منذ يوم أمس وأنا في مدينة شفشاون، والمناسبة هي الدورة 28 للمهرجان الوطني للشعر الحديث. ليست هذه هي زيارتي الأولى، لكنني دائما، وكلما حللت بشفشاون، سرعان ما تنتابني رغبة في مغادرتها، بسبب جمالها وهدوئها ونظافتها وسحرها وكل ما يجعل الناس يفضلون البقاء فيها إلى الأبد، وأشعر أني لا أحتمل كل ذلك، ويتملكني مقابل ذلك حنين إلى الضوضاء والعنف والزحمة والأوساخ وضجيج الكلاكسونات وتلمس الجيب والخوف من النشالين وأصحاب شفرات الحلاقة والمطاوي.
وفي كل المرات التي زرت فيها مدينة شفشاون أشعر أن ما أراه غير حقيقي، وأرفض أن أصدقها، فأعود أدراجي من حيث أتيت.
تعرفون الشعراء، إنهم دائما يبالغون، وحين يصفون مدينة شفشاون يلجؤون إلى نفس الكلمات الجاهزة، وقد عشت معهم وشاهدت انبهارهم وتصريحهم بأنها مدينة باذخة وأخاذة وساحرة، إلى غير ذلك من العبارات التي صارت من فرط تكرارها تسيء إلى كل شيء جميل يصفونه، حتى أنني تمنيت لو زالت كلمة باذخة من اللغة العربية.
هناك صورة مترسخة في أذهان الشعراء تقول إن العيش وسط الجمال والهدوء والنقاء يلهم ويساعد الشاعر على كتابة قصائده، وكثير من أصدقائي يتمنون أن يعيشوا في شفشاون، لتلهمهم ولتنعش خيالهم ببياضها وزرقتها ومائها وسمائها، كأنهم يشحذون الشعر من هذه المدينة، بينما أظن أن الشاعر عليه أن يبتعد عن الجمال ليطمح إليه، وأعتقد أن العيش في شفشاون لا تنتج عنه إلا قصائد هادئة ولا توتر فيها، إلا إذا كان الشاعر يعيش توترا داخليا واحتداما نفسيا وصراعا في ذاته، لا علاقة له بالمكان ولا بأي شيء حوله، وهذا النوع من الشعراء نادر، ويحتاج ربما إلى مدينة كبرى ليختلق الأعداء ويتوهم الخصوم وليحارب السلطة واللغة ومؤسساتها. إذا كانت شفشاون حلما، فإنه يتعين عليك أن تغادرها وأن تعود إلى يقظتك، والذي سبق له أن جرب هذا الحلم وزار المدينة، لا بد أن يطرح مثلي عددا من الأسئلة حول من بنى هذه المدينة ومن ينظفها كل يوم ومن يسهر على جمالها وهدوئها ومن يبرد ماءها ومن يزين بناتها وهن يخرجن متأنقات خفرات مقبلات على الحياة في المساء، حيث المحافظة لا تعني التزمت والانغلاق، وحيث يحضر الدين المغربي المتفتح معربا عن نفسه في مدينة لا تتوقف عن الابتسام في وجه زوارها، مستقبلة الغريب عنها وحاضنة له.
وسط حمى النزول إلى الشارع التي أصابت العرب ومدنهم، لا أتخيل مدينة شفشاون تسمح بمسيرة ولا مظاهرة، هندستها ومعمارها لا يسمحان بذلك، ولو أراد أحد أن يعارضها ويشوهها وينزل فلا أظن أنها ستستجيب له، لقد بناها أهلها بالرقة ولمسة الجمال، في غفلة من سياسة المخزن والدولة والسلطات المتعاقبة التي صنعت لنا مدنا بشعة وعشوائية وقبيحة، يحدب عليها الشاونيون ويصبغونها بالأبيض والأزرق، فتنام وتستيقظ كل يوما أكثر جمالا دون أن تشيخ.
لكنني رغم ذلك لا أتحمل أن تكون شفشاون مدينة واقعية، آتي إليها كما يأتي حالم إلى رغبته، وأستيقظ منهاىلأواجه ما تعودت عليه. وأنا أكتب وأستعجل كي أنتهي ولئلا يفوتني موعد شعري مبرمج في إطار المهرجان، رأيت الحيطان البيضاء ملطخة بملصق عن لقاء يؤطره هذا اليوم عبد العزيز أفتاتي، وإلى جانبه ملصق حجابي عفتي. يالها حقا من مصادفة.
هناك اليوم من يسعى بكل الوسائل أن يلغي طابع شفشاون الخيالي، ويناضل ألا تبقى حلما، نزوره وننام فيه ونعود إلى منازلنا ونحن غير مصدقين لما عشناه. لا تحتاج شفشاون لدرس أو نصائح من أحد، إنها هي من تعلمنا ما هو الجمال والرقة والدين وعبادة الله، إنها مثل الجنة في الأرض، حيث يظهر حب الناس للأرض وللحسن، ولا أعرف ماذا سأقوله أنا أو أفتاتي أو أي زائر آخر لهذه المدينة وناسها، يكفينا أن ننبهر بها ونشكرها في السر ونصمت، وحين يصفها شاعر بالباذخة فهو يخجلها، فتحمر وجنتها البيضاء.