عولج بها هذا الموضوع الذي مازال يثير حساسية شديدة لم ترفع اللبس الذي مايزال جاثما أمام المقبلين لأول مرة على مقاربة تاريخ المغرب خلال سنوات فجر الاستقلال خاصة سنة 1956، بل تم تكريس هذا اللبس، فمن الطبيعي إذن أن يتولد الاعتقاد بأننا مانزال بعيدين عن الحقيقة المنفلتة من عقالها.إننا واثقون من أن "نيشان" بإثارتها لموضوع الاغتيالات السياسية في مغرب بدايات الاستقلال إنما كانت تنطلق من الرغبة في إنتاج المعرفة، أي الحقيقة المجردة من كل المرامي أو الأهواء السياسية المتحاملة، لكنها سقطت في منزلق منهجي خطير وهو الركون إلى شهادة فاعل في وقائع الفترة، تجمع الكثير من الروايات والوقائع على تورطه في الجرائم السياسة التي راح ضحيتها عدد غير يسير من رجال المقاومة وغيرهم، وكان معظم الضحايا من منظمة الهلال الأسود التي لم يترك لها خصومها فترة لالتقاط أنفاسها، فأجبرت بعد استعادة السيادة الوطنية على الدخول في صراع مع حزب الاستقلال الذي احتوى "المنظمة السرية" وسخرها لاضطهاد خصومه، فحاول المقاوم عبد الله الحداوي (1939 1956) الحفاظ على الهلال وقاوم كثيرا مختلف الإغراءات التي كان المهدي ابن بركة على الخصوص يتقدم بها لاستقطاب رجال المقاومة للضغط بهم على القصر كخطوة أولى نحو إقامة نظام شمولي، على غرار الأنظمة التوليتارية التي كانت سائدة في أوروبا الشرقية على الخصوص، ولما لم تنجح كل الاغراءات تم اغتيال عبد الله الحداوي وثلاثة من رفاقه ليلة السبت 29 يوليوز 1956، وكان القتلة رجال أمن ينتمون للدائرة السابعة للأمن المعروفة لدى البيضاويين ب "الساتيام" التي كان يشرف عليها الحسين الصغير ويساعده أحد أبرز الفاعلين في وقائع جرائم الاغتيال السياسي الذي اعتمدت نيشان شهادته! وكان من بين القتلة "أحمد الطويل" و "الذهبي" المعروف ب "اللاص" و"عبد الرحمان السطل" و "بنجلون" وأخوه و "قمر" و "عبد الله المراكشي"... وقد انضاف عبد الله الحداوي ورفاقه الثلاثة إلى الضحايا الذين أخذوا يسقطون تباعا منذ نهاية 1955، وكان في مقدمتهم امبارك القصري المعروف ب "المضاربي" لامتهانه حرفة خياطة المضارب إذ جرى إحراقه حيا، وبعد مرور أسابيع قليلة سقط أحمد الشرايبي الذي كان قد استدعي من قبل المهدي بن بركة في محاولة لإغرائه بالفوائد التي تنتظره في حال قبوله الانضمام إلى خطة حزب الاستقلال، وأمام رفض أحمد الشرايبي جميع عروض الإغراء واختياره الالتزام بخط منظمة الهلال الأسود جرى اغتياله من قبل زبانية أحمد الطويل، وقد جرت واقعة الاغتيال داخل محل لصنع مادة جافيل كان في ملك ابراهيم الروداني الذي كان يجمع معلومات كثيرة عن المقاومين بحكم علاقته القديمة بهم. جرى اغتيال أحمد الشرايبي لما كانت الدارالبيضاء تستعد لاستقبال السلطان محمد بن يوسف في أول زيارة لها منذ عودته من المنفى، إذ يبدو أن خصوم الهلال حاولوا استفزازها ليلة الزيارة ودفعها إلى القيام بردود فعل قوية تفسد الزيارة وتفسد أيضا العلاقات بين السلطان ومنظمة الهلال الأسود، لكن عبد الله الحداوي بفضل ما كان يتمتع به من دهاء فوت على خصومه هذه الفرصة. افتراءات أم أعطاب في الذاكرة؟ ورد في إفادة الفاعل الذي ارتكنت نيشان إلى شهادته أن السلطات محمد بن يوسف أعطى الأمر لرجال المقاومة للقيام بعملية تصفية داخلية تقضي على من بقي منهم على قيد الحياة! وأضاف أن هذا الأمر نقله إليهم أحمد العلوي الذي انتقل إلى رحمة الله، أي أن صاحب الشهادة اتخذ من قبر أحمد العلوي حصنا منيعا يحول دون الاقتراب منه لمساءلته ودحض روايته. إذا صح هذا الادعاء ستكون هيئة الإنصاف والمصالحة قد زاغت عن الحقيقة لما قالت في إحدى خلاصاتها بشأن ما جرى بين 1956و 1999 أن الانتهاكات