بمجرد ما التقطته أعين بعض ساكنة مدينة آسا، تمت الإشارة إليه بجملة:" ها هو داك المحامي دْيال مداولة"..فوجهه صار مألوفاً لدى المشاهد المغربي وهو الذي جسد مجموعة من الأدوار في أفلام ومسلسلات درامية ك"المصابون" "ظلال الماضي" "أصدقاء من كندا"..إلا أن أعماله في السينما والتلفزيون قد تظهر قليلة قياساً لعطائه داخل أب الفنون "المسرح"، حيث مثّل وأخرج العديد من المسرحيات. عبد الكبير الركاكنة، مسار طويل من الاشتغال في المسرح، وتجربة طويلة فوق الركح جعلته يتشبت أكثر وأكثر بهذا الفن النبيل حتى وهو يعاني بعض التراجع على مستوى الحضور الجماهيري..في هذا الحوار يتحدث الركاكنة عن بداياته في الفن المسرحي، وعن الأسباب التي أدت إلى تراجع الإقبال الجماهيري على الفن، ناصحاً الشباب دخول غمار التشخيص، معتبراً أن الربح المادي ممكن جداً في هذا الميدان شريطة الإيمان بدور الفن في نشر القيم النبيلة. بداية نريد أن نعرف كيف كانت بدايات عبد الكبير الركاكنة في الميدان الفني؟ كنت أمارس المسرح منذ الصغر سواء داخل المدرسة أو داخل دار الشباب، إلا أن أبي لم يكن راغباً في أن أمارس هذا الفن وضربني عقاباً لي على عرضي المسرحي الأول، خاصة وأن دوري الأول كان عبارة عن مشرد، وقد خاف والدي أن أكون قد تأثرت بهذا الدور، لذلك بقيت أمارس المسرح في الخفاء خوفاً منه. إلا أن حبي للمسرح جعلني أقرر ولوج مركز الثقافة المسرحية التابع لمسرح محمد الخامس بعد حصولي على شهادة البكالوريا في شعبة الرياضة، وتتلمذت هناك على يد الأستاذ عباس ابراهيم رفقة مجموعة من الأوجه المعروفة كمنى فتو، بنعيسى الجيراري، رشيد الوالي، المرحوم عزيز العلوي، ومحمد خيي. أول عمل شاركت فيه كان "الصعود إلى المنحنى الرمادي" سنة 1983، كان عملاً جميلاً من إخراج عباس ابراهيم، وبعد ذلك توالت أعمالنا المسرحية، وانفتحنا على مخرجين مغاربة أمثال عبد الواحد عوزري، الطيب الصديقي، فوزي بنسعيدي. اشتغلتُ مع مخرجين فرنسيين وقمتُ بتداريب دولية، وبعد ذلك مررت إلى الإخراج المسرحي حيث أنجزت أعمالاً فيما يعرفُ ب"المسرح الملتزم" وكذلك مسرح الطفل، كما انفتحت على المسرح الجماهيري. كيف تم الانتقال إلى الأعمال التلفزيونية؟ بفضل المسرح استطعت الانتقال إلى التلفزيون، تجربتي الأولى كانت في مسلسل" أولاد مرزوق" مع محمد الجم وعزيز موهوب وممثلين آخرين، بعد ذلك شاركت في دور البطولة في مسلسل "ظلال الماضي" إلى جانب محمد خيي، سعاد صابر، رشيد الوالي. طيب لماذا لم نشاهد عبد الكبير الركاكنة في السيتكومات الرمضانية؟ نادرا ما اشتغلت في السيتكوم، فالانتقادات الواسعة الذي ينالها هذا الصنف التلفزيوني، خاصة مع السرعة في إنتاج هذه الأعمال والتي تؤثر على جودتها، وكذلك كونه يشكل ثقافة دخيلة على الفن المغربي، أمران حتّما عليّ عدم قبول الكثير من الدعوات لأداء أدوار معينة في سيتكومات كثيرة، مع الضرورة الإشارة إلى أنني اشتغلت مع رشيد الوالي في سلسلة "ناس الحومة" التي عالجت مواضيع اجتماعية. ما هي أهمية المسرح في تكوين ممثل قادر على إبداع أدوار متنوعة؟ المسرح هو المدرسة الحقيقية للممثل، فهو يجعله دائم العمل وآلته التشخصية تكون مرنة ومشتغلة على الدوام، خاصة وأن تشخيص الأدوار يكون في فضاءاتٍ يُشاهد فيها الجمهور الممثل بشكل مباشر وليس مثل السينما التي يُستخدم فيها المونتاج وإعادة تمثيل اللقطات. الممثل الذي ينطلق من المسرح، يمكن أن يُعتمَد عليه في الأعمال السينمائية، ومن الصعب على من لم يمارس المسرح أن يثبت ذاته في السينما، وأن يكون مشخصاً أكثر من كونه ممثلاً. ما هو الفرق بين الاثنين؟ المشخص يتقمص الدور بكل حرفية ويمكن أن يبدع في عدد من الشخصيات، بينما الممثل قد يبقى حبيس دور معين، جسد المشخص هو آلة موسيقية تقدم نوتات مضبوطة، وليس فقط حفظ الحوار وإلقاءه أمام الكاميرا، فالمُشخص لا يكون نمطيا، بينما الآخر يكرر نفسه. ألا تخاف على المسرح من التطور التكنولوجي الحالي؟ المسرح فن حي ومباشر ولا يمكن أن يغلب عليه التطور التكنولوجي، أكيد أن الإقبال على المسرح يعرف نوعاً من التذبذب في المغرب حالياً، لكن يوما ما سيعود الجمهور إلى قاعة المسرح. طيب، وإلى ماذا تعزو أسباب قلة الإقبال الجماهيري على المسرح المغربي في الآونة الآخرة؟ يجب أن نؤكد أولاً أنه لا مسرح بدون جمهور، ولا يمكن أن يكتمل نجاح مسرحية دون حضور الجمهور. للإجابة عن سؤالك، هناك العديد من الأسباب التي أدت إلى قلة الحضور، من بينها مشكل الدعوات التي من المفروض أن تكون فقط في العرض ما قبل الأول، والتي يجب أن يستفيد منها مهتمين يوّجهون المخرج والممثلين ويبدون رأيهم في المسرحية أو مسؤولون يساهمون في الترويج للعرض، المشكلة أن هذا العرض الأول تحضره العائلات ويفقد طابعه التفاعلي. إضافة إلى ذلك، فهناك غياب نقد مسرحي للحركة المسرحية لا في الصحافة ولا الكتب، المتابعات النقدية ضرورية، وهي مدرسة حقيقية تفكك العمل المسرحي وتبين مواطن قوته وضعفه، وللأسف فما يظهر في الكثير من الجرائد، لا يتجاوز سقف الانطباعات التي لا تُكتب بطريقة علمية. النقد المصاحب للعروض المسرحية مهم جداً، وغيابه يؤثر بشكل أو بآخر. كيف استقبل الجمهور عروضكم المسرحية؟ بخصوص مسرحية "الجذبة"، وفي العرض الأول، كان مسرح محمد الخامس مملوءا عن آخره، وقد بقي الجمهور في مكانه حتى انتهى العرض، وزادت مدة التصفيق لطاقم المسرحية على ربع ساعة، وفي كل مدينة نحضرها، نجد حضوراً جماهيرياً كبيرا: قصبة تادلة، أزيلال، المحمدية، فاس...صراحة هناك جمهور متعطش، وعلينا فقط تقديم عروض مسرحية تحترمه. نتواجد حاليا في مدينة آسا التي تعرف في بعض الأحيان توتراً سياسياً، كيف يمكن للمسرح أن يُقرّب من المغاربة ويساعد المغرب على تجاوز بعض المشاكل السياسية؟ من الضروري أن ننفتح على الأقاليم الجنوبية فنياً، على المبدعين أن يتواصلوا مع ساكنة الأقاليم الجنوبية، فالدبلوماسية الفنية ضرورية جدا. على المسرح أن لا يبقى منحصرا في المركز، وعليه أن ينزل عند المواطنين في كافة القرى والمداشر، والأكيد أن هذا الانفتاح سيفتح المجال أمام الرأي والرأي الآخر، وأمام الحوار البناء الذي يجعلنا نتبادل التجارب. صراحة هذه أول مرة أزور آسا، وقد وجدت مجموعة من الشباب المتعطش للثقافة والفن، وكانت بيننا حوارات راقية حول واقع الفن المغربي، وأتمنى جاهداً أن يتم الاعتناء بهذه المدينة وتوفير فضاءات لشبابها كي يلقى كل واحد الميدان الفني الذي يحب أن يمارسه، كما لا يفوتني تثمين تشييد مركب ثقافي بالمدينة، فهذه خطوة من شأنها المساهمة في خلق حركة مسرحية بهذه المنطقة. هل تنصح عشاق التشخيص بامتهان هذه المهنة؟ التشخيص مهنة نبيلة وراقية، ولكن من يريد الولوج لها عليه أن يكون صادقاً فيها ومؤمناً بها، ممتهنها عليه أن يؤمن بالاختيار وبنشر القيم الجميلة، أما إن كان الغرض من امتهانها هو الربح المادي فقط، فمن الأفضل البحث عن ميدان آخر يوفر أرباحاً مادية تشفي غليل الراغب في ذلك. ولكن الربح المادي مهم لأن به يمكن للإنسان توفير مجموعة من الضررويات وبه يمكن المساهمة في بناء حياة كريمة؟ الاجتهاد والإيمان هو الذي يؤدي إلى الربح، ولا يمكن لمن ولج الميدان من أجل الربح منذ الأيام الأولى أن ينجح، نعم يمكن الربح مادياً في ميدان "التشخيص" وبناء حياة كريمة كالعديد من الوجوه المعروفة، لكن شريطة الإيمان بدور الفن في نشر القيم، وفي تجسيد هموم الناس وحياتهم اليومية، الرأسمال الحقيقي للممثل هو حب المواطن الذي يريد أن يرى معاناته وأفراحه تتجسد على الشاشة أو فوق الركح، وكلّما كان المشخص قريباً من الناس، كلّما تقوّت حظوظه من أجل الرقي و عيش حياة كريمة خالية من المحن المادية.