إن من فتح الأبواب يغلقها ..... وإن من أشعل النيران يطفيها توظيف هذا البيت الشعري للشاعر الكبير نزار قباني ليس رحلة رومانسية على شط جميل بل هو محاولة للفت الانتباه لكرة ثلج تكبر على مهل لرقعة زيت تتمدد كل يوم في ربوع هذا الوطن. وإن كنت محاميا فإني لست أهلا للدفاع عمن ارتضوا عن قناعة ارتداء البذل السوداء فذاك ديدنهم وهم جدر وأقدر على الدفاع عن أنفسهم، لكني لو لم أكن محاميا لاخترت أن أكون محاميا. أعود لأقول إن المحاماة خلقت للدفاع عن الحق والحريات عن المستضعفين والمظلومين إنها الملاذ الآمن وصمام أمان للمجتمع، فمن ذا الذي أشعل كل هذه النيران الملتهبة اليوم في البذل السوداء هل هو غياب الحوار وروح النقاش المسؤول أم هو بحث فقط عن تضريب كل شيء في هذا الوطن حتى الهواء..... ما كان للأمور أن تصل إلى هذا الحد ولست هنا ناصحا ولا واعظا لأن في المحاماة عظة ونصح إنها مهنة الشرفاء لكني هنا مساهم من باب المسؤولية في ضرورة فتح نقاش عمومي حول ما وقع وما سيقع مستقبلا......؟ من يصر على إخراج الطبقة الوسطى من محامين وعدول وموثقين واطباء وصيادلة تماما كمن يلعب بالنار لأن كل هؤلاء هم صمام أمان كل مجتمع..... لست ضد تضريب المحامين ولا غيرهم من المهن لكن كيف ومتى هو السؤال المطروح في المحاماة شباب وشابات ولجن المهنة دون أن يساعدهم أحد، إنهم أبناء هذا الشعب الذي امتصت المحاماة جزءا كبيرا من عطالته دون أدنى تدخل من الوزارة وبلا تعويضات ولا معاهد تكوين وبرسوم، ومع ذلك قاوم هؤلاء ومنهم من يحمل مكتبه في هاتفه ومنهم من يناضل من أجل واجبات مهنية شهرية، المحامي ليس جابي ضرائب وليس تاجرا أو هكذا على الأقل يجب أن يكون لذا ينوب أحيانا إحسانا أو مضطرا لأن موكليه ليسوا دائما شركات أو أبناء أولئك أو مؤسسات عمومية، هناك من يحتكر كل هذا وعددهم قليل ونعرفهم بل يعرفهم حتى الذين لا ينتمون للمهنة تماما كما في مهن أخرى تخضع للاحتكار أو التراتبية، لا نستغرب فلسنا كلنا ملائكة ولسنا أيضا شياطين نحن فقط أبناء لهذا الوطن نتأثر بخيباته وبانتصاراته وحين يهون وحين يهون كل شيء نهون نحن، المحامين جزء من هذا الوطن. نتأثر بهذا الوطن وفينا يؤثر، ويوم كانت الجامعة والمحاماة والنقابات والبرلمان بصحة جيدة كان مستوى النقاش مرتفعا وكانت هناك أصوات مختلفة تصدح بالدفاع عن الوطن، فاتركوا على الأقل لهذا الوطن جسما نقيا غير عليل يصدح بالحق رجاء لا تقتلوا كل شيء، فالمحاماة صوت لكل مظلوم هي جزء من نسيج اجتماعي لهذا الوطن تماما كما القضاء هما وجهان لعملة واحدة تخرجوا من نفس الجامعة وغرفوا من نفس المعين، إنهم أبناؤنا وإخواننا وأصدقاؤنا كل منهم يدافع عن العدالة من موقعه لذا لسنا خصوما ولا أعداء بل توائم في العدل والقانون، فلا يجب أن تكون المعركة بين جسم واحد، معركة المحامين مع الحكومة مع من أقر التضريب دون اتفاق على الشروط والمبادئ التي ترضي الجميع وتحتضن الكل في نقاش يسمو فيه الوطن لا المصالح الخاصة معركة المحامين هي الدفاع عن المواطن الذي سيدفع في النهاية كل هذه الأداءات، لذلك واهم من يختزل النقاش في الضريبة وحدها جزء من واجبات المحامي كمواطن هو أداء الضريبة لكن وفق أي شكل وأي منطق هنا مكمن الخلاف مع وزارة العدل ومن بعدها الحكومة. كبيرة هي الخلافات حين لا نحتكم إلى لغة العقل صغيرة حين نستشار ونتشاور بكل تواضع وأدب وقتها يذوب الخلاف كقطعة ثلج.... في المعركة القائمة الآن لا يجب أن ننتظر إلى من سيربح ليسجل نقاط، واهم من يفكر بمنطق لي الأذرع، الرابح هو الوطن حين يفتت مشاكله على طاولة التفاوض حين يتراجع من أخطأ أو حتى يستقيل ليس نهاية العالم، هكذا هي الأمم الديمقراطية والأنظمة كما درسناها على يد فقهاء القانون الدستوري، إما أن تستمر سياسة الأذن الصماء وأن يظل الاحتكام للشارع حلا فأقول إن اليوم هذه الاحتجاجات هي لمهن منظمة ومؤطرة قانونيا ولها هيئات تحتكم وتنصت لها وتعرف سقف ما ترفع وما تقول، أما ما دون ذلك إذا تركنا الشارع ملاذا فهناك من لا يؤطره أحد ولا يتحكم فيه أحد وحده القهر وغلاء المعيشة وتدهور القدرة الشرائية من يؤطرانه، لذا لا بد من وجود الحكمة والحكماء داخل هذا الوطن من أجل إيجاد حلول ترضي كل الأطراف قاعدة المحاماة شبابية بامتياز هم أمل المستقبل ورهانه، لسنا كلنا ملاك ضيعات ولا أصحاب فيلات فسيحة ولا مصانع، جزء قليل منهم من يرفل في هذه النعم ومنهم من قضى سنوات طويلة جدا في مهنة لا تقاعد فيها إلا موتا أو مرضا، وحان الوقت ليترجلوا ويستريحوا أو على الأقل لينصتوا لهمس الشباب وتطلعاته. المحاماة مهنة محترمة يأتي لها الجميع حتى من تقاعدوا من كل القطاعات العمومية، يأتون لها عشقا أحيانا تقاعدا وأحايين كثيرة لغسل القلوب والجيوب العامرة أكثر من اللازم في وطن جميل لا يسأل إلا نادرا من أين لك هذا؟ ختاما أقول ابحثوا عن حلول؛ راجعوا قانون الميزانية فليس حتما قرآنا منزلا، هناك دائما فرصة للحل؛ أما ما يقع الآن من شد للحبل فلا يخدم أي مصلحة... وإذا هُنَّا كما هان الجميع فلا نريد لوطننا الوهن بل هو شامخ وأسمى من أي مصالح ضيقة أو عنتريات خاوية على عروشها. أعود لأقول أعرف جيدا من فتح الأبواب ومن أشعل النيران لكني حتما لا أعرف من سيطفئها قبل أن تمتد أكثر من اللازم.