أمام الأزمات المختلفة والمتفاقمة التي ابتليت بها منظومة التعليم والتربية كانت جميع المشاريع الإصلاحية التي عرفها القطاع مجرد محاولات لم تستطع تحقيق ثورة حقيقية في مجال التعليم. كانت كل الأوراش الإصلاحية ومازالت مقاربات نظرية تسِمُها وتسُمُّها العشوائية والمركزية والأدلجة وضعف التنسيق وقصور آليات تنزيل النصوص التطبيقية على أرض الواقع، مما يجعلها عديمة القدرة على النفاذ إلى الفاعل الميداني الذي يمثله كل من المعلم والمتعلم. فمن الميثاق الوطني للتربية والتكوين (دون الحديث عما سبق) إلى خارطة الطريق 2022-2026 مرورا بالبرنامج الاستعجالي والرؤيا الاستراتيجية 2015-2030 والقانون الإطار المصادق عليه في 2019 لأجرأة هذه الرؤيا، ظل جسم التعليم فأر مختبر مبْقورَ البطن أمام تجارب متعددة ما فتئت تتكلل تباعا بالفشل وانعدام الفاعلية. قال وزير التربية الوطنية والتعليم الابتدائي والرياضة السيد شكيب بنموسى خلال تقديم خارطة الطريق 2022-2026 بمقر المجلس الأعلى للتربية والتكوين والبحث العلمي أن نتائج الإصلاح على أرض الواقع لم ترقى إلى ما تصبو إليه طموحات ورؤى واستراتيجيات هذا الإصلاح. سواء على مستوى تحقيق الكفايات والأهداف والمهارات والقيم التعليمية أو استعادة ثقة المواطن في المنظومة التعليمية، جاءت النتائج هزيلة ومخجلة من واقع الأرقام المستدل بها على ذلك. ومن جهته، أفاد وزير التعليم العالي والبحث العلمي والابتكار في معرض حديثه عن وضع الجامعة المغربية خلال انعقاد الدورة الأولى من الولاية الثانية للمجلس الأعلى للتربية والتكوين والبحث العلمي بضعف المخرجات التعليمية وارتفاع نسب الطلاب الذين يغادرون الجامعة دون الحصول على الشهادات المنشودة وعدم اكتساب الخريجين للمعارف والمهارات التعليمية الأساسية التي تأهل اندماجهم في سوق الشغل. كما أشار إلى تراجع فاضح في مجال البحث العلمي الذي يعرف تهلهلا على مستوى الإنتاج والتنسيق وشح الموارد المرصودة له، فضلا عن انتشار سلوكيات لاأخلاقية في أروقة الجامعة المغربية، مما ينم عن فساد مستفحل يصيب في العمق نبل الرسالة والمؤسسة الجامعية. وقد أقيمت صباح يوم الاثنين 9 يناير 2023 بجامعة محمد السادس متعدّدة التخصصات التقنية أعمال لقاء تشاوري مع كفاءات مغربية نشطة بمختلف أنحاء العالم حول إصلاح منظومة التربية والتكوين والبحث العلمي. والهدف طبعا هو النهل من خبرات هذه الكفاءات الجامعية والأكاديمية التي تعمل في إطار مؤسسات ذات صيت وتميز في التصنيفات الجامعية العالمية. وذلك من خلال تدارس العديد من المحاور الأساسية التي تشمل التخطيط والحكامة والجودة واللغات والبحث العلمي إلى غير ذلك من الممارسات الكفيلة بإنقاذ منظومة التعليم من الأزمة التي تتخبط فيها. وعقب تعيينه الجديد على رأس المجلس الأعلى للتربية والتكوين والبحث العلمي لولاية ثانية، يضع السيد الحبيب المالكي على هرم أولوياته "إشكالية لغات التدريس، وتجاوز الخلافات الإيديولوجية المعيقة لإصلاح منظومة التربية والتعليم والبحث العلمي، واعتماد البرامج والمناهج الملائمة لمتطلبات التنمية، وإيجاد حلول مبتكرة في مجال التأهيل وتقديم عرض وطني مبتكر في التكوين المهني." بعد ولاية أولى أقل ما يقال عنها أنها محبطة، يبدو أخيرا أن مربط الفرس يكمن في تحقيق هذه الأولويات.. تأبى دار لقمان إلا أن تبقى على حالها (وليتها كانت على نسق مفاخرة الشعر الأصل). لقاءات واجتماعات ومجالس ولجان ودراسات وتقارير لا تنتهي؛ مخططات طموحة وهدر في الإمكانيات الضخمة وقصور في الكفاءات التدبيرية والمؤهلات الأكاديمية والتربوية القادرة على تنزيل هذه الرؤى النظرية الطموحة على أرض الواقع. ذلك الواقع المرير الذي يقر اليوم بالأرقام تجهيل الأجيال واستمرار هشاشة التعلُّم بعدم تحقيق التلاميذ والطلاب للكفايات المنشودة واستفحال ظاهرة الهدر المدرسي وغير ذلك من العلل التي تضني جسم التعليم. إن الإصلاح تعريفا ومنهجا يعكس رغبة حقيقية وواضحة في التغيير. ووضوح أهدافه جزء أساسي في نصوصه التطبيقية وآلية تنزيلها على أرض الواقع بما يُمَكن من قياس وتقييم كل من نقاط القوة والإنجازات والتدابير المتخذة وكذلك الوقوف على الهنات التنفيذية لتقويمها. ولطالما كان التصميم الرأسي كعب أخيل الذي ينسف عملية الإصلاح التعليمي. إذا كانت هناك نقطة مشتركة تلتقي عندها جميع مشاريع الإصلاح التي توالت وتناوبت على النظام التعليمي المغربي فهي أن جميعها، في رأيي المتواضع، طموحة نظريا وتُصمم وتعمل في اتجاه عمودي من الأعلى نحو الأسفل. يتم طبخ مراسيمها على مستوى أعلى الهرم المؤسسي ومن ثم توضع خارطة طريق: تحدد الرؤى والأهداف والسبل وترصد الموارد والوسائل المناسبة وتصمم خطط العمل لاحترام جدول زمني معين من خلال كمٍّ هائل من اللجان والفاعلين والمنظرين. فتأتي الأحكام والقرارات المعيارية الجديدة لتسقط فجأة على القاعدة الواسعة للمبنى التعليمي حيث يوجد الفاعل الميداني الحقيقي المتمثل في المعلمين والمتعلمين. أولئك الذين يقارعون ويكابدون يوميا تقلبات وإكراهات واقع العملية التعليمية في ظروف مزرية تطال جميع الأصعدة. بعد استبعادهم كفاعل أساسي ومحوري من عملية التصميم والتخطيط وإبداء المرئيات في مشروع الإصلاح، لا يتعين على المعلمين والمتعلمين إلا الرضوخ وتنفيذ التدابير المتخذة رأسا. وهذه الحلقة التي يتم استضعافها عند التخطيط والتنزيل تصبح هي الأقوى لأنها الوحيدة القادرة على التنفيذ والتعامل مع النتائج الميدانية مباشرة. من الطبيعي حينذاك أن تتكون لدى هذه الفئة، وكما هو الحال في كل إصلاح، حالة من المعارضة المعلنة أو المقاومة الصامتة، مما يترجم خيبة أمل تقوض أهداف الإصلاح دون أن تشكل السبب الحقيقي لفشلها. كيف نطلب من المدرس المثقل بهموم وقساوة الحياة اليومية أن يحب عمله ويتفانى بإخلاص في تنفيذ ما يصله من قرارات؟ كيف ننتظر من المتعاقد المحاصر بالريبة وعدم الاستقرار أن يبدع ويقدم الأفضل في الفصل؟ كيف ننتظر من المناهج والكتب المدرسية المتضاربة والهزيلة أن تقوِّم مستوى تلاميذنا؟ كيف ننتظر من البنيات التحتية لمؤسساتنا أن توفر بيئة حاضنة لعملية التعليم والتعلم؟ كيف وكيف وكيف ..؟ هناك دوما حلقة ضائعة بين عدم قدرة التلميذ على تحقيق التعليمات الأساسية في الميدان والتنظير الأفقي الجامح للإصلاح. فضلا عن الاستعجال والهرولة في أجرأة النصوص التنفيذية للإصلاح والذي يعد في رأيي أحد مسوغات الارتباك الذي يطال عملية تنزيل الإصلاح. فكل حكومة تبرئ نفسها من موروث السابق من الحكومات وتسعى راكضة في تنزيل ما تراه مناسبا وناجعا لحل أزمة التعليم فتدلي بدلوها بما يزيد الطين بلة. ما دامت الرؤى رأسية وتفتقر إلى آلية النفاذ إلى عمق أزمة النظام التعليمي والعمل انطلاقا من القاعدة؛ ما لم يتم الوقوف على وضع مناهج علمية تتناغم وحاجة الطالب وتحقق الأهداف والمهارات والقيم التعليمية؛ ما لم نقف على تحسين ظروف المدرس بما يحفزه على العمل بتفان وغيرة على مستوى طلابه؛ ما لم نعمل على تحسين البنى التحتية التي من شأنها توفير البيئة المناسبة لتعليم ناجع، ستظل إصلاحاتنا مجرد أوراش عمل تجريبية نتجرع فيها ألوان الفشل ونشهد بها على تجهيل أجيالنا معرفيا ومهاريا وأخلاقيا.