الجسيمة لحقوق الانسان التي حصلت سنة 1956 كانت بين فاعلين «غير دولتيينعمليات استنجاد الفاعل في جرائم 1956 السياسية بالموتى كثيرة، ومنها الاقتصار في ذكر أعضاء وفد منظمة الهلال الأسود الذين استقبلهم السلطان محمد بن يوسف على الشهيد محمد اعمامو الزاياني وليس اعبابو كما جاء في صفحات نيشان وهنا نصل إلى تناقض خطير بين ماورد في هذه الرواية، خاصة تاريخ الاستقبال الذي كان في أبريل 1956، وبين ماورد في رواية سابقة بشأن اغتيال عبد الله الحداوي في 29 يوليوز 1956 (المستقل، الخميس 20 الأربعاء 26 أبريل 2000، ص• 12) قال صاحبنا في شهادته عن ملابسات اغتيال عبد الله الحداوي قائد الهلال أن خبر الاغتيال ورد عليه وهو في السجن الذي دخله بعد اعتقاله يوم الخميس 3 مارس 1955، في أعقاب عملية "آرمان ماري" "Armand maré"، فكيف أمكنه الحضور ضمن وفد الهلال إلى القصر وهو مايزال في السجن ولم يغادره إلا بعد اغتيال عبد الله الحداوي في 29 يوليوز؟ فهل يتعلق الأمر بعطب في الذاكرة أم بنية مبيتة للتحريف، وبالتالي التنصل من مسؤولية التورط في جريمة اغتيال عبد الله الحداوي وجرائم أخرى، منها اغتيال لحسن الگلاوي، ليلة 16 يونيو 1956 بمقر إقامته في حي الوازيس بالدارالبيضاء، وكان القتلة ومنهم الحسين سرحان ومصطفى أبارجو قد تأكدا أن لحسن الگلاوي يوجد بمفرده بعد أن غادره عبد الله الحداوي، الذي كان يهابه خصومه كثيرا، ومنها اختطاف المقاوم گرانفال الذي انقطعت أخباره إلى الآن منذ أن شوهد في مدخل الساتيام وقد احتضنه صاحبنا وهو يصرخ بأعلى صوته: «واحبيبي گرانفالوللحقيقة فإن صاحبنا غادر السجن رفقة لحسن الگلاوي قبل هذه الوقائع بعدة شهور. من التحريفات الواردة في عدد نيشان حول المذابح السرية الادعاء أن اغتيال الزيراوي والروداني جاء انتقاما من طرف الهلال الأسود لأن القتيلين كانا يحثان الناس عبر مكبر للصوت على عدم الانضمام إلى مشيعي جنازة لحسن الگلاوي الذي أسس بتعاون مع عبد الله الحداوي منظمة الهلال الأسود. وفقا لرواية حسن الحداوي شقيق الشهيدين محمد الحداوي وعبد الله الحداوي فإن جنازة لحسن الگلاوي انطلقت من بيت الحداويين في زنقة ملوية بدرب السبليون، وكان المقاوم أحمد رزقي قد تكلف بغسل الجثمان الذي لف بغطاء كتب عليه شعار الهلال: «حزبنا الإسلام، دستورنا القرآن، غايتنا الملك<• وعلى طول المسار الذي قطعه المشيعون من درب السبليون وإلى غاية مقبرة اسباتة، التي ووريت بها جثامين عدد غير يسير من شهداء الهلال الأسود، لم يلاحظ وجود للروداني أو الزيراوي، فلم يكن من شيم الرجلين الوقوع في هذا المنزلق الذي لايمت بأية صلة لقيم التسامح التي يحث عليها الدين الاسلامي، وللتاريخ فإن اغتيال ابراهيم الروداني في 5 يوليوز 1956 ومحمد الزيراوي في 25 من نفس الشهر جاءا اثر اغتيال لحسن الگلاوي في 16 يونيو واعمامو الزاياني في 30 يونيو 1956، أي أن اغتيالهما اندرج في إطار ردود الفعل التي حاولت الهلال الأسود كثيرا تجنبها حفاظا على وحدة المقاومة لكنها دفعت إليها دفعا بعد أن تضخمت قافلة شهداء المقاومة الذين قارب عددهم الثلاثين من منظمة الهلال وحدها، أي أكثر من الوطنيين الذين جرى إعدامهم من قبل السلطات الفرنسية!. لقد كان بإمكان نيشان عدم السقوط في هاوية الركون إلى شهادات المتورطين في جرائم الاغتيال السياسي التي تورط فيها رجال الدائرة السابعة للأمن ومنهم الحسين الصغير ومصطفى أبارجو وتاج الدين وأحمد الطويل وابراهيم العبدي وعبد الله الدكالي وبوشعيب التورنور••• ويعلم كثير من المهتمين بتاريخ المغرب في بدايات الاستقلال أن هؤلاء تورطوا في وقائع الاغتيال التي راح ضحيتها أناس من خارج دائرة المقاومة مثل الدكتور عمر الادريسي والربانة ثريا الشاوي والرياضي محمد بويجيخ والفكاهي القدميري، والمهندس الجيولوجي عبد الكريم بن عبد الله، والأستاذ محمد الطيب البقالي، وحاول القتلة الاجهاز على حياة عبد الله العياشي يوم 31 مارس 1956. فكيف يمكن الاعتداد بشهادات من لم تجف أيديهم بعد من دماء الضحايا الذين كان "ذنبهم" الوحيد عدم مجاراة حزب الاستقلال في توجهاته السياسية، ولم يشفع لهم أمام جلاديهم الدور الذي قاموا به في نشاط الحركة الوطنية بشقيها السياسي والمسلح الذي أجبر سلطات الحماية على إعادة النظر في موقفها من القضية المغربية، خاصة بعد ظهور الاستشهاديين الذين كانوا يحملون أكفانهم على أكتافهم على غرار محمد الحداوي وحجاج المزابي... فاعادت محمدا بن يوسف إلى عرشه بعد 27 شهرا من الابعاد، واعترفت في 2 مارس 1956 باستقلال المغرب، ونفس الشيء أقدمت عليه اسبانيا في 7 أبريل من نفس السنة. الظروف الغامضة: لقد دأب المتورطون في جرائم الاغتيال السياسي التي حصلت سنة 1956 على الخصوص على نعث هذه المرحلة ب "الظروف الغامضة"، لأنه كان يزعجهم كثيرا الاقتراب منها، واستجلاء حقيقة الانتهاكات الجسيمة لحقوق الانسان التي كانت تحصل في المعتقلات السرية، في الساتيام بالدارالبيضاء، وفي دا ر بريشة وجنان الريسولي ودار الخمال بتطوان، ودار طريطة بضواحي تطوان... وقد فاق عدد هذه المعتقلات السبعين موزعة عبر مختلف جهات المغرب. لقد أجج جناح حزب الاستقلال الراديكالي الصراع الذي عاشه المغرب خلال الظروف "الغامضة" بفعل نزوعه نحو فرض الهيمنة على مختلف المكونات التي كانت تؤثت الساحة الوطنية خاصة تنظيمات المقاومة المسلحة ونقابة الاتحاد المغربي للشغل، وذلك بفرض إقامة نظام الحزب الوحيد. إن ما وقعت فيه نيشان في عددها 190 (27 فبراير- 5 مارس) بذكرنا بما وقعت فيه في العدد الذي كرسته للإسهام في تخليد مرور نصف قرن على استقلال المغرب سنة 1955، إذ ورد فيه اتهام للهلال الأسود بالتورط في اغتيال رحال المسكيني يوم السبت 15 دجنبر 1956، مع أن الهلال الأسود انتهي أمرها باغتيال قائدها عبد الله الحداوي وثلاثة من رفاقه واختطاف واغتيال آخرين سابقا، وهذا مخالف تماما للحقيقة التي أضحت معروفة لدى الكثيرين، ذلك أن اغتيال رحال المسكيني أتى في إطار رد الفعل الذي أقدم عليه أقارب أحمد الطويل، الذي تورط رحال في اغتياله في 25 أكتوبر 1956ومنهم شقيقاه المامون و مسعود و صهره أحمد سيمكا و بوشعيب الجزار.وكنا قد حاولنا لفت انتباه هيئة تحرير نيشان إلى هذه الأخطاء القاتلة، التي لا نريد لأي منبر إعلامي وطني الوقوع فيها، وزودناها بمجرد انتقال المجلة إلى مقرها الحالي بمؤلف: " شهداء وجلادون: بحق في ذاكرة المقاومة والاضطهاد الحزبي بالمغرب" (نشر سوما گرام – 2006) لقد رمنا من مقالتنا هذه مساعدة هذه الدورية على بلوغ الحقيقة، لأننا على إيمان تام بأن هاجسها علمي محض وليس اقتناص ما في جيوب المدمنين على مطالعة مختلف الدوريات المغربية، لأن اعتماد شهادة المتورطين في أيام فجر الاستقلال الحالكة لن يساعد أبدا في بلوغ الحقيقة التاريخية البعيدة عن تحكم الأهواء السياسية• هل قدر تاريخ المغرب أن تتعرض مختلف حقبه للتحريف المبيت؟ لم يعد الأمر مقتصرا على تاريخ انتقائي يقصي أقوى اللحظات من الذاكرة الجامعية، كذكرى الانتصار في أنوال في 21 يوليوز 1921 وذكرى وفاة محمد بن عبد الكريم الخطابي في 6 فبراير 1963 و وثيقة المطالبة بالاستقلال التي تقدم بها وطنيو المنطقة الشمالية من المغرب في 14 فبراير 1943، بل تعداه إلى إقصاء الإمارات الأمازيغية، التي يعود ظهورها إلى حوالي 3300 سنة، وربط تاريخ قيام الدولة المغربية بظهور فاس، إنها قمة التحريف!