خبرني صديق لي في صيف 2019، بأن صديقا مشتركا لنا، اسمه يحيى أصدر نصا روائيا جديدا، فسألت صديقي ونحن نتمشى معا، في حر منتصف نهار من شهر غشت، من يكون يحيى؟ فرد علي: ألا تعرف يحيى بن الوليد؟ أجبته الآن فهمت، وأضفت: "ولكن صديقنا الدكتور يحيى بن الوليد ناقد وجامعي متمرس في النقد الأدبي؟". فجاء جواب صديقي الشهبندر، وهو يلوح بيده اليسرى كعادته، ونحن نغادر باب القصبة، أن "يحيى بن الوليد أسقط أسوار النقد، وشيد قصرا روائيا جديدا". وفي صيف 2020، أنهيت أخيرا سفرا روائيا بين ثنايا "فوق عش العقل"، بعد تأخر اضطراري فرضته نصوص أخرى كانت تنتظر القراءة، وظروف العمل في زمن محنة فيروس كورونا. لم يكن من السهل العثور على "فوق عش العقل"، تطلب الأمر أسبوعا رباطيا من الانتظار، لتحضر لي أشهر مكتبة في العاصمة المغربية الرباط، نسخة ورقية. فبعد سنوات من النقد الأدبي والكتابة المتخصصة، يعلن المغربي يحيى ابن الوليد عن نفسه روائيا، وهذا تقديري كقارئ، مازجا بين مدرسة مصرية للنجيب المصري الراحل نجيب محفوظ، وبين أسلوب الهرم الأدبي المغربي الراحل محمد شكري. وينزل بنا ابن الوليد كقراء إلى الحفرة، ليقودنا في حوليات طقس العبور، قبالة مقهى الزريرق، في مدينة أصيلة على المحيط الأطلسي، في تصوير دقيق للنفسيات، التي يعيش بها أبطال الرواية، ما بين تشتتهم في المعيش النهاري، وانتهاء بتجمعهم في المساءات. يستعمل يحيى بن الوليد لغة عربية بسيطة، ولكنها سهلة ممتنعة، فتسترسل الأحداث على وجه العموم، مع استعمال أسماء أدبية محلية للشخوص، في نقل للمحلي إلى العالمية، في أول نص روائي زمكانه زيلاشي أي أصيلي، في انتصار لبلدة تستحق أن تعيش فيها لتحكي عنها، فدخول مدينة إلى العالم الروائي، إنجاز يعود فيه الفضل للروائي أولا وأخيرا. ينتمي الدكتور يحيى بن الوليد إلى بلدة أصيلة إلى حد جنون العشق، فتحول حبه إلى نص روائي لذيذ، يستحق القراءة، لأن العملية في النهاية انتصار للمكان، وانتصار لحرافيش المدينة، وإن بميزة زيلاشية خالصة هي المزج بين طبقات اجتماعية مختلفة ثقافيا وماليا، يوحدها طقس العبور بكل متعه، وتجمعهم النقاشات التي لا تنتهي، والقفشات التي يختلط فيها الهمز باللمز، وبتغذية الأخبار غير الدقيقة وخلطها بكل المهارات الكلامية، لتتحول إلى قصص تروى نهارا. وفي لغة "فوق عش العقل" تحضر عبارات عارية أي تنتمي إلى القاع الشعبي، لتكون بهارات أضافت نكهة خاصة للنص الروائي، وهذا تأثر واضح من بحيى بن الوليد، بالعملاق المغربي الراحل محمد شكري، مبدع الخبز الحافي وزمن الأخطاء. كما يظهر التأثر بفلاسفة غربيين من طرف الكاتب، فيردد أسماءهم ومقولات لهم على لسان أبطال الرواية، بينما يبدو الوعي الروائي ليحيى بن الوليد متأثرا بهرم الرواية المصرية والعربية نجيب محفوظ، بظهور أسماء روايات، وتعابير من نص ثرثرة فوق النيل. يحتاج نص فوق عش العقل، إلى الدربة على القراءة، أي النفس كقارئ للتمكن من استكمال النص، لأن المكان يضيق، والشخوص تدور دائما لتعود إلى الحفرة، في عملية انجذاب إلى طقس العبور، وهذا يمثل قوة في العمل، ولكن يمكن ان يكون نقطة غير جاذبة في النص لقارئ بدون نفس. ويبقى الأهم أن بلدة أصيلة المغربية الأطلسية، ربحت أول نص روائي، يستحق لقب محترم، من أحد أبناءها الذين صمتوا طويلا، قبل إعلان الباكورة الأولى، فيما يقول راديو المدينة، إن الأمر يتعلق بثلاثية زيلاشية سترى النور تباعا. تجنب الروائي الغوص في تصفية حسابات شخصية، ما جعل النص روائيا يستحق الاحترام، مخرجا السياقات العامة لبلدة أصيلة من عمله الروائي، ومفضلا تفصيل شخصيات معتقة، من المدينة فصبها في قوالب جعلت النص دسما جدا، بتفاصيل معيشة وإنسانية زيلاشية أصيلية. ليس من عادتنا في المغرب للأسف الشديد، الاحتفاء بالكاتب ولا بالكتاب، إلا في نطاق الشللية الضيقة، أو لعبة الحسابات المصالحية، ولكنني تعودت في كتاباتي السباحة ضد التيار، والتنقيب عن المغاربة والكتابة عنهم، لأنني أعتبر ولادة كاتب جديد، إشعالا لشمعة تضيء الطريق، لنهزم جميها ظلام الجهل، في زمن أكبر كذبة في القرن الحادي والعشرين، اسمها مواقع التواصل الاجتماعي، الناشرة للجهل.