إنها صفحة من تاريخ المواجهة التي دامت لعقود بين الملك الراحل والمعارضة السياسية. كل شيء بدأ يوم 28 ماي 1981، حينما أعلنت وكالة المغرب العربي للأنباء قرار الحكومة المغربية فرض زيادات قوية في المواد الأساسية: الدقيق 40%، السكر 50%، الزيت 28%، الحليب 14%، الزبدة 76%، وذلك مباشرة بعد زيادات أخرى في سنتي 1979 و1980، ولذلك بلغت الزيادات بصفة إجمالية 112 في المائة بالنسبة للسكر، و107 في المائة بالنسبة للزيت، و200 في المائة بالنسبة للحليب، و246 في المائة بالنسبة للزبدة، و185 في المائة بالنسبة للدقيق.
أيام قليلة بعد هذه الزيادات التي أقرتها حكومة المعطي بوعبيد، تحركت المعارضة السياسية حينها، وفي مقدمتها الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية، ودرعه النقابي المؤسس حديثا الكونفدرالية الديمقراطية للشغل، فتقرر تنظيم الإضراب العام يوم 20 يونيو، لكن لا أحد كان يعتقد أن تصل مواجهة الدولة للمضربين إلى حد إطلاق الرصاص الحي.
البيضاء كانت حينها سوداء، والنار الذي أطلقه رجال الجينرال أحمد الدليمي وإدريس البصري، لإخماذ الغضب، كان أكبر من الاحتجاجات التي شهدتها العاصمة الاقتصادية للبلاد، ولذلك سقط المئات من الضحايا، حسب تقديرات حقوقية، فيما حصر ابن الشاوية ووزير داخلية الحسن الثاني عدد الضحايا في بضعة عشرات قتيلا ليس إلا، علما أن الغضب عم العديد من شوارع الدارالبيضاء، من درب غلف إلى درب السلطان، ودرب الكبير، ومبروكة، وحي الفرح، ودرب ميلا، ودرب السادني، والقريعة، وموديبوكيتا، وبنمسيك، واسباتة، وحي للامريم، والبلدية، والحي المحمدي، ودرب مولاي الشريف، والبرنوصي، وعين السبع ...
كل هذه الأحياء شعبية، وكل هذه الأحياء الشعبية يسكنها الفقراء، وفي هذه الأحياء الشعبية التي يسكنها الفقراء، سقط العشرات من الضحايا، فكان على عائلاتهم الانتظار طويلا من 1981 إلى 2004، تاريخ تشكيل هيئة الإنصاف والمصالحة.
وبين التاريخين، عاشت البلاد مسلسلا من المد والجزر بين الدولة، التي ظلت تنفي سقوط هذا الكم الهائل من الضحايا، وبين العائلات وممثليها السياسيين والحقوقيين، الذين ظلوا متشبتين بالكشف عن مصير مئات الضحايا، وعن المتورطين في أحداث 20 يونيو السوداء، والمطالبة بمساءلتهم حتى لا تتكرر مآسي الماضي الأليم، ولذلك استبقت الدولة موجة الغضب التي عبرت عن نفسها في الأيام الموالية من حملة الاعتقالات والقتل، حينما خرج إدريس البصري يقول إن عدد الضحايا الذين أسماهم "شهداء كوميرة"، ب66 قتيلا، علما أن تقديرات صحافيين عايشوا الأحداث، ومنهم الأجانب، قدروا الضحايا في 637، بالإضافة إلى حوالي 5000 جريح، و20 ألف معتقل، ألفين منهم أحيلوا على الفضاء، والكثير منهم حكم عليه بأكثر من عشر سنوات...
كانت أحداث سوداء، ليس فقط بسبب عدد الضحايا والمعتقلين، ولكن أيضا بسبب الطريقة المؤلمة التي لفظوا بها أنفاسهم الأخيرة، في درب السلطان وسباتة ودرب غلف ودرب الكبير والحي المحمدي ودرب مولاي الشريف ... والبرنوصي التي سقطت فيها النساء والرجال وحتى الشباب ... اختناقا ومباشرة بعد الأحداث المأساوية في 20 يونيو 1981، ألقى الملك الراحل خطابا قويا على شاشات التلفزة، كان مليئا بالإشارات السياسية، مثلما كان مليئا بلغة التهديد، وهو يتحدث عن الأقلية المارقة الفاتنة المفتنة التي كانت وراء الأحداث:" أما نحن من جهتنا، فلم نسمح ولن نسمح أبدا بأن يصبح هذا المغرب وهذا الشعب الأمين فريسة أقلية مارقة فاتنة مفتنة لا تحترم مقدساتها ولا قوانينها، بل كأنها اختارت الظرف لتقوم بما قامت به، ولا أريد أن أزيد في هذا الموضوع لأنني أخاف أن يخرج من فمي كلام لا يليق بأب حازم ورؤوف في آن واحد..."
إنها صفحة من تاريخ المواجهة بين الملك الراحل والمعارضة الاتحادية، والتي استمرت طيلة عقد الثمانينيات من القرن الماضي، ولم تخف حدتها إلا في منتصف العقد التاسع، وكان حضور ولي عهد الملك الراحل إلى افتتاح مؤسسة عبد الرحيم بوعبيد، إشارة قوية على بداية مرحلة جديدة، والتي تكللت بتشكيل حكومة التناوب في سنة 1998 بقيادة الاتحادي عبد الرحمان اليوسفي، حيث طويت صفحة المواجهات السياسية بين الطرفين، دون أن يطوى ملف ضحايا 1981، حيث كان على الجميع أن ينتظروا بدايات العقد الثاني من الألفية الثالثة، لكي تخرج أولى آليات العدالة الانتقالية إلى الواجهة، وتتأسس هيئة الإنصاف والمصالحة بقيادة الراحل إدريس بنزكري، للكشف عن العشرات من ضحايا 20 يونيو، ومنهم العشرات الذين ألقي بهم في القبر الجماعي بمقر ثكنة الوقاية المدنية بالدارالبيضاء... في 1981 كانت سقط المئات فكانت المأساة.
وفي 2004 فتحت القبور فكان الجرح. واليوم، ما يزال جزء من الجرح لم يندمل، حيث تنتظر عائلات خلاصات تحاليل الحمض النووي على الجثث، لمعرفة ذويها